هبة النواتي
أقيم في زاوية من هذا العالم المثقل بالألم،
في ظلِّ مشفى لا تُشفى فيه الأرواح،
حيث لا مسكن للأنين،
ولا راحة لِمَن أضناه المرض وتركه للقدر.
تتكور الآهات في زوايا الليل،
وكأن الرحمة هجرت المكان.
أغفو وأصحو على دعاءٍ متقطعٍ في حنجرة أمٍ راضية،
تُسلم فِلذة كبدها للسماء،
وعلى أختٍ تخبئ بكاءها في صدرها
كي لا يُنهك صدى صوتها قلوب الأحياء.
كلما جمعت شتات ذاكرتي الدراسية،
يمر موكبُ شهيد،
فأجلس لأصغي إلى تكبيرات الوداع،
إلى أبٍ يُقبِّل جبين ابنه مرددًا:
“الحمد لله، راضون يا رب”.
وإلى صديقٍ يحمل نعش رفيقه
كأنه يحمل العالم على كتفيه،
وآخرين يودعونه بقلوبٍ منكسرة.
أصحو على صوت عجوزٍ ترجو من يحمل صغيرها،
ذاك الذي لم يبقَ له سوى قلبها
الممتلئ حنانًا وقهرًا.
أصبحت الجدة أمًا ثانية،
وأصبح الحزن ضيفًا لا يرحل.
أكتب رسالةً تحفظ ملامحي حين يغيب وجهي،
رسالةً تكشف ما كان يسكنني من أحلامٍ لم تتحقق،
ومن رجاءٍ لم يقدَّر له أن يكون.
كل صباح يعيد الرواية ذاتها،
بالتفاصيل ذاتها:
صراخ، وداع، وثكلٌ لا ينتهي.
ولا جديد إلا وجع مستعاد،
ونحيب أمٍ لا يجف،
وطفولة تُسحق تحت أقدام الرعب.
أحلامي تُصارع معركتها
كما يُصارع المريض أنفاسه الأخيرة.
ترتجف من هدير الأباتشي الذي يشقُّ صمت الليل،
يزرع الفزع في قلب طفلٍ
لم يعرف من الحياة سوى هذا الصوت.
أكابد كل لحظةٍ أفقد فيها طَيب الحياة،
وأتساءل:
هل ستُمحى آثار كل هذا من أرواحنا،
ونبدأ حياةً جديدة؟
أم تُمحى آثاري أنا؟
هنا،
حيث الحلم عبء،
والحياة رهينة لحظة نجاة،
تنتظر أرواحنا إشارة كي تصعد إلى بارئها.
ومع ذلك، ما زلت أقاوم السواد بنقطة من نور،
أعلِّق الأمل على غدٍ
قد يحمل ما لم تحمله هذه اللحظة.
وأؤمن أن الله لا يخذل من سجد له من عمق الألم.
فهذا الألم شهادة حياة،
وكل دمعةٍ طوق نجاة.
……………
*شاعرة من غزة