شهيدٌ من دير متي* والزقورة وبطن الحوت..!

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

نعيم عبد مهلهل

 (( أحسبوه وطنا ...
وأنا أحسبهُ وجع القلب...
وفي الحالتين.
الخارطة واحدة.................!))

تقع الناصرية عند القصي البعيد في قبلة الشفتين لأن الآلهة صنعتها من الطين والغرام فقط وأوجدت على ثَراها الهواجس الخفية للموت والخلود ودمعة الرغيف النبؤات العريانة والنعسانة لصدى أغنية فرنسية يغنيها صابئة المدينة أحتفاءً برحيل النبي إبراهيم ( ع ) الى الأبد والترحال وكتابة رسائل الحب وبيانات الحروب ووصايا ملاك النور ( زيوا )* لأهل روما : أجعلوا المعدان من بعض أساطير الشوق عندما تملوا من كلام سقراط.!

هذا المكان المشتعل مثل لهفة أنطفاء الشموع قرب سرير جدتي ، وجدي بعد أن يكمل حنينه لزيارة قباب علي ، وليبدأ معها لحن الأشتياق وهو ذات الاشتياق الذي كانت عشتار تمارسهُ في لقطاتها السينمائية مع الاله تموز في افلام روجيه فاديم وهند رستم وعمتي رضية داعش مهلوس ، تلك المرأة الجنوبية القادمة من صرائف القصب وبلاطات ملوك الصين والتي مدحها ماركيز في وصيته الاخيرة : هذه المرأة السنونو التي تشبه دخان المارجونا وقبلات لسان الفراشات البرتقالية الرخامية وعجين خبز الطاك…موتي الاسباني سيكون هدية لها.!

أعبر بشوق الى ذلك التراب ، وتلك الوجوه التي كتب الفقر تحت أجفانها أجمل سمفونيات بتهوفن و( جبار ونيسة )* وأعراس بيوت محلة السيف ، فيسمعني صدى الذبحة الصدرية في جسد أبي قصائد سومرية معفرفة بنشيج الروح البافارية ، وفي ذات المساء راجع الطبيب : ليخبره أن دخان ( التتن* ) قد مزق رئتيك.

دمعة هطلت من ناطحات سحاب قلبه ، تمنى أن يعانقني غير أني كنت في جبهة الأهوار أحارب البعض والوهم واستمع الى جاك بريفر ، ولم اعرف أن أبي سيموت في ذات اليوم الذي عرف فيه أن رئتاه منخوبتين برصاص الاسى والعزلة والموت القدري لجياع البطون من أهل ميزوبوتاميا……!

مات أبي ، أستشهد في حرب السُعال والخبز والعوز وحنينه الى حفظ ملحمة جلجامش كما يلفظها المعدان بلهجتهم ، ولأنه كان أميا ، فضل ليتعلم اللاتينية ويحفظ الالياذة وقصائد الهائكو للشعراء المنسيين في امبراطورية الشمس في هيروشيما المنكوبة.

أستشهد أبي ، وأرتدتْ أمي سواد رايات الف عاشوراء ، وناحت كما ناح الحمام على أسوار بغداد عندما رأى المارنيز لايهتمون لمن يسرق متحف الوطن ويكسر تماثيله الكبيرة وأواني الفخار..

وظلت تعيش على ذكراه وتستمع الى قصائدي في رثاء الاب وقيصر وغراميات الحلم السحري لنهدي كليوباترا.

بين استشهاد أبي وأستشهاد الجنود المنتمين الى الناصرية وفراتها مسافة الزمن ودهشة مرايا الأميرات وعطر النازل من شهية الخد الى رحم الورد..وهي ذاتها المسافة التي مشاها الرحالة أبن بطوطة من طنجة الى مقام سيد احمد الرفاعي الشامخ بقباب الاحلام الصوفية في الصحراء بين العمارة والناصرية.

