“تيار الوعي” من أصعب التيارات الأدبية في الكتابة لأنه يقوم على أساس “التداعي الحر”ولأن الوعي الخاص شئ ذاتي جدا وغير متوقف إطلاقا، فعندما تجد رواية لأديب شاب قد تمثلت فيها جميع خصاص هذا التيار فهو حدث جلل فعلاً.
هل شعرت من قبل بأن أغنيةً كتبت خصيصا لتكون عنوانا لرواية ؟! أغنية ” شفطة بن” لمصطفى رزق معبرة جدًا عن هذه الرواية، كنت أسمعها في ذهني طوال قراءتي: “ألاقيش معاك فكة اوجاع ؟! قال في ورق وكمان فضة ” ..
إنها أوجاع رجل أنهكه الشواش ، والمرض، وانسحاب الحياة من جوفه، وغياب الشغف عن المشهد !
تدور الرواية حول “عالم الرياضيات ” الذي يرقب كإله مل من العالم – كما عبر الكاتب – نهايته الصغرى بعدما أصيب بالسرطان بلا أدنى رغبة في المتابعة ، ويفكر في النهاية الكبري للعالم كأنه اختزل العالم بداخله، في الوقت الذي يجد فيه رغبة في الحياة يتجه بقوةٍ إلى الموت . عبر مونولوج داخلي وتداعٍ حر تماما .
” أنت ترياق أنت تضغط بالحدة على ألمي وأنا لا أدري” تخبط هذه الرواية قارءها وتوجعه بشعور مخيف بالفناء، تتخيل نفسك وقد بلغ بك الخواء لأن تتساوى في نظرك الحياة والعدم! يبرع في توصيف “الشواش” بداخلك ، لا يحدث كثيرا أن تقرأ نصًا “يخربش” في روحك لتتساءل أين هو الخلاص؟ من هذا النص ومن الشعور بالخواء الذي فضحه بداخلك؟
كانت ذكية جدا تلك الرواية في عرض نظرية الشواش التي هي من أحدث النظريات الرياضية الفيزيائية وتعرف أيضا بنظرية الفوضى وتقرر أنَّ بعض الأمور التي نراها مُختلطة وغير مترابطة قد تكون مُنظمة، وتسير حسب نَسَق مُحدد بعكس ما تبدو عليه ، فعلى حين كانت الرواية غير متتابعة في عرض أحداثها كانت منظمة جدا في ذهن الكاتب ففرض النظام على اللانظام والشواش .
تبدأ الرواية من نقطة معينة تمثل قمة الانفعال ثم يبدأ الكاتب في الرجوع للزمن الماضي عبر تقنية “فلاش باك” ثم يتقدم في الزمن .. مرهق جدا للقارئ الذي ينتابه حالة انفعال كاملة حتى انتهائه من قراءة النص محاولاً أن يعيد في ذهنه القصة كاملة ومرتبة .
يحول كتاب” تيار الوعي ” التركيز والاهتمام برصد العالم من الخارج إلى الداخل، لتجد أن لكل شخصية محورية أزمة تتجلي خلال متابعة السرد غير المترابط الكاشف عن عمق التجربة الإنسانية للشخصية، ولذا سنجد لدينا أن أزمة البطل تتجسد في شعوره بعدم وجود جدوى لحياته (الآن وعندما أجتر الذكريات أكاد لا أعرفني، أنا الإنسان الذي لا يعرف شيئا عن العالم ولا يهمه البحث عن معنى) (حياتي مخادعة تماما، مملوءة بالأشخاص ، الأحداث ، الأفعال ، لكنها خالية من كل معنى ) لن يتأتى ذلك كله للكاتب إلا إذا اختار شخصية محورية تتمتع بذكاء شديد ووعي عميق بالحياة حتى تتمكن من نقل ما في ذهنها وتبرز أزمتها ، ولذلك فليس مصادفة أن يختار الكاتب هنا عالما للرياضيات تغزو عقله الأرقام والمعادلات صباح مساء، في أوج وعيه بما يدور حوله وفي داخله، وعبر تكنيك المونولوج الداخلي يظهر لنا وعي هذا العالم الرياضي الداخلي بتجربته دون تدخل المؤلف بأي حال .
من المهارات الأساسية في روايات “تيار الوعي” والتي تجلت هنا بقوة مهارة التحرك بحرية في الزمن إذ نجد أنفسنا مع الكاتب في لحظة الحاضر ثم يتداعي فجأة إلى الماضي أو المستقبل المتخيل، فتشعر بأنه ” مونتاج زمني ، كما برز ذلك أيضًا في تعامل الكاتب مع الشخصيات الثانوية في الرواية وعلاقة الشخصية المحورية بها والتي لم يسمها الكاتب ربما لتعميق فكرة التداعي الحر وكأنه ليس هناك من يتحدث معه فيحدث نفسه كليا ، تلك الحالة التي يمكن أن تصفها جملة من رواية شوق الدرويش هي (الإنسان كائن وحيد مهما أحاط به ضجيج البشر لا يمشي معه درب وجعه سواه، أحياناً تكون عناوين مبتورة في حياة البطل ، وأحياناً أخرى تكون انعكاسا للصخب الذي يموج بداخله) .
في النهاية قد تحقق القراءة من التجارب ما لا يحققه لك غيرها، منذ وقت ليس بقريب وأنا أحتاج أن أسمع قصة شخصية فجاءت هذه الرواية مطابقة تماما لذلك حتى وإن كانت متخيلة ففيها جميع ما تمنيت، السرد غير النظامي أو لنقل تداعي حر لذكريات غير مرتبة زمنيا، جعلها أشبه بسماع “حدوتة ” من غريب في قطار، صخب داخلي ملقى على الورق ويعتمد العالم الخارجي كبرواز له .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كاتبة مصرية