.
سنة كاملة، أركض كالمحمومة.. أبحث جديًا عن أين ذهبت (أنا) التي أعرفها، التي لا أجدها إلا حين اقرأ واكتب واستمع للموسيقى -ربما سأخبرك يومًا ما أني فقدتني لفترة طويلة، ووجدتني حين وجدتك- .
يونيو..
كان الشهر الأول الذي استطعت من خلاله أن أستعيد جزئًا مني، ثم اكتشفت أن الاستعادة تطلب وقتًا أطول لترميم ماحدث، وكان الترميم هناك في (بليغ).
بالطبع سأشكر طلال كثيرًا، لأنه حين كتب رواية بهذا الجهد والبحث والجمال لم يكن بالتأكيد يعرف أني سأستخدمها لعلاجي الشخصي، وأني سأرمم كل الفوضى به وبسيرة بليغ.
كنت أجلس في مقهىً مفتوح النافذة، أستطيع أن أتلمس الهواء البارد من خلالها، وصوت صلاة التراويح من خلفي وفنجان قهوتي التي لم تكن جيدة كفاية، لكنها كانت قهوة وكان ذلك كافٍ كي أبكي. لأني لم أعرف متى سيتاح لي فرصة الجلوس هكذا مرةً أخرى، كنت أعرف أنها مرةً أتت بعد صبرٍ طويل، ولن تتكرر قريبًا – وهو ماحدث-.
” أيام ماكنت بشتغل على (ألف ليلة وليلة) رحت انفردت بنفسي في اسكندرية لأن النغمة كانت معصلجة معايا…”
كانت هذه الجملة حين تنهدت بقوة وعرفت سر تعلقي بهذا اللحن الذي انساب بثقة وهدوء إلى ذاكرتي الضعيفة.
بعد قراءتي لبليغ بأيام، حدث وأن التقيت طلال في ندوة مناقشة، وكنت قد قرأتها أصلًا من أجل هذه الندوة –أعني استعجلت قراءتها تلك الأيام- وحين التقيت طلال عرفت لم أحببت بليغ.
أعني أنه من الجميل أن نؤمن بالموهبة التي تشبه السحر، وتكتب الأدب بقوتها الطاغية. لكن الأكثر سحرًا هو أن نقف أمام ما قد يفعله الكاتب حتى يكتب عملًا يريد له أن يكون متميزًا، وراء هذا العمل جهدُ جهيد، وهو ما أسّرني للغاية. لأن ضمادتي الأولى كانت موسيقية ورقيقة.
ماذا قرأت في الفترة ما بين يونيو ونوفمبر؟
لا أتذكّر جيدًا، بذلت جهدًا حتى أتذكر، ثم تسائلت هل حين أنسى يعني ذلك أني قرأت فعلًا؟
مررت بروايات قصيرة، أملًا أن أتجاوز فترة الانقطاع الرهيبة وما تبعها من خيبة، لكن لا شيء.
قرأت (الكمنجة السوداء)، وأعجبتني، كانت مرعبة وجميلة كنفس حار يجعلني أثق أني لم أمت بعد، لم أعد كما أنا لكن هناك بعض الحياة بداخلي، ثم بعدها (ساعي بريد نيرودا)، كنت أقرأها صحبة صديقٍ جديد، كوسيلة جيدة للعودة لمصادقة الآخرين والقراءة، وكانت أيضًا جميلة، أسعدتني.
حين أذكرها الآن لسببٍ ما أشعر بالحر والعرق والصهد، وبالحب. أحاول تذكر الأحداث لكني لا أذكر إلا شبح ساعي بريد وجوابات، وشاعرُ ما وبعض الأشعار التي تجعل التنفس حارًا، وأمُ شريرة بشكلٍ ما، وفتاةُ عاشقة.. حسنًا يبدو وأني أتذكر بشكل ما، أذكر أني أحببتها واستعدت نفسي التي انطفأت سريعًا بعدها.
الكتاب الأهم كان (حاء- لبثينة العيسى)، ولأني أتحيز بلا حيادية تجاه كل ما تكتبه بثينة، فقد كان كتابها أحد الأشياء التي أبقتني مستيقظة، وغير خائفة، ومتعلقة بأمل خفي أن هذه الفترة ستمر، ولن تعود مجددًا.
كنت أحدد اقتباساتي مرةً بعد مرة، وخلال تلك الاقتباسات عرفت أني لن أبقى هناك طويلًا –وقد كان-.
“تعلمنا الدرس بصعوبةٍ وبكثير من الدمع يوم قلنا: هذا الواقع الهزيل، سوف نرممه بالقصائد، سو نحشوه بالفن، سوف نغمره بالمعنى.”