 ينزل مطب التخيل وأذهب الى معابد النمرود ، تسكنني روايات التوراة وهذا الهاجس المخيف في جعل حكمة السيف فوق حكمة قبلات الفم والأغاني ونعاس دجلة عندما يردد أناشيده الارامية والسريانية والمصلاوية امام قلعة باشطابيا ويحاكي مع احجارها حكايات التأريخ المهدم في ثنايا الحكايات والحصار وذلك العطر القادم من اوراق الزعفران في غابات الحدباء ، وليل مقاهي السرجخانه عندما كانت هناك مقاهي عتيقة لايُشغلُ صاحبها سوى اغاني حضيري وداخل حسن وجدتي مشهاية ، ومرات يسلبهُ الهوى في دهشة الحداثة فيرغمنا مع شوقه لنسمع اغنيات داليدا وأديث باف وفرانك سانتيرا والبتلز.

أتذكر البيتلز وبابليون والحاخامات الملتحين في انكسار المشي من اورشليم الى الحلة أيام قرر نبوخذنصر أن يجعل السبي واحدة من أحزان التاريخ اليهودي.

الآن داعش التي لم تسمع في يوم ما همسة واحدة من وتر كمان موزارت تعيد السبي بصورته الفنتازية ، وهي تعلن غيضها على اكداس الكوكا كولا في المخازن التي وجدتها في معسكرات الجنود المنسحبين.

يقول أبي شهيد دخان السيكارة : دخلت الينا الكوكا كولا بسحر الصيف في أرواحنا العطشى. الغريب فيها انها تقطع كل هذا الطريق بين تكساس وأور وتباع برخص.

يصفن أبي ويرتشف من القنينة جرعة تبهجه . فأتذكر جدي القادم من قرى المعدان المجهولة يوم لامس فمه قنينة الكوكا كولا …( تريع )* بصوت ازعج كل زبائن المقهى ، ولكي يتلافى ذلك ، قال: هذا هو رد فعل بورخيس يوم شربها أول مرة..!

يسكنني جدي الذي عرف أن سقراط والسمك الشبوط من خلية واحدة وصادهما معا في شبكته. السمك أبعد عنه الجوع وسقراط أبعد عنه الأسئلة التي كان اجدادنا في اكد ومدن السلالات يطرحونها وهم يتساءلون عن سر تعدد الآلهة فيما ابراهيم ع يقول لهم : أن هناك واحد لاغير عليكم أن تعبدوه.

أعود الى الموصل وأسال ذات سؤال ابراهيم ع : انكم تعبدون الهاً واحداً ولكنكم تتصارعون من اجل مدينة تتعدد فيها احلام البشر واعراقهم.

جامع لعلي ، وآخر للنبي يونس ودير متي الذي يؤدي فيه الرهبان صلاة يسوع. وبين الأديرة ومحاريب صلاة الملة والمذهب والمفخخات أبتعد واستعيد من وجوه أصدقائي الذين سرقتهم الحروب الارجوانية لتلك الامنيات المؤطرة بشجن العناق العاري لواحدة تثير فينا بهجتها الاندلسية او توقظ النعاس الاطلسي في ليل أغادير وباريس والشنافية.

أولئك الذين رحلوا بعربات من الكهرمان ، تملأ الشظايا اجسادهم ويتحول السائل المنوي في رغباتهم المكبوته الى ينابيع تنزل بشذى صلاة بوذية من أعالي الهملايا أو تهبط مع اقواس صباحات القزح واصوات شلالات نياجارا .

فيلفني صدى البكاء وأتخيل بلادي والمهرجات الصيفية في الغرب، الناس ترقص وأصدقائي يتحكم فيهم قدر القناص وكاتم الصوت والسياسي اللص والجنرال البشع ، وآخرون قد يقولون عنهم أنهم التابوه المقدس ، لهم تنحني جباه الفقراء وبالرغم من هذا هم لايفعلون شيئا :فالناس تموت بالعشرات كل يوم.!

يسكنني صوت أبي شهيد دخان سكائر ( الغازي )* (والتركي)* و( المزبن )* ..

