شعرية قصيدة النثر نموذج تطبيقي على قصيدة لوديع سعادة

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

د. عماد عبد اللطيف

تراكمت عبر العقود الست الماضية تجارب ثرية في قصيدة النثر العربية. يقدم هذا المقال تجربة في تحليل إحدى هذه القصائد. فسوف أحاول فيما يلي أن أكشف عن مكمن شعرية نص جميلٍ من نصوص قصيدة النثر أبدعه الشاعر اللبناني وديع سعادة بعنوان "حياة".

            حياة

   كانَ، تقريبًا، ُيَبِّددُ الوَقْتَ

رَسَمَ إناءً

رَسَمَ زهرةً في الإناء

وَطَلَعَ عِطرٌ من الوَرَقَةِ،

رَسَمَ كُوبَ ماء

شَرِبَ رَشْفَةً

وسَقَى الزًهْرَةَ،

رَسَمَ غُرْفَةً

وَضَعَ في الغُرْفَةِ سريرًا

وَنَام

... وحينَ اسْتَفَاقَ

رَسَمَ بَحْرًا

بَحْرًا عميقًا

وغَرِق

عنوان القصيدة

 تنحصر القصيدة بين اسم هو عنوانها وفعل هو خاتمتها؛ المفتتح “حياة” والخاتمة “غرق”. المفتتح اسم نكرة قد يكون مبتدأً خبره محذوف أو خبر لمبتدأ محذوف. والحذف انفتاح للمعنى، فنحن مدعوون دائما لتخيل بديل لما هو محذوف. ولأننا متعددون ومختلفون فإن ما سوف نقترحه سيتعدد وسيتباين. وليس هناك خطأ وصواب. في الشعر كل شئ محتمل. فنحن- قراء القصيدة-من سوف يعطيها معناها. ليس هدفنا هو الحصول على معنى وحيد للقصيدة، أو المعنى الذي أراده المؤلف، إن هدفنا هو الحصول على أكبر قدر من المعاني نستطيع أن نستخلصه من القصيدة. وهكذا يمكن أن يرى قارئ أن كلمة “حياة” خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هذه، ليكون العنوان “هذه حياة”، أو: الرسم، ليكون العنوان “الرسم حياة. بينما يمكن أن يقترح قارئ آخر أن كلمة “حياة” مبتدأخبره محذوف تقديره: جميلة، أو متخيلة، أو مأساوية. أو تكون كلمة حياة مضافة إلى كلمة مثل رجل أو زهرة، ويكون العنوان هو “حياة رجل”، أو ” حياة زهرة”. إن ما يفعله كل من هؤلاء القراء حين يقدم اقتراحا ما هو المساهمة في تكوين المعاني المحتملة للقصيدة. ثم يمكن للمرء بعد ذلك- إن أراد- اصطفاء أحد هذه المعاني ليكون “معنى القصيدة”. إن الشاعر يمنحنا فرصة عظيمة لخلق معانينا.

  لقد ترك الشاعر كلمة “حياة” حرة من كل تقييد؛ لتفيد عموما مطلقا دون قيد زمان أو مكان أو هيئة. وعلى العكس من ذلك كان فعل الخاتمة محددا؛ فإذا كانت الحيوات متعددة فإن الغرق واحد، وإذا كانت الحياة مصدرا غير محدد الفاعل أو الزمن فإن “غرِق” محدد الزمان (الماضي)، و محدد الفاعل( هو). الحياة “محتملة” أما الغرق فهو “يقيني”. وما بين الحياة والغرق تعيش القصيدة.

 إن عنوان القصيدة ينشط توقعاتنا فيما يتعلق بموضوع القصيدة، وطبيعة العالم الذي تقدمه. هذه التوقعات تتشكل نتيجة عملية ملء فراغ المعنى الذي يحدثه وجود اسم مفرد نكرة لا يتعلق بشئ. وعبر قراءتنا للقصيدة سوف نعدل توقعاتنا ونكيفها حتى نصل إلى – ما نراه- دلالة لعنوان القصيدة.