لكن بين تلك وتلك، الكثير من الكتب الصامتة، التي قرأتها بضع صفحاتٍ منها ثم تركتها وانسحبت بصمت، أخرجتها من مكتبتي، أنظر إليها واتسائل مالذي حدث؟ ولماذا لم يكتب لقصتنا مستقبل؟ وهل هناك فرصةٌ أخرى لنا؟
.
نوفمبر..
كان نوفمبر حين أدركت أني استعدت شهيتي وأني جائعة وأن لا أحد سيستطيع إيقاف هذا الجوع، مجهولُ ما اقترح عليّ رواية (Wonder)، والحق يقال حتى يومي هذا لم أعلم لم وثقت بمجهول، لكني حين ذهبت إلى المكتبة ورأيتها، لم أفكر كثيرًا وحملتها وخرجت.
هكذا ببساطة.
بعد أول صفحة، صفحتين، منتصف الكتاب.. عرفت أني وقعت مجددًا، وأني أستعدت ماكنت أفتقد، عندما حملتها معي هي وكشافي الصغير، إلى السرير وهو ما جعلني ابتسم بصمت وفرحة خفية.
ولأن البطل –طفل- والأحداث تليق بمهنتي، وجدتني أتسرب داخلها بهدوء، ابتسم وابكي واحتمي بكل تفاصيلها. أنا هنا رجاءً لا تتركوني مجددًا.
“When given the choice between being right or being kind choose kind“
هذه الرواية تشبهني/ تشبه حياتي، وفصلي وأطفالي، وتشبه صندوقًا كاملًا من الطفولة والإيذاء أغلقه جيدًا حتى لا يتسرب منه أي شيء، لكنه تسّرب بشدة داخل الكتاب، فبكيت.
بكيت الاختلاف، وبكيت الضعف وبكيت الخوف والخجل.
.
ديسمبر، ديسمبر، ديسمبر.
لا أعرف على أي حال سأكبر، على أي حال ستغدو سنتي الجديدة.
لكني أعرف جيدًا أن هذا الديسمبر لن يتكرر.
قبل بدء ديسمبر، وضعت نفسي في موقفٍ سخيف للغاية وعلى قدر سخافته على قدر ما جعلني أدرك بجدية من أنا، وماذا أريد، أو على الأقل مالا أريده. بضحكةٍ ساخرة، قلت: أريد كتابًا.
الجوع الذي انتابني على أثر تواجدي في موقفٍ مشابه، ذكرني بكل ما كنته وما أريد أن أكونه.
وكان هذا لقائي الأول ب(سنة القراءة الخطرة)، وفي الواقع عليّ أن أحادث آندي مرةً على الأقل، لأخبره كيف أنقذتني سنته الخطرة، من سنتي المليئة بالخيبات، أو ربما شكري يعود للمترجم؟ لا أعلم من السبب تحديدًا، لكن يبدو أن الحديث عن الكتب هو أفضل طريقٍ للعودة.
(أتعلمين، هنالك شيئان فقط يستحقان أن نتركهما خلفنا حين نغادر هذا العالم – الأطفال، والفن).
بشكل ما، أؤمن أني أترك ورائي أطفالًا في هذا العالم، حسنًا بقي الفن، بقي أن أنصت أكثر، واقرأ أكثر، وأحاول الكتابة من وقتٍ لآخر.
ميلر، يشبهني بشكل ما حين يتحدث عن الكتب، إنه لا يتحدث عن ملخصها أو مقاصد الكاتب، لكنه يتحدث ببساطة عن ماذا حدث حين اصطدم ما قاله الكاتب بحياته الخاصة، وهو ما أحاول فعله حين أتحدث عن كتبي.
(إنه صوت البشر، يخبرنا بشيء سخيف ومهم: سيظل العالم دائمًا على هذا الحال، إنها طريقته، وهذا ليس سببًا يجعلنا نستسلم ونتوقف عن محاولة جعله أفضل).
.
هناك جملة واحدة توقفت عندها وأوشكت على البكاء، “افتقدت السعادة البسيطة في الشعور بالصفحات المتراكمة في يدي اليسرى عند إمساكي بالكتاب”.
هذه الجملة في الصفحة 289 من أصل 326 صفحة، لذلك حين قرأتها كنت أشعر بالصفحات المتراكمة بالفعل، لكن في يدي اليمنى بالتأكيد لأني اقرأ بالعربية. لكنّ هذا ذكرني بمذا أفتقد، ولماذا لأ أحب الكتب الإلكترونية التي تسرق مني بهجة الصفحات المتراكمة، وصوت قلم الرصاص، وألوان علامات التحديد.
.
” في وسط وحشية الطبيعة، ينجح البشر أحيانًا (نادرًا) في خلق واحات صغيرة محمية بالحب. مساحات صغيرة، محصورة، مغلقة لا يحكمها سوى الحب والذاتية المشتركة.”