 اتذكر ذلك البيت الشعري من قصيدة شعبية تقول : أيام المزبن كضن ، تكضن يأايام ( اللف )*.

أضحك : امي تحب ان تلف سكائرها بورق ( البافره )*، وأبي يحب أن يلف سكائره بورق ( الرشيد )* ، فيما يحب ضحايا الحروب من اصدقائي أن تلف أجسادهم بورق قصائدهم أو رسائلهم الى ذويهم ، وآخرون يتمنون أن تلف اجسادهم بورق هوياتهم المدنية ، وكأنهم يريدون إخبار ملائكة الله : جئنا اليكم ولم نتهنا بمزيدٍ من الحياة.

يبكي الملائكة ، الملكة البريطانية تبكي ايضا ، والفنزولية ملكة جمال العالم تبكي ، العصافير ، دمى الطين ، الثيران المجنحة ، قدح الشاي ، ووشم بين فخذ مستحمةٍ في الحمام ، سمراء من بنات محلتنا يسمونها ( بدرية الشهية ) لأن في نظرتها غزلاً لايطاق……..!

ونظرة شاكيرا وجينفر لوبيز وعمتي المندائية ( رشيكه زهرون أرحيم السهيلي) .

عمتي التي قد لايعرفها أهل نينوى وتلكيف وقرية بعذارا الايزيدية ، وربما الشبك لايدركون إن في صلاتها يستيقظ الف يحيى والف ذكر بط وألف عطر آس وألف قداس وألف قبلة خد..

هذه في معناها الروحي تتشابك مع دمعة نينوى وتأمل بوذا فيحدث توسونامي الذي يرتدي عاطفتي اليك وأذهب مخمورا الى قصيدة بلون مساحات العشب تحت أجفانك أنادم اللحظة الروحية في تاريخ هذا العشق منذ أن ابتدأ المندائيون تجوالهم الروحي الى مسافات الضوء والخليقة من الكحلاء حتى حقول سهل نينوى،  فيكتبني الشوق الى وطني كما يكتب الشاعر السومري نحيب قيثارته من اجل دلمون وبتول عينيكِ وتلك الطقوس الخضراء التي يمارسها فقراء الناصرية يوم تأتي النعوش محملة بشوق الزقورات وصلاة من دير متي وشهقة تطلقها أمي في نواح الصباحات الماطرة: طوبى للرحماء فأنهم يرحمون.

في السريالية تكتب الفكرة من خلال ضبابية المعنى وغموض القصد والذهاب إلى باطن الفهم في خضوع عدة تفاسير للمنتج الذي يقول عنه الشاعر اندريه بريتون وهو من منظريها : ( أننا نهذي كي نمسك موجة النهر بصورة جيدة .)

وحتما إمساك الموجة اصعب كثيرا من أن تمسك وردة ، لأن الماء يحتاج إلى تماسك ليقف ، فهو يمشي دائما في المتحرك الأبدي له ، وعليه فأن السريالية فن لخديعة الباحث عن الرغبة للتخلص مما نرثه ونبني عليه تجديدنا.

الغرابة في ممارسة مودة العشق هي شيئا من السريالية ، فواحدة تلتصق بك وهي واقفة لن تعطيك شيئا جديدا سوى أن فمك يصير لصيق فمها ويحدث الهمس وأشياء أخرى تشارك فيها الألسنة.

وهناك يبقى حزنكَ على هذا الموت المجاني في بلادك متنحيا في زاوية الصمت كأنه يسكن اقواس الصمت الزيرادشية في مهابة أن يكون المكان نهبا للجميع .

وآه لوضاعت بلادك في تلك الاسطوانات المشروخة : لننتمي الى القوي حتى يحمينا .

فألوذ هروبا من الواقع بايروتيكية الخيال واكتب بسذاجة من يحرب من ساحة الحرب خوفا على خواطر عشقه المدرسي ويكتب :

ليس هناك علاقة بين (المص والجص )*.فالأول هو طريقة شفط نمارسها في التقبيل أو سحب الماء من الأنابيب الخاوية بواسطة الماطورات الكهربائية ، وللمص مآرب أخرى منها أن نمتص غضب الآخرين ونهدئ من فورتهم بواسطة برودة الأعصاب وآخر أنواع المص هو ما أستعمره الاستعمار والساسة الفاسدون في امتصاص قوت الشعوب وثرواتها.

