سنكون مساكين حقاً إذا اضطررنا – كما أفعل الآن – إلى تكرار السجالات المعهودة والقديمة حول جدلية الفن والواقع، حول الحراك السياسي والحراك الجمالي… ليس فقط لأن الواقع يجدد نفسه، ولا تشبه أحوالنا في هذه الأيام بأي درجة أيام الستينات – مثلاً – ودعاوى تبسيط الأدب والتعبير عن المواطن العادي، إلخ… ولكن كذلك وبالأساس لأن أطروحة الواقع نفسها لم تعد لها ذلك الجلال والمتانة، صارت هشة كغزل البنات، يذوب على اللسان أو تحت نور الشمس… ما الواقع؟ أهو صنيعة الوعي أم أن الفصل بين المفهومين لم يعد ممكناً بأي حال؟ ولكن خلّونا ندور مع سواقي الجدل القديمة.
حتى كارل ماركس بجلالة قدره أذعن لوجود نوع من الخاصية الكلية، أو اللازمنية، للفن. يمكننا أن نهمس في أذنه الآن – وبعد مرور كل تلك العقود والمدارس والاتجاهات – أنه حتى قوانين الأدب العظيم تولد من رحم عمليات اجتماعية معقة، وما يوصف بأنه “عظمة” التراجيديا اليونانية ليس حقيقة ثابتة، بقدر ما هي قيمة متغيرة، يعيد كل جيل إنتاجها على طريقته.
الفن ثورة، بالطبع معلومة قديمة، ولكن أي ثورة؟ بالقطع ليس ثورة تتشبث بالإيمان، لأننا بالإيمان قد نردد أشعار دنقل ونجم وجاهين، لكننا لن نكتشف أو نخترع أو نمحو ونُجدد. وسيول الأشعار والأغاني والقصص والكتب التي أنتجتها ثورة 25 يناير – أو ما قرأته وسمعته منها على الأقل – تؤكد أننا مازلنا في طور الترديد، أي في طور الإيمان. كلنا سلفيون بحكم الوراثة.
كثيرٌ من الكتب التي أنتجتها ثورة يناير لا تبتعد كثيراً عن تيار أساسي موجود من قبلها، كتب نقد سياسي ساخرة، غالباً ما يكون في عنوانها اسم مصر داخل عبارة طريفة، على طريقة: مصر مراة أبويا، أو مصر م البلكونة، مصر في بير السلم…إلخ… هذه الكتب تستلهم صحافة لاذعة وطفولية أقرب إلى صحف الحائط في الجامعات والمدارس، كما تنتهج نهج الألش والتنكيت لبرامج السيت كوم والاستاند آب كوميدي. لا تحليل، لا رؤية، فقط الابتسامة المتشفية فيمن نختصمهم أمام التاريخ، وربما تنهيدة أسيانة على ما وصل إليه حال البلد. لم يكد يتغير شيء بخصوص هذا الخط من الإنتاج، سوى أن عناوين الكتب استبدلت بمصر كلمات مثل: الثورة، الميدان، التحرير، 25 يناير، إلخ… وازدادت الروح التوثيقية رسوخاً وعافية، كأنما نخشى جميعاً على هذه اللحظة المجيدة والاستثنائية من التلاشي والمرور مر الكرام، كلنا جاهزون بكاميرات الموبايل لنتأكد فيما بعد أن هذا لم يكن حلماً.
تُوحي ثورة 25 يناير بأنها دراما مكتملة العناصر: فهناك الهدف والصراع والأبطال الأخيار والخصوم الأشرار، والعواقب والتعقيدات والخيانات والمقاومة والاستبسال والنجاحات حتى لحظة الذورة يوم التنحي. خطورة هذا الإيهام باكتمال دراما الثورة في أننا قد ننصرف عنها إلى تأطيرها وتسجيلها وإعادة إنتاجها فنياً، منشغلين “بعجلة الإنتاج” الإبداعية عن التورط والتأمل والتحليل وطرح التساؤلات.
عين على الواقع وعين على الكتاب: هكذا علمونا…. لكن في لحظة مثل هذه، لا يعود أحد يعرف أين ينتهي الكتاب ويبدأ الشارع؟ من منهما يأخذ من الآخر؟ كيف يولد الشعار؟ من مؤلفه الأصلي؟ هل لو توقفنا للتأمل والتقييم سنفقد الإحساس بتيار وسياق اللحظة الحاضرة؟ هل الابتعاد خيانة؟ هل الانخراط رعونة؟ أسئلة ليست جديدة تماماً هي الأخرى، لكنها تحتاج الآن خصوصاً إلى إجابات جديدة تماماً، لخصوصية اللحظة من ناحية، ولخصوصية صانعها من أبناء هذا الجيل العجيب، الذي يُضحي بحياته ببساطة كتابة استاتيوس خفيف الدم على موقع الفيس بوك.