كان كتاب ملير البداية فقط، لأصبح أمام معضلة أخرى.
لا توجد كتب مناسبة! أصبت بالإحباط حقيقةً من إصدارات المكتبة القريبة، لا شيء مما أريده، لا شيء يستحق – لكني سأغفر لهم لأني وجدت ميلر وسنته الخطرة هناك-
لذلك حين أقول فيما بعد أن (مكتبة تنمية) أنقذتني، لن يعتبرني أحدهم أبالغ أو أسعى لدعاية ما.
كانت تلك اللحظة التي تلقيت فيها مكالمة ساعي البريد -مرتي الأولى التي أستخدم فيها ساعي البريد لنفسي- عرفت حينها حين أمسكت بالكتب لأول مرة، أن لا شيء سيعود كما كان.
لكن في الواقع كنت مازلت خائفةً، متوجسة أني قد أفشل مجددًا وأني سأضع الكتب في قائمة – توقفت عن قراءته- لذلك بحرصٍ اخترت أصغرهم.
(حكاية السيد زومر)
كانت صديقتي الصغيرة ذات الطاقة الزائدة التي تتقافز حولي ببهجة رغم حزنها قد اقترحته مسبقًا، لكني فشلت في قرائته إلكترونيًا، عرفت منذ أول جملة أني لن أتمكن من عقد علاقةٍ مثل هذه بمسافة كتلك.
“في ذلك الوقت، عندما كنت لا أزال أتسلق الأشجار…….”
هذه النوفيلا اللطيفة، كانت هديةً لطيفة بحق كنت أهرب من كل ما يمكن أن يبعدني عن الكتب وأتسلل بخفة لأقرأ، وحين بدأتها لم أستطع التوقف، لدقائق كنت أتوقف عند الرسومات اللطيفة التي تساهم في تدعيم خيالي حول ما يحدث.
لا تشبه شيئًا مما قرأته قبلًا، لكنها تشبه حديثًا لم أتمكن من خوضه بعد.. لذلك حين أنظر لغلافها المميز، أغمض عيني وأتخيل حديثًا وحكاياتٍ لم تحكى بعد.
.
كانت الثقة التي وجدتها في آخر صفحات حكاية السيد زومر، هو مادفعني للتسللل بهدوء إلى كتابي الأصغر الثاني.
(1900).
” لا تحلّ عليك اللعنة مادمت تحظى بقصّة حياة فريدة، وأحدِ ما ترويها على مسامعه”
أنا لا أقرأ قصةً شاهدتها من قبل، ظللت أردد هذه الجملة عدة مرات خائفةً من أن أفقد ثقتي وشغفي، وأعود لمنطقة الظلام مرةً أخرى.
لكني قرأتها، وفرحت.
لأني أملك قصصًا، هنا وهناك، تحدث كل فترة، ولأني أملك من يستمع لها.
لذلك حين كنت أستمع لعزف البيانو، وأغوص مرةً أخرى في القصة التي سرقتني مرتين.. كنت أعرف أن هذا ما كنت قد نسيته، وما لن أتخلى عنه مجددًا.
“لطالما أبهرتني سيرة اللوحات. تبقى معلقةً على الحائط لأعوام، ثم تسقط فجأة دون أن يحدث لها شيء. طج! تبقى هناك معلقة على المسمار، لا أحد يمسها، ولكنها في لحظة معينة، تسقط مثل الحصى….”
..
حسنًا، أنا لم أقل أني أعجبت للغاية بالترجمات السابقة، أعني بطريقة المترجمين. لا أعرف كيف يمكننا أن نحكم بشكل كامل على ترجمة أحدهم، لكني أحبها حين لا أدرك أني أقرأ نصًا مترجمًا، حين يغيب هذا الإدراك، أعرف أني أحببت المترجم.
لذلك، إلى/ محمد الضبع، نبيل الحفّار، معاوية عبد المجيد.
أنا ممتنة للغاية.
.
كان ذلك بالضبط حين نظرت بطرف عني إلى رواية (بثينة العيسى)، وقررت أني لن أبالغ وسأنام، ثم أقرأها أول شيءٍ صباح الغد.
.
أتدري متى عرفت بثينة لأول مرة؟
كان ذلك في ثانويتي، كنا نتبادل الكتب أنا وصديقاتي، وبين عدة روايات ساذجة كانت هناك بثينة وروايتها الأولى (ارتطامٌ لم يسمع له دويّ)، في ذلك الوقت بالتحديد عرفت أني أحببت من وراء هذه الصفحات.
من أجل هذا التاريخ أجد أن روايات بثينة توازي سنوات عمري، لأني توفّر لي قرائتها سنة إصدارها، لذلك أصبحت ورايات بثينة/ تواجد بثينة مرتبط بما يحدث لي، روايتها الأخيرة هي أحدث نسخة لندى التي أعرفها.
