ممدوح رزق
أصبح الكاتب بالنسبة للقارئ الذي قرر التوقف عن أن يكون نسخة من القراء الآخرين هو الشخص الذي عاش تاريخًا مختلفًا، لم يختبره هذا القارئ، وأصبح (العمل الأدبي) هو أثر لهذا التاريخ، وبالتالي فإن كلمات مثل (رديء .. مقزز .. تافه .. ساذج .. سيئ .. سطحي .. قبيح .. خاطئ .. آثم) ليست أكثر من محاولة (القراء الآخرين) للثأر من هذا الأثر .. من اختلاف تاريخ كل منهم عن تاريخ الكاتب الذي أنتج هذا النص، وأن هذه الرغبة في الثأر لا علاقة لها بالعمل الأدبي بل مرتبطة باحتياج صاحبها لرفض الآخر .. لإلغائه .. لعقابه على وجوده، وأن التجرّد من هذه الرغبة سيستبدل الكلمات الانتقامية السابقة بلغة أخرى تعبّر عن عدم القدرة على إنشاء علاقة مع النص، أو عدم الاقتناع بما يتضمنه هذا العمل، أو عدم التوافق، الانسجام، التفهّم لما يبدو أن هذا الأثر يتبناه أو ينحاز إليه.
يعرف هذا القارئ أن الفرق بين هذا وذاك ساطع للغاية، لأنه نفس الفرق بين (كيف تجرؤ على أن تتعامل مع آلامك بهذه الطريقة؟) وبين (لا يمكنني أن أستوعب الكيفية التي تنظر بها إلى آلامك) .. يعرف هذا القارئ أيضًا أنه لو قرر أن يكتب ذات يوم فإنه لن يتمنى أن يحاول أحد ما أن (يُحاكم) النص الذي يجسّد جروحه الشخصية بأي شكل لمجرد أن الآخر لم يجرّبها، ولا يستطيع إدراكها، أو لأن هذا النص يخالف ما يعتبره هذا الآخر شروطًا إنسانية وجمالية مطلقة على الجميع أن يخضع لها .. ما أكتبه الآن ينطبق أيضًا على (الشاعرة أماني) التي لم أصادف أحدًا لم يسخر منها بعد نشر نص لها في إحدى الصحف اسمه (تبا لك)، وهو نص متخم بالأخطاء الإملائية والنحوية فضلا عن الخلط بين الفصحى والعامية .. نعم، ضحكت حينما قرأت هذا النص، وما زلت ابتسم حينما أتذكره، تلك الابتسامة التي تمثل المستوى الأدنى من الضحك الذي مر عليه وقت طويل، لكنني لم أسخر منها .. كانت ضحكات الفرجة على مشهد كوميدي لا تحمل أي قدر من النقمة تجاه صانعه .. أنا لا أعرف (الشاعرة أماني)، ولا أعرف ما مرت به في ماضيها الخاص جعلها تكتب هذه الكلمات وبهذه الصيغة، ولا يحق لي أن أعتبر نفسي إنسانًا أفضل منها بحيث أضع حياتي موضع الوصاية على حياتها، ولا يحق لي أيضًا أن أحوّل تفضيلاتي الجمالية إلى معايير متسلّطة لإدانتها حتى لو كانت قواعد اللغة العربية ذاتها، كما يجب أن أشير فقط ودون أي تعليق إضافي إلي أن كل مفردات التهكم الجماهيري الذي استهدف هذه الكاتبة المغمورة يتم توجيهها إلى كتّاب آخرين في مناسبات مختلفة ـ كالحصول على جوائز الدولة مثلا ـ والمفارقة ـ الهزلية والمضحكة بحق أكثر من أي شيء آخر ـ أن هؤلاء الكتّاب يشاركون دائمًا في حملات السخرية ممن يشبهون (الشاعرة أماني).
هذا هو الفرق بين أن يتحدث هذا القارئ عن خبرة مر بها مع كتاب ما بطريقة، وبين أن يتحدث عنها بطريقة أخرى .. بين أن تكون ذائقتي هي اليقين المطلق، وبين أن تكون هي ذائقتي فقط .. بين أن يكون شكسبير مخطئًا، وبين أن يكون شكسبير شخصًا مختلفًا عني .. بين أنني لم أنجح في (استهلاك) روميو وجولييت، وبين أنني لم أنجح في (إعادة انتاج) روميو وجولييت.
تقول (نادين جورديمير): (لقد كنا جميعًا قبل أكثر من عشرين عامًا، مدوّخين أو مرتابين (أو كلاهما معًا) باكتشافات البنيوية وتحليلها لإبداعنا وعلاقتنا بالقارئ، وبدت الشروحات الفرويدية التي تحمس لها بعضنا بسيطة ومتوقعة بالمقارنة بها. لقد كان اللاوعي جوهريًا على خلاف المنهجية الدقيقة لعمل مثل، لنقل كتاب س/ ز لرولان بارت، الذي نشر عام 1970 بناء على عمل أنجز في الستينيات، والذي تحول فيه التركيز الكامل من الكاتب إلى القارئ. لقد كان هدف بارت “نفي صفة المستهلك عن القارئ وجعله منتجًا لنص يمكن قراءته وليس كتابته”. لقد أعيد تعريف الرواية والقصة القصيرة والقصيدة على أنها “مجرة من الدلالات”. لقد كان إيمان بارت بالقراءة، كما لخصه ريتشارد هاورد، بأن “ما يقص هو نفسه عملية القص دائمًا).