تقول الثقافة البروليتارية: “أعطونا شيئًا من إنتاجنا نحن حتى ولو كان ضعيفًا”، ويرد تروتسكي: بأن الفن الضعيف ليس فنًا، لذا لا تحتاجه الجماهير، ويقرر أنه يومًا ما ستكون أعمال شكسبير مجرد وثائق تاريخية، لكن هذا اليوم لم يأت بعد، لذا علينا اليوم استخدام شكسبير واستيعابه بدلاً من المحاولات الرومانسية لاستبداله. ليس هناك – في ظني – ما يُسمى بالفن الثوري، قد يكون هناك فن تحريضي، دوره واضح ومحدد، لكن الاعتراف بدوره يعني ضمنياً الاعتراف بانتفاء جدواه عن انتفاء الغرض منه: إعلان للتشجيع على تحديد النسل سيكون أيقونة ضاحكة عند انتهاء مشكلة الانفجار السكاني، أو عندما لا تصير مشكلة، وهكذا قصيدة تحض على الانتقام للشهداء تكسب حياتها فقط من عدم القصاص، وبإتمام العدالة تذهب القصيدة للأرشيف، ما لم تتجدد أسبابها، وهو ما استدعى في الفترة الأخيرة الأبنودي وأمل دنقل ونجم وغيرهم، نضيف إليهم الأصوات الجديدة مثل تميم البرغوثي هشام والجخ… قانون الاستهلاك اللحظي يفرض نفسه من جديد، ولكن من يملك – الآن، أو في أي وقت آخر – سلطة تحديد الفن الضعيف من الفن الحقيقي يا عم تروتسكي؟
لا أخشى على الإبداع شيئاً، فهو متواصل ودفّاق، كل لحظة، وحتى في أحلك ظروف الاستبداد والرجعية سنجد أمثال المخرج الإيراني عباس كياروستامي والروائية السعودية رجاء عالم. لعلني أخشى على المبدع الشاب لا الشيخ، فالشيوخ – وأغلبهم قد استقر – عرفوا لأقدامهم موطئاً، وجدوا مكاتبهم، بنوا البيوت لأبنائهم، وقالوا كلمتهم – في زمنهم، على الأقل – وتفرغ – أغلبهم لترتيب الغنائم. أما الشاب فمازال مستقبله أمامه – أو هكذا يأمل – ومازال يبحث عن كلمته في موعدها – أو هكذا آمل أنا. ولا بد له من لحظة للنزول إلى السوق، ليبيع ويشتري، وهنا تبدأ أولى لحظات شيخوخته، لحظة الاستقرار على خيارٍ واحد من بين آلاف – إن لم نبالغ ونقول ملايين – الخيارات. أخاف عليه من أن يخضع خياراته لتهديدات اللحى، في لحظة اختياره لمفردة في نصٍ له، ومتطلبات السوق لهي أضل سبيلاً من تهديدات ذوي اللحى، لأن سعادة جناب السوق قد يتبنى في أي لحظة خطاب ذوي اللحى، بحكم المصلحة أو الخوف أو ترتيبات أخرى، ويفرضها على الجميع، البائع والصانع والمشتري وحتى السابلة المفترجين بفلس جيوبهم…. والمسألة قد تبدأ بتفضيل مفردة عن أخرى، لكنها لا تقف عند هذا الحد، بل هي مجرد أول الطريق نحو الشيخوخة، نحو الإذعان والتكلس، والرضا بالمتاح. أما الفن فلا يرضى بشيء، ناهيك عن القليل أو الكثير، إما كل شيء أو لا شيء، في تطرفه هذا حريته الوحيدة – وإن كانت مستحيلة، فهي دوماً جديرة بالسعي والمغالبة، وبدونها لما أتينا إلى الدنيا فوجدنا في انتظارنا كل هذا الجمال الذي صنعه السابقون علينا، كانوا حريصين على وعينا ونشوتنا بقدر حرصهم على وعيهم ونشوتهم. سيكرهني الكثيرون إن اعترفت بأن حرية المبدع لا تُكتسب في الشوارع والميادين والساحات، ففي هذه كلها على المبدع أن يكون إنساناً شأنه شأن بقية رفاقه في المسيرة الإنسانية الكبرى، أما حريته الحقيقية فيمكنه أن يقترب منها – وأؤكد: يقترب ويناوش ويغازل، فقط لا غير – في الغرفة المغلقة على وحدة روحه، على ارتباكه وقلقه وجنونه، إذا حسم معركته لصالح المفردة التي يشعر بها، لصالح المشهد الذي يحبه، لصالح اللون أو الخط أو الصوت – وإن كان شخرة اسكندرانية لا أحلى منها في الدنيا، صباح الفل يا عم يوسف شاهين – فهكذا يحسم معركته مع الكل، مع جمهوره، ومع الطواغيت المنتظرة على عتبة باب غرفته، بالمقرعة أو السوط أو السيف والسواطير والجنازير.