لكن اجمل صورة للمص تلك التي نرها في امتصاص النحلة لرحيق الورد ثم تحوله عسلا في شفاء ونفع وحلاوة لكل مائدة ، الرجل مع المرأة في ميكانيكية الفعل يفعل كما النحلة والزهرة .لكن لن يكون المنتج عسلا .

فربما من هذا الفصل يولد جنين ، وهذا جنين يكبر ويصير سفاحا وقاطع طريق وآمر خلية جهاد لقطع الرؤوس ، فيتحول هذا المشهد إلى نتاج لعاطفة إنسانية حميمة غير محسوبة النتائج فيما الحميمة القائمة بين النحلة والوردة واحدة لا تتغير.

فيما ( الجص ) يرتبط بسقوف البيوت التي كانت تأوي طفولتنا وتمتص منا نظرة الخجل إلى مشهد الآباء وهم يمارسون ما حلله الله لهم وعليهم. ولهذا يكتشف زائر الأقبية في مقبرة أور الملكية قدرة هذه المادة ( الجص ) على مسك الزمن وأبقاء الأثر مالكاً لبريقه الذي يمتص من الزائرين نظرات العجاب لأزمنة لم تهادن ولم تسقط في وحول المجانية ، ويوم هزمت أور في معركتها الأخيرة مع العيلاميين فضل آخر ملوكها المسمى آبي ــ سين أن يمتص دمعته من خلال رغبته أن لا يموت أسيرا ،فقرر أن يسكن الخنجر في خاصرته ويموت منتحرا.

لم يمت أي ملك بطريقة سريالية سوى آخر ملوك أشور المسمى ( ساردانابال ) الذي حين أحس بانهيار إمبراطورية أشور التي كان يقال عنها أنها واحدة من أقسى إمبراطوريات الشرق وقد حاصرت الأقوام الجبلية قصره ، قرر أن يحرق القصر بمن فيه وكان هو من الذين احترق مع اكثر من مائة جارية ومحظية وزوجة وحرس خاص. وفي متحف اللوفر لوحة للرسام العالمي ديلاركوا تجسد هذا الحدث بواقعية ولكن تعبيرا عن سريالية الفكرة وغرابتها ، وهناك بعض الملوك من يموت عشقا كما عند يوليوس قيصر الذي قتله هيامه بملكة مصر كيلوباترا.

أضع السريالية كحاجة لحضارة أتعبها هذا المشهد التقليدي الذي ظل يتراوح منذ خليقة آدم بين هاجسين لا غير ( الحب والحرب ) وعليهما تأسست كل القيم الحضارة بدءاً من الفلسفة وانتهاء بعقد الإيجار بين المؤجر والمستأجر.

وكان على هذه المدرسة أن تخرجنا من نمطية أن نخضع للقالب الذي يقودنا في أحيان كثيرة إلى السأم من الحياة وأقدارها ، فقد بدا لواضعي البيان السريالي أن المُعاش لم يعد بمقدوره أن يذهب بنا إلى ابعد ما فكر فيه غاليلو ، وتحدثت عنه نوازع  شكسبير في هاملت ، وإن بقي الحال على ما عليه سيرتهن الوضع بحروب ومشاكل لا تحصى وهذا ما حدث بالضبط…

بين السريالية وحياتنا التقليدية رابط نراه بالعين المجردة لكننا نتغافله ونقول نريد مجهراً لنراه…!

ماذا نرى ؟

نرى خيبة ضياع مدينة عظيمة ومقدسة ، نينوى حيث يطربني فيك صدى قهقهات اصدقائي في مرابد الشوق ، وحيث يتقافز في المخيلة المغتربة ظل الوجوه النحيفة لأولئك الذين كانوا يعتقدون أن القصيدة هي نينوى ، ونينوى هي القصيدة .