” يتذكر نفسه قبل سنوات، عندما كان يشك في صواب الصواب وخطأ الخطأ. اليوم، صار يشك في وجود الصواب والخطأ أصلًا..”
” عندما يصبح المرء غريبًا عن نفسه بالكامل، ينتصر النظام..”
في كل صفحة كنت أبتلع خيبةً خاصة، بعضها متعلق بي والبعض الآخر بالأصدقاء.
الصديق الذي شاخ في شبابه، والآخر الذي يستيقظ كل يومٍ آملًا أن لا يستيقظ.
وأنا، خيبتي الكبرى في الوطن الذي أخبرتني فيروز أن النسيم سيجيئ به، لكني وجدته غريبًا ووجدني غريبةً.
ربما لذلك أحب بثينة، لأنها تكتبني عامدةً كانت أو لأ.
حين أنهيت رواية بثينة، كانت نهاية اجازة الإسبوع، وأصبحت أنظر بعين ترف بين رواية سعود وبين خطة الإسبوع المعلقة، أفكر بالعمل المطلوب إنجازه وبين أنها أصغر من رواية بثينة في عدد الصفحات، وهو أمرُ مغري نظرًا للسرعة التي أنهيت فيها (كل الأشياء).
(حمام الدار).
” أغمض عينيه بشدة يتظاهر بالنوم. هو لا يريد لهذا الكابوس أن ينتهي. هذا شيءٌ يشبه الابتزاز! أن يصير لقاؤك بمن تحب في إطار كابوس، يعني أن تعقد صداقةً مع كوابيسك بصفتها أحلامًا”.
سأعترف أني لم أتوقع مطلقًا ما حدث في هذه الرواية، ربما لأني كنت عائدةً من رحلات واضحة وصريحة وكل الأشياء تسمي أنفسها بمسامياتها.
لذلك حين وجدت أني عالقةً بين حمامات وأفعى وعنزة.. تسائلت لفترة مالذي يحدث هنا بالظبط؟
ولم تكن ساعات العمل تسمح لي بالتأمل الكافي، لكني كل حينٍ أنظر لها خفيةً واتسائل من هذا ؟ وماذا يريد؟
وكان هذا السؤال هو الذي سمح لي بهذه الجولة الاستثنائية التي خلقها (سعود السنوسي)، لذلك أنا ممتنة.
.
أصبحت أستيقظ متسائلةً ما الكتاب القادم؟
الآن أنا في منتصف (بنات حواء الثلاثة) ل إليف شافاك.
أعتقد أنها ستسرق ما تبقى من ديسمبر، وأتمنى أن لا تفعل وأن أتمكن من قراءة البعض الآخر.
لكني مستمتعة للغاية بما يحدث داخلها من تفاصيل.
” ليس هنالك حكمةُ من دون حب، ولا حب من غير حرية، ولا حريةٌ مالم نتجرأ ونخرج عن النمط الذي آل إليه مآلنا”.
بطلة الرواية – حتى الآن- تائهة، لذلك هي تشبهني، وأنا فرحةُ بتيهتي معها.
ماذا أفعل إذًا بكتابتي بينما لم أكمل الرواية ولا الشهر؟
فالحقيقة لقد أغاظني –إبراهيم عادل- بشدة، وهو الشخص الذي لن أعّرفه لأن الجميع يعرفه، لكنه أغاظني بقوله أنه قد ولّى ذلك العهد الذي كنت أقرأ فيه واكتب.. فقررت أن اكتب، واكتب.
حتى أتأكد أني مازلت هنا، ومازال بعض النبض موجود رغم كل الفقد والخيبة.
..
شكرُ واجب،
لـ أحمد حوزة، فلا قيمة للحواديت مالم يستمع إليها أحد.
لـ أحمد جمال، الذي حادث ساعي البريد من أجلي بكل صبر.
ولـ خالد لطفي، الذي أنشأ مكانًا سحريًا يمكنني أن أجد داخله كل ما أريد.
ولـ بثينة العيسى، لأنها تنقذني كل مرة.
ولـ سعود السنوسي، لأنه فاجئني وأبهرني.
ولـ طلال فيصل، لأنه منحني حائطًا قويًا حال دون سقوطي.
ولـ محمد عيد، الذي يظن أني أصلح للكتابة رغم أي عطب.
ولـ مروة الإتربي، لأنها تصحبني في ندوات المناقشة.
ولـ أم كلثوم، لأنها تعرف كل مرةً ماذا أريد.
وللسيد زّومر، الذي يجعلني أكثر تعاطفًا مع ألم صديقي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كاتبة مصريّة