مم أخاف؟ أخاف على الشاب بداخلي وبداخل كل مبدع مهما تقدم به العمر، أخاف على هذا الشاب أن ينسى نفسه في المسيرة ويذوب في الركب، فيضيع صوته في الزحام، وتذوب نغمته الخاصة – منحته الفريدة التي لن تتكرر أبداً – وسط الصخب المحبب لدنيا الجماهير. أخاف على هذا الشاب عند نزوله السوق أن يتنازل – وكم نتنازل- لصالح اللقمة والهدمة ومستقبل العيال والمنحة والجائزة والسفرية والترجمة، والقائمة تمتد بامتداد الأجل والأمل الخليع.
قد ننجح في أن نأخذ عليهم العهود والمواثيق والدساتير، لكن كيف نأخذها على أنفسنا؟ من قال إننا أُمناء في أنفسنا على أنفسنا، بعد أن سقطت مفاهيم عزيزة على القلوب كالواجب والرسالة والضمير، إلخ.. ماذا يتبقى؟ من سنراه يبتسم لنا في داخل المرآة، وقد رحل النبي الرائي، الصارخ بكلمة الحق في البرية؟ هل تصلح المتعة الذاتية كمعيار؟ ربما أحياناً، ومن يُساوم عليها؟ إساءتهعلى نفسه، جسده وروحه. والضحايا؟ موجودون في كل مكان وزمان، ومعارك الروايات الثلاث في هيئة قصور الثقافة أو وليمة حيدر ليست بعيدة عن الذاكرة. لكن متى توقفت المعركة أو انتفى الصراع؟ كل عمل فني جديد معركة جديدة، إذا كان جميلاً فهو نصرٌ للجمال، والوقت كفيلٌ بصقله وتأطيره وتعتيقه كخمرٍ طيّب، مهما تقلبت المعايير. ومهما ادّعى آباء الماركسية أن أعمال شكسبير مصيرها المتاحف بعد القضاء على الاستبداد والاستغلال…. لأن العمل الفني الحقيقي، وأقصد الجميل عموماً، يعرف أنه عابر سبيل، متزوج من امرأة لعوب اسمها البدد، وحين يُولد من جديد هاملت لا يكون هو نفسه هاملت الذي رآه شكسبير أول مرة بل يكون جديداً، مثل شمس كل يوم قديمة وجديدة في الآن نفسه. أما المتاحف فربما تستقبل ذات يوم بعيد فتاوى التكفير والتنظيرات الجبرية – جنباً إلى جنب – لتقدم للأجيال الجديدة درسهم الوحيد الجدير بالذكر: لم يقف أي شيء في وجه حرية الجمال وعريه البريء الساذج.
وقد اتخذ تروتسكي موقفًا معاديًا ومحاربًا لهيمنة ستالين المتوحشة على أشكال الإنتاج الثقافي، قائلاً بصدد ذلك: “نحن نُدرك بالطبع أن الدولة الثورية لديها الحق في الدفاع عن نفسها إزاء الهجمات المضادة للبرجوازية، حتى عندما ترتدي هذه الهجمات عباءة العلم أو الفن. إلا أن الهوة سحيقة بين إجراءات الدفاع الثوري عن النفس الضرورية والمؤقتة هذه، وبين ادعاء السيطرة على الخلق الثقافي..”. ثم يضيف في شأن الفن في ظل الثورة ما يرضي غرور كل فنان وزيادة قليلاً: “فإذا كان على الثورة أن تبني نظامًا اشتراكيًا ذا سيطرة مركزية من أجل التطوير الأفضل لقوى الإنتاج المادي، فإن تطوير الخلق الثقافي يحتاج لإنشاء نظام فوضوي قائم على الحرية الفردية من البداية. لا سلطة، لا توجيه، لا أدنى أثر للأوامر الفوقية. فقط على أساس التعاون الودي، بلا قيود خارجية، سيكون من الممكن للباحثين والفنانين أن ينجزوا مهامهم، التي ستكون أوسع مدى من أي وقت مضى في التاريخ”. يسمع من بُقك ربنا.