ربما حينئذ سيفكر هذا القارئ الذي قرر التوقف عن أن يكون نسخة من القراء الآخرين كثيرًا ـ وبطريقة لا تخلو من السخرية ـ في أحد أشهر مدوني فيسبوك، وصانعي الكوميكس، والذي استغل حسابه صاحب الجماهيرية الهائلة في دعوة متابعيه لإعطاء أحد الأفلام العربية التي لم تعجبه تقييمًا قليلا جدًا على موقع قاعدة بيانات الأفلام الأمريكي الشهير Imdb، وهو ما استجاب إليه الآلاف، فتهاوى تقييم الفيلم على الموقع بعد أن كان في مرتبة مرتفعة بجانب أفلام عالمية شهيرة .. ربما سيفكر أيضًا في الكثيرين الذين يمتلك كل منهم حسابات مزيفة على جودريدز، ويقوم برحلات منتقاة عن طريقها إلى صفحات الأعمال الروائية لإعطاء نجمة واحدة في تقييم كل منها كي يُخفض مستوى التقييم العام لها .. ربما سيفكر أيضًا في أن آلافًا من القراء الأصوليين ـ القابلين للتزايد طوال الوقت، ودون حاجة لحسابات مزيفة ـ لو قام كل منهم في نفس اللحظة ـ وهو احتمال ليس فانتازيًا ولا مستبعدًا مقارنة بكافة الغرائبيات الصادمة التي تتعاقب على نحو بديهي ـ بإعطاء نجمة واحدة لروميو وجولييت لأصبحت هذه المسرحية “بالغة السوء” لا لشيء إلا بفضل هذا القصاص الأخلاقي، وستكون هذه هي (حقيقة) المسرحية على موقع جودريدز التي تطمس أي حقائق أخرى .. ربما سيفكر أيضًا أنه ما كان هذا ليحدث لو كان لكل قارئ صفحته الشخصية التي لا تُفضي إلى صفحة المسرحية؛ أي الصفحة التي لا يكون لها (سلطة) على الكتاب، وفي نفس الوقت توفر بهذه الاستقلالية حماية للقارئ بأن يظل محتفظًا ـ بشكل أكبر ـ بإمكانية العودة والتفكير والتراجع والتعديل وإعادة الكتابة دون أن يحرمه إغراء المشاركة في إنتاج حقيقة تتجاوز نطاقه أو الانتماء إلى قرار عام يتخطى فرديته من هذه العودة.
لكن ربما يكون أهم ما قد يفكر فيه هذا القارئ الذي قرر التوقف عن أن يكون نسخة من القراء الآخرين أنه ـ حينما أصبح كذلك ـ قد أعطى ردًا عمليًا على العجرفة السخيفة لـ (أمبرتو إيكو) في انتقاده لشبكات التواصل الاجتماعي التي ـ بحسب تعبيره ـ تمنح حق الكلام لفيالق من الحمقى .. ذلك لأنه أدرك بأن انعزال الفضاء الشخصي عن اليقين المطلق بوجود مساحة أكثر خصوصية، أقل إدعاءًا للشمول أو الهيمنة، هو أكثر تحريضًا على (الإبداع) دون التورط في اللمعان الزائف للتواطؤ كقانون جماعي، والذي يحرّض على الاستغناء عن ما عداه.
إن (البلاهة) التي وصف بها (إيكو) مستخدمي الإنترنت لا تتعلق بالبشر أنفسهم، وإنما تكمن أولا وأخيرًا في السياقات المتعسفة التي يُدفعون إليها .. الآليات الناجمة عن الانتهاز الرأسمالي حيث (القارئ الذي يطالع كتابًا) هو (بضاعة تستخدم بضاعة)، وينبغي تسيير هذه العلاقة في خط انتاجها المادي الحديث أي آلة الاستهلاك التي تعطي النتيجة بالنجوم تحت إغراء أن يكون القارئ وصيًا على السلعة / الرواية، مشاركًا في قدرها، وهذا على حساب (صيرورة) الرواية أي حركتها المستمرة، وبالتالي على حساب تحولات هذا القارئ الشخصية داخل هذه الصيرورة .. إن القارئ في وضعيته الأبوية يتحوّل من شخص يمكنه الاستجابة في لحظة غير متوقعة للجدل مع منظور خاص، ولإمكانية التغيير الفردي، ولإعادة ترتيب عالمه بتهديد أقل إلى ذات عارفة .. ذات محصنة، منفصلة عن ذاكرة سبق حسمها، لا تخطئ، وبالتالي لا مبرر لديها للتراجع، مخدوعة بوهم القوة التي حازت عليها بالتوحد مع الذوات العارفة للآخرين المقررين لحقيقة كتاب.