هي الفيجعة التي توجع الذاكرة كما كنت اتخيلها في واحد من النصوص القديمة :

هنا تداركت ما يحدث، فأخضعت الأمر إلى السحر الذي نملكه من جنوبيتنا، من الرقم المبعثرة في طرقات مقابرنا المقدسة: أور، اريدو، لكش، من تعاويذ إلهتنا ومن دموع جداتنا يوم دعين على طائرات الشبح لتتحول إلى بوم ينعق على شاشات التلفاز، ومن صمت أبي وهو ينظر إلى جسده العاجز، وقد لفته السنون الطوال وليرقد على فراشه القطني يتأوه من الألم، ومن أشياء كثيرة. ولد ذلك البريق الذي اخترق أسوار حصانتها، ولتمنحني كل شيء، ولكني أريد شيئاً واحداً. باريس حيث تقيم موناليزا وقصائد أول شاعر سومري وحيث تقيم أحلامي، والأفلام الخالدة لرومي شنايدر وكاترين دينوف وإيزابيل ادجاني وسيمون سونريه،وبعد هذا سأعود إلى أمي، وأقسم لها بتفسير الجلالين ومقام الخضر أنني لم أحتضن امرأة حتى مع تلك المرأة الهائلة التي أعجبتها سمرتي وغمزت لي بحاجبين من الشمع، وعندما سألت عنها قالوا: “إنها زوجة رئيس بلدية باريس”. فهربت مذعوراً لتتلقفني يد مضيفتي وتقول: “هيا، هذا هو اللوفر أمامنا، وبخطوات مرتعشة دلفت إلى الممر المرمري من خلال واجهة الزجاج المحصنة لتطالعني الوجوه ورسوم حية وميتة، سعيدة وحزينة. نصب واقفة وأخرى جالسة لتستريح من نظرات الزائرين مع حشد كبير من سواح يابانيين. أخذت بيد مضيفتي وتفرجت. كان كل شيء جميلاً وساحراً. وآثار بلدي بدت نظيفة ومرتبة حتى أن الكؤوس النذرية لم تزل تحمل بعض قطرات نبيذ ملوك سومر وبابل فيما ظلت طرية أجفان أميرات ومغنيات سومر وهن يرتدين الأثواب ذات الأكتاف العارية، وكان الدليل يشرح ويتحدث عن كل ما يملك من معلومات في ساعةواحدة. أما أنا فأستطيع الحديث سنة كاملة عن تلك الأشياء التي أيقظت في العالم الشعور بالحرية والحب والحرب أيضاً. كانت تنظر إلى عيني الغارقتين في المشاهد فتتلذذ بدهشتي وتشد على أصابعي فأصاب بنشوة رجولية عابرة أود بها أن أسحبها إلى زاوية مظلمة لأروي ظمأ الشوق لملاقاة أجدادي، لكني أتذكر زوجتي وأطفالي فيبرد الجزء الأسفل من جسدي وتتحول التي تعصر فيَّ أنوثتها إلى دمية. واصلت سيري مع شعور بالغضب من جانبها لأصل إلى الحدث المهم في سفرتي. إلى الجناح الخاص بالرسام ديلاكروا، وكنت قبله تأملت الموناليزا صديقة كل شاعر وعاشق في مدينتي، وتساءلت متعجباً كيف أعطى دافنشي ملامح خنزير أنثوي هذا الجمال البراق. وبدا لي أن ثمة خطوط لوجه رجل في عيون موناليزا. كانت الملامح للمرأة الفلورنسية حادة ومشحونة بأمور أخرى لكن العبقرية فعلت فعلها وحولت كل شيء فيها إلى مسحة من جمال غريب ونظرات تبدو في حقيقها شاذة وتنوم كل من يراها مغناطيسياً، وتجعله يهيم شوقاً، ويبدو لي أن زوج “جيوكندا” لم يكن يحبها كما أحبها دافنشي الذي خلدها في اللوحة فقط ولم يزعم أنها حضرت حفلاً لكونت أو عرضاً مسرحياً لمسرحية جوالة. المهم، دعونا من موناليزا ففي الجناح الخاص بديلاكروا اكتشفت متعة سفري فحال وقوفي أمام لوحته المسماة “ساردانابال” تلاشت كل رؤى التأمل التي كانت أيقظت حواسي المتعبة من الوقوف أمام طوابير الجمعية وتصليح دفاتر الإملاء لطلبة الصف الثاني الابتدائي. إذ ربطت ما رأيت بقصيدة بايرون عن اللوحة. وها هي في ذاكرتي قصيدة بايرون وعيني قاصة “موصلية” أبي، تعرفت إليها في “ملتقى قصة الحرب الأول”. وكتبت عنها أن هذه الآشورية كانت سمراء وقد أغرتني ابتسامتها ونظراتها المشفوعة برغبة التعرف إلى هذا الجنوبي القادم، وكان لا يحمل في حقيبته سوى خجله ومنشفة قديمة وأوراق بيض. حيث تذاكرت معها ليلة كاملة، وكنا نتحدث عن أصولنا رغبة منا في صهر الماضي في آنية واحدة، وفي استفساراتي اكتشفت أن للقاصة “ن” جذوراً سومرية وأنها بقية من أسلاف أتى بهم الآشوريون من الجنوب فكنت سعيداً، وقرأت لها قصيدة بايرون وقلت: “إن ساردانابال كان عليه أن يعيد أجدادك مع محظيات قصره وعائلته عندما قرر ترحيلهم إلى بابل عبر نهر دجلة، ورغم هذا وجدتك”.