عالم القصيدة

 عبر الرسم يخلق المروي عنه كونه. عبر الرسم يمتلئ العالم الخاوي بالموجودات. يبدأ فعل الرسم دوما بالأوعية/ المكان: الإناء وعاء للزهرة، الكوب وعاء للماء، السرير والبحر وعاء  للمروي عنه. في القصيدة أشياء مفتوحة وخاوية تنتظر الامتلاء. وفيها فضاء واسع يشمل الجميع؛ هو الورقة، وأداة للخلق؛ هي الريشة أو القلم. للمروي عنه قدرة تشكيل العالم، لكن أداته ليست اللفظ بل الخط؛ إنه لا يخلق الأشياء عبر تسميتها، أو عبر فعل الأمر “كن”، بل يشكلها عبر رسمها، يمنحها وجودا أيقونيا، وسرعان ما تتحول الأيقونة إلى كائن فعلي يتحرك بمعزل عن صانعه. في القصيدة يتعمد الشاعر محو ما يشير إلى عملية اكتساب رسوماته للحياة؛ كما لو كان اكتسابها للحياة أمرا بدهيا لا يتوقع أن يحدث غيره. فما إن يرسم الزهرة حتى يطلع عطرها من الورقة، وما إن يرسم الكوب حتى يروي منه ظمأه، وما إن يرسم السرير حتى ينام عليه، وما إن يرسم البحر حتى يغرق فيه. إنه عالم يتشكل بسلاسة لا متناهية وفق إرادة المروي عنه، وعبر تآلف ومشاركة من أشياء العالم التي تمنحه ما يريد بمجرد أن يمنحها الحياة؛ أي بمجرد أن يرسمها. إن كلمة“حياة” التي عنون بها الشاعر قصيدته لم تُذكر في القصيدة ولو لمرة واحدة، ومع ذلك فهي موجودة في كل فعل للرسم؛ فما إن يرسم المروي عنه حتى يمنح حياة. إن العلاقة بين الرسام والمرسوم لا تقتصر على هذا البعد. فإذا كان الرسام يمنح الأشياء حياتها فإن الأشياء بدورها تمنحه حياته، لأن حياته داخل القصيدة لا توجد إلا عبر الرسم، فهو يرسم ليستطيع أن يشرب، وأن ينام، وأن يشم عبير الزهور. لكن العلاقة بين الراسم والمرسوم تنطوي على الموت أيضا؛ فالمرسوم الذي يمنحه الراسم الحياة هو نفسه الذي يسلب الراسم حياته، فالمروي عنه يغرق في البحر الذي قام هو ذاته برسمه؛ أي بإعطائه القدرة على أن يكون بحرا حقيقيا يغرق فيه البشر.

لا تحضر الحياة عبر مسببها فحسب – أي فعل الرسم- بل عبر نقيضها كذلك – أي الموت- الذي ينطوي عليه فعل الغرق. والموت ليس نقيض الحياة فحسب، بل إنه خاتمتها، فليس بعد الحياة إلا الموت. والقصيدة التي يعلن عنوانها مولدها، أي بدء الحياة، تنتهي بخاتمة الحياة ذاتها، أي الموت.

الصورة الشعرية

 تكاد القصيدة تخلو من المجازات التقليدية مثل التشبيه والاستعارة والكناية التي تؤسس للخيال الشعري. ومع ذلك فإن قارئ القصيدة سوف يؤكد أنها مغرقة في الخيال. فكيف نفسر ذلك؟

حين نقوم بتحليل مجازات قصيدة ما فإن المعتاد هو أن نربط عالم القصيدة بعالمنا المعيش، وبتصوراتنا الذهنية عن الأشياء. وهي تصورات مجحفة لكائنات الوجود، خاصة مجرداته، ومتحيزة بشدة للإنسان. فإذا قال شاعر “صرعني الخوف، وأنقذني الأمل” قلنا: توجد استعارتان مكنيتان جعل الشاعر الخوف في الأولى إنسانا يقتل، وجعل الأمن في الثانية إنسانا يُنقذ، وكأنه لا يصرع ولا ينقذ إلا الإنسان. ثم أي إنسان هذا الذي يكون في بشاعة الخوف أو روعة الأمن؟ إننا حين نجعل الخوف إنسانا نكون كمن يحول أسود الغاب إلى دمى. أي شئ أكثر توحشا وضراوة من الخوف؟ ليس إلا الخوف ذاته. أي شئ أروع وأجمل من الأمن؟ ليس إلا الأمن ذاته. حين نقول إن الشاعر جعل الخوف أو الأمن إنسانا نكون قد أضعنا أثر القصيدة وأجهضنا معناها.

لقد اعتدنا أن نفكك القصيدة إلى تشبيهات واستعارات وكنايات مستقلة بهدف قياس عالم القصيدة إلى عالمنا وتصوراتنا التي نعيش بها، وما شذ عن القوانين التي وضعناها لهذا العالم اعتبرناه مجازا. وبذلك يتسرب من بين أيدينا العالم الذي تسعى القصيدة لإنشائه، وتضيع منا فرصة مشاهدة عالم القصيدة في مواجهة عالم الواقع.

تقوم قصيدة “حياة” على خلق عالم خاص بإزاء العالم الحقيقي الذي نعيشه. إن عالم القصيدة له منطقه وقوانينه المغايرة لعالمنا الذي نعيش فيه. ففي عالم القصيدة تستمد الكائنات حياتها بالرسم. أما في عالمنا المعيش فتستمدها عبر التناسل أو التكاثر أو ” كن” الإلهية. وعلى ذلك فإن جميع الأفعال داخل القصيدة حقيقية، فالوقت الذي يبدَّد ليس هو الوقت المعنوي الذي نعرفه، والذي إن صادفنا في قصيدة أخرى مع الفعل “يبدد” نقول إنه توجد استعارة مكنية. كذلك الورقة التي طلع منها عطر الزهرة؛ ليست مجازية في شئ. إنها حقيقية تماما في إطار العالم الذي تقدمه القصيدة.