تلك هي الحكاية التي تعاد اليوم بشكلها الداعشي ــ السريالي المجنون .

 كلا فلقد كان السرياليون يصنعون الجمال بفهم صعب التفسير ، لكن هؤلاء الملتحين بهوس تفسير الآيات بشكل لايتناسب تماما مع عولمة الدين والمتغيرات ، فيجعلوا التطبيق جاهليا ، متخلفا ، فيقتلون الناس لأتفه الاسباب والحجج ، فينعصر قلبي وأذهب حزينا الى القصيدة وعينيك .

أذهب تاركا نينوى مع مصيرها والأماني ان يعود فرسان المائدة المستديرة الى بهاء لحظة الرد واعادت تلك التوصيفات المدهشة لحروب الاساطير القديمة عندما كان فقراء سومر يقادون الى الحروب كي يصنعوا الغرام والمستحيل وهلاهل النصر.

أتخيل باريس في لوحة ديلاكروا ، أحزن عندما الملك الآشوري يحرق قصره وجواريه وجسده ، اطفاله ونساءه ومحظياته وزوجات الوزراء الهاربين الى اربيلا بباصات التاتا.

فيما بقي أولاد ( الخايبة )* وحدهم لاحول لهم ولاقوة يتأملون القصر المحترق ومعه تحترق قلوبهم والقراءات الخلدونية والصرائف ، وحتى أجفاف أحترقت سكن العمى المؤقت عيون الوطن الذي سمعناه ينوح ونحن في مدن الغربة ومن نواحه الكربلائي صنعهنا موسيقى الحنين الى نينوى والدير وصورة ابي الموجودة حتى اللحظة في غرفة الضيوف.

لأعود الى النص القديم في كتاب الذكرى وأنا اتخيل أول زيارة لي لباريس :

هذا هو اللوفر أمامنا، وبخطوات مرتعشة دلفت إلى الممر المرمري من خلال واجهة الزجاج المحصنة لتطالعني الوجوه ورسوم حية وميتة، سعيدة وحزينة. نصب واقفة وأخرى جالسة لتستريح من نظرات الزائرين مع حشد كبير من سواح يابانيين. أخذت بيد مضيفتي وتفرجت. كان كل شيء جميلاً وساحراً. وآثار بلدي بدت نظيفة ومرتبة حتى أن الكؤوس النذرية لم تزل تحمل بعض قطرات نبيذ ملوك سومر وبابل فيما ظلت طرية أجفان أميرات ومغنيات سومر وهن يرتدين الأثواب ذات الأكتاف العارية، وكان الدليل يشرح ويتحدث عن كل ما يملك من معلومات في ساعةواحدة. أما أنا فأستطيع الحديث سنة كاملة عن تلك الأشياء التي أيقظت في العالم الشعور بالحرية والحب والحرب أيضاً. كانت تنظر إلى عيني الغارقتين في المشاهد فتتلذذ بدهشتي وتشد على أصابعي فأصاب بنشوة رجولية عابرة أود بها أن أسحبها إلى زاوية مظلمة لأروي ظمأ الشوق لملاقاة أجدادي، لكني أتذكر زوجتي وأطفالي فيبرد الجزء الأسفل من جسدي وتتحول التي تعصر فيَّ أنوثتها إلى دمية. واصلت سيري مع شعور بالغضب من جانبها لأصل إلى الحدث المهم في سفرتي. إلى الجناح الخاص بالرسام ديلاكروا، وكنت قبله تأملت الموناليزا صديقة كل شاعر وعاشق في مدينتي، وتساءلت متعجباً كيف أعطى دافنشي ملامح خنزير أنثوي هذا الجمال البراق. وبدا لي أن ثمة خطوط لوجه رجل في عيون موناليزا. كانت الملامح للمرأة الفلورنسية حادة ومشحونة بأمور أخرى لكن العبقرية فعلت فعلها وحولت كل شيء فيها إلى مسحة من جمال غريب ونظرات تبدو في حقيقها شاذة وتنوم كل من يراها مغناطيسياً، وتجعله يهيم شوقاً، ويبدو لي أن زوج “جيوكندا” لم يكن يحبها كما أحبها دافنشي الذي خلدها في اللوحة فقط ولم يزعم أنها حضرت حفلاً لكونت أو عرضاً مسرحياً لمسرحية جوالة. المهم، دعونا من موناليزا ففي الجناح الخاص بديلاكروا اكتشفت متعة سفري فحال وقوفي أمام لوحته المسماة “ساردانابال” تلاشت كل رؤى التأمل التي كانت أيقظت حواسي المتعبة من الوقوف أمام طوابير الجمعية وتصليح دفاتر الإملاء لطلبة الصف الثاني الابتدائي. إذ ربطت ما رأيت بقصيدة بايرون عن اللوحة. وها هي في ذاكرتي قصيدة بايرون وعيني قاصة “موصلية” أبي، تعرفت إليها في “ملتقى قصة الحرب الأول”. وكتبت عنها أن هذه الآشورية كانت سمراء وقد أغرتني ابتسامتها ونظراتها المشفوعة برغبة التعرف إلى هذا الجنوبي القادم، وكان لا يحمل في حقيبته سوى خجله ومنشفة قديمة وأوراق بيض. حيث تذاكرت معها ليلة كاملة، وكنا نتحدث عن أصولنا رغبة منا في صهر الماضي في آنية واحدة، وفي استفساراتي اكتشفت أن للقاصة “ن” جذوراً سومرية وأنها بقية من أسلاف أتى بهم الآشوريون من الجنوب فكنت سعيداً، وقرأت لها قصيدة بايرون وقلت: “إن ساردانابال كان عليه أن يعيد أجدادك مع محظيات قصره وعائلته عندما قرر ترحيلهم إلى بابل عبر نهر دجلة، ورغم هذا وجدتك”.

تلك هي القصة ، خرجت من بطن الحوت ولكن على شكل نعش شهيد ، فلتأخذها مصممة لوحاتي تلك السومرية التي تشبه فتنة الياسمين في صباحات الشام وقضاء غماس ولتصممها غلافا لكتابي الجديد : دموع نينوى في آنية القبلة…

حتما ستجيد فيها لأني أعرف انها واحدة من صُناع دهشة اللون والمعنى في الفن المعاصر, ومعها سأكتشف الرؤيا المسكونة في فناجين العرافات ، ومعا نسجل ما تتلوا من نبؤات ومن صلاة وامنيات وبيانات..