الإيقاع

إن التنظيم الصوتي للقصيدة يتكون بواسطة وسائل متعددة منها الوزن والقافية وتكرار البنى الصرفية والنحوية والمحسنات البديعية الصوتية مثل السجع والجناس والترصيع…إلخ. ولا ترتبط قيمة الشعر باستخدام كل هذه الوسائل؛ وإنما يختار الشاعر ما يراه ملائما لبناء قصيدته، ومتسقا مع إدراكه للعالم الذي يعيش فيه، فالشاعر الذي لا يستخدم الوزن والقافية ربما يسعى إلى تكوين إيقاع خاص به لا يشاركه فيه غيره. إيقاع يتشكل مع القصيدة وليس سابقا عليها. إيقاع يطاوع الشاعر ولا يفرض عليه ما لا يريد.

تخلو قصيدة “حياة” من الوزن والقافية. تستمد القصيدة إيقاعها من عدة ظواهر؛ الأولى هي تكرار المفردات. فعلى سبيل المثال تكرر الفعل “رسم” خمس مرات في القصيدة، وفي كل مرة كان يمثل مفتتحا للكلام. وقد اقترن تكرار الفعل “رسم” بتكرار البنية النحوية للجملة التي يكونها، والتي تتشكل من (فعل ماضي+ فاعل مستتر تقديره هو+ مفعولبه)، وهو ما يعني وجود إيقاع مصدره تكرار الصيغ الصرفية المكونة للجملة بالإضافة إلى الموقع النحوي لمكوناتها، وفوق ذلك التكرار اللفظي للفعل “رسم”.

  تتكون القصيدة من أربع عشرة جملة، جميعها جمل فعلية، وجميعها عدا واحدة أفعالها ماضية، جميعها مسند إلى ضمير مفرد للمذكر الغائب، والضمير لا يعود على مذكور داخل القصيدة. الأفعال الماضية جميعها ثلاثي إلا واحدا، وجميعها يأتي في مفتتح السطر الشعري، وجميع الأسطر الشعرية تبدأ بفعل ماضي إلا واحدا. نحن أمام بناء إيقاعي مشيد ببراعة يكاد يتكون من تنويعات معنوية على جملة نحوية وصرفية واحدة.

علامات الترقيم

 قصيدة حياة كلها جملة واحدة متصلة، توازي حياة واحدة متصلة. تُفتتح القصيدة بالفعل “كان” وتنتهي بالفعل “غرق” الذي تتلوه نقطة تعلن انتهاء الجملة/الحياة. والقصيدة/الجملة ليس فيها إلا فاصلتان وثلاث نقاط متتابعة. العلامات الثلاث تقوم بدور مفاصل بين أجزاء متتابعة من القصيدة، توازيها مراحل متتابعة من الحياة؛ الفاصلة الأولى والثانية يفصلان بين المقاطع الثلاث الأوَل من القصيدة، والتي يبدأ كل منها بالفعل” رسم”. بينما توجد النقاط الثلاث في مفتتح المقطع الرابع والأخير. للفاصلة دور مزدوج؛ إنها تفصل بين مكونات جملة أو فقرة في الوقت الذي تؤكد فيه اتصالها. وهكذا تكون الفاصلة واصلة في الوقت ذاته، إننا نفصل بين مراحل حياتنا فنقول: الطفولة، والمراهقة، والشباب…، بينما الكل واحد متصل. أما النقطة فإنها انقطاع بلا وصل، النقطة في القصيدة تمثل الانتهاء.

إذا كانت الفاصلة مفصل بين أجزاء الجملة المكتوبة فإن النقاط الثلاث تقوم بدور الإشارة إلى جزء محذوف من النص. تختلف طبيعة هذا الجزء المحذوف وأسباب الحذف من موضع لآخر. ويقع على القارئ نشاط تقدير الجزء المحذوف وتخمين علل حذفه. النقاط المحذوفة تمثل دعوة مباشرة من الشاعر للقارئ للمشاركة في إكمال بناء القصيدة. النقاط الثلاث التي تسبق المقطع الأخير للقصيدة قد نرى فيها دلالة على امتداد فعل النوم الذي ختم به الشاعر المقطع السابق، وإشارة إلى استغراق المروي عنه في هذا الفعل زمنا طويلا. وقد نرى فيها إشارة إلى أحداث أخرى وقعت للمروي عنه ولم يذكرها الشاعر، وإن كنا نستطيع تخمينها من استخدامه للفعل “استفاق” بعد “نام”. إن ما يتبع النوم هو الاستيقاظ وليس الاستفاقة. الاستفاقة تتلو الإغماء أو الغيبوبة، فهل تعرض المروي عنه للإغماء أو الغيبوبة فتكون النقاط الثلاث إشارة إلى ما حدث؟ أم أن نوم المروي عنه هو ذاته إغماء وغيبوبة؟ إن كل تفسير ينتج تقديرا مختلفا لما تشير إليه النقاط الثلاث.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

نشرت هذه الدراسة بمجلة “إبداع” القاهرية عام 2010

مقالات من نفس القسم