أتذكر باريس ودير متي ، وأتخيل يونس مبتسما وهو يغادر بطن الحوت ويحط الرحال سالما في قرية تعدادها مائة الف تسمى نينوى…

الآن نينوى أهلها بالملايين لكنها منكسرة في أحتلال غريب عجيب ، مئات من الملتحين المخمورين بعقائدية زائفة ومتطرفة يكتسحون جيش سنحاريب ويحرقون مكتبة آشور بانيبال …

يبتسم النبي ويسأل :كيف يحدث هذا .؟

أرد : ولكنه حدث ، والتفاسير متعددة ، وبعضهم يعتقد أن السكاكين ستحز رقبته وهو لايريد أن يكرر مأساة رأس الحسين ع.

بين الرأس الشريف ونعوش الشهداء يتصاعد من حنجرة أمي نحيب موسيقى هندية ، وأبوذية تتغنى بنشيجها نساء قرى الأهوار.

أنهم يموتون هؤلاء الصبية ولم ينالوا بعد شهدا من نهد مغرم بحكايات شهرزاد ، لم ينالوا صوت زغاريد ليلة ( الكيف )* في عرس الدشاديش البيض ، والراقصون الغلمان يبتهجون في ساحة البيت والآلآت العازفة بأيقاعات صفائح زيت بطاقات التموين الفارغة.

ومع الطرب هناك الرصاص يسكن الفؤاد فيموت الويلاد ، وتحزن البلاد …وعلى صدى نبض قلبي أتخيل لحظتي وأنا اكتب هذا النص…

نينوى ، الناصرية ، زولنكن ، قرى الريف الروحي في ذكريات المسلات لملوك الوجه السومري والآشوري .

باريس ومهرجان كان …

الكل في بهجته …

لكن الدموع تهطل كمطر سمفونيي من سماء خيبة الوطن .

تهطل من عيون الحوت وملك الزقورة والشهداء ورهبان الدير…………!

ــــــــــــــــــ

إشارات :

          * دير مار متي : واحد من اشهر واقدم الاديرية المسيحية القائمة لحد اليوم        يقع  شمالي شرقمدينة الموصل بمسافة 30 كلم. أسسه القديس مار متي في  أواخر القرن الرابع الميلادي.

* الناصرية : المدينة التي ولد فيها كاتب المقال هذا .360 كم جنوب بغداد .وتقع قربها مدينة أور الاثرية 10 كم حيث ولادة النبي ابراهيم ع .

*زيوا : ملاك النور عند الطائفة المندائية ، يقابله في الأسلام جبرائيل.

*جبار ونيسه : مطرب عراقي ريفي شهير والذي أجاد غناء طور الصٌبي الذي يعد واحدا من اهم اطوار الغناء العراقي الريفي.

* التتن : بالعامية العراقية يعني التبغ.

* التريوعة : أخراج الغازات من البطن عند تناول المشروبات الغازية وهي عادة غير محببة عند كثير من الاقوام.

* الغازي والتركي والمبزن : من بعض انواع السجائر التي كانت موجودة في العراق منذ بداية القرن الماضي واختفت في سبيعينات القرن الماضي عدا المزبن وهي سجائر محلية رخيصة .ولكنها في طريقها للانقراض الآن وربما انقرضت.

* اللف : نوع من انواع السجائر يصنع بطريقة يدوية واغلب من كان يستخدمه الفقراء وابناء الريف النساء والرجال.

* البافرة والرشيد : وهو ورق ناعم وخاص يلف فيه التبغ لعمل سجارة بشكل يدوي .

*الكيف : وهو الحفلة التي يقيمها العريس قبل ليلة دخلته واغلب الراقصين فيها من الخناوات الذكور وكان هذا شائعاً في عموم مدن جنوب العراق ووسطه وانقرضت تلك العادة نهاية سبعينيات القرن الماضي.

 

مقالات من نفس القسم