في وسط تلك الظروف الصعبة فعلا، اشتغلت على تجربتي بشكل جدي، وأصدرت بعد شجري أعلى، أربع مجموعات شعرية، هي أسفار موسى العهد الأخير، ومن جهة البحر، وسلالتي الريح عنواني المطر، وكما يليق بطير طائش، وفرغت من مجموعة جديدة بعنوان موتى يجرون السماء، ولا أتذكر شيئا مما مر معي رغم صعوبته ومرارته لحظة الغنخراط في كتابة القصيدة أو الحياة نفسها.
تعرضت خلال المحاكمات للعديد من الضغوط النفسية والمعنوية، والاتهامات والإساءات ولم يكن الشيوخ أو المتزمتون أو الحكومة ومؤسساتها هم فقط من وجه تلك الطعنات، بل تلقيت من المثقفين الكثير من السهام السرية والعلنية، وكنت أُلامَ على شيء لم أقترفه، وعلى مكاسب توهمها البعض، وقد اكتشفت أن الكراهية التي تنغل في اوساط المثقفين، أكبر وأخطر من مواقف بعض السلفيين، وفي هذا السياق فلا بد من القول أن بعض الشعراء والكتاب حاول ركوب الموجة وتقديم كتابه باعتباره خروجا على المألوف، وكفرا يستحق العقوبة، وقد توقف بعضهم في البداية، وواصل بعضهم الطريق، وأقنع نفسه وأقنعنا أنه متمرد وملحد وخارج على القوانين، بينما هو تقليدي التفكير سلفي المبدأ والمنهج، ولكن الفرق دقيق بين من بكى من حرقة ومن تباكى تمثيلا، لكننا لا نملك إلا الوقوف مع حرية التعبير مهما كانت المقاصد، وإن كان الأجمل والأجدى بالمبدع أن يكون نفسه أيا كان اعتقاده وتفكيره، وأن يراهن على الجمالي والإبداعي وليس على الزائل والمفتعل.
وفي هذا السياق فليس من المبالغة او الثقة بالنفس القول أنني لم اتوقع كل ما حصل لكتابي، وأنه كان الديوان الاول الذي يتعرض لما تعرض له في الأردن، وأنني لم أخط حرفا من حروفه لهدف مقصود او لإثارة زوبعة ما، وأنني في مجموعتي التي تلته تعاونت مع دائرة المطبوعات والنشر، والتزمت بكل الجمل التي شطبوها، ولم أقل شيئا يخالف معتقدي لحظة كتابته، وفي نفس الوقت أعتبر نفسي أكثر الناس حرصا على عدم توجيه إساءة لأي دين أو معتقد، مهما كان هذا الدين، وأن الحرية التي أؤمن بها لنفسي أؤمن بها لغيري شريطة ألا يتدخل هو الآخر في اعتقادي وقناعاتي.
أعترف أيضا أنني لم أكتب شجري أعلى كما تكتب الرواية او المجموعة الشعرية ذات اللون الواحد، دفعة واحدة، بل أنني بعد انقطاع عن نشر الشعر ومتابعته منذ عام 1988حين نشرت مجموعتي الأولى شغب، لم أصدر شيئا، وحين قررت نشر المجموعة الثانية تزدادين سماء وبساتين عام 1998 كانت لدي مجموعة قصائد منذ نهاية الثمانينات، لم أكتبها كديوان بل كنت أكتبها لامرأة أحبها ولم يكن الغرض منها شعريا بل عاطفياً، وحين جمعت قصائد شجري أعلى كانت قصائد متناثرة ومتنوعة ومختلفة وكانت مكتوبة على مدى عشر سنوات وفي أوقات متفاوتة. ولم تأت في سياق نفسي أو فني واحد، ولم يدر بخلدي انها قد تسبب لي حال نشرها ما سببت، منذ صدروها.
كما لا بد من القول هنا، أن قضايا الحسبة لم تكن معروفة في الأردن، وأنها انتقلت من مصر بعد قضية الدكتور نصر حامد أبو زيد، وأن الذين حاكموه وساهموا في إيذائه، سنوا سنة رديئة في العالم العربي والإسلامي، لن تتوقف على مدى عقود قادمة، ما دامت القوانين تسمح لكل من هب ودب، أن يرفع قضية حسبة في محكمة شرعية، او يتوهم بامتلاك سلطة ما لمحاكمة الكتب والكتاب.
وبعد، فعلى مدى خمس سنوات متلاحقة، حوكمت من غير وجه حق، لأن كل هذه المحاكمات باطلة، فليس من حق أحد أن يحاكم أحداً على رأي كتبه أو قصيدة او مقالة أو لوحة رسمها، كما أنني كنت قد حصلت على إجازة رسمية للكتاب قبل طباعته، ورغم الإجحاف في هذا القانون ورغم قناعتي بأن دور الرقابة والدائرة نفسها ليس أكثر من معوق للحرية وحركة النشر، لكنني حصلت على إجازة رسمية ورقم ايداع رسمي، وهذا يعني أن الدائرة تتحمل ما ورد في الكتاب قانونياً، وقد أقرت ذلك محكمة بداية جزاء عمان كما أكد حكم الاستئناف ذلك.
هذا من ناحية ومن ناحية ثانية فإنه من العار أن تحاكم شاعرا لمجرد أنه كتب قصيدة، رأى فيها البعض انزياحا أو إختلافا ما، أو حتى إشكالية، أو نقيضا لما أجمع عليه الناس، لأن معايير النقد للشعر يجب أن تختلف عن معايير النقد للقول العادي، وهذه هي المأساة بحد ذاتها، أن ننقد الأدب أو نقيمه أو نحكم عليه بمعيار القول العادي، فيما أن الشعر ضرب من الخيال، جنوح من المفارقة والمبالغة والشطط، قبس من النار، شواظ ملتهب محترق لا يجوز أن تضعه تحت مماحكة الكلام العادي، أو مباضع علماء الخطاب الديني والتحليل السفسطائي. ولا يجوز أن ينظر للشعر إلا من الباب الجمالي فقط.
أما ثالثة الأثافي؛ أو خامستها؛ فهي أن كل القصائد التي حوكمت عليها، كانت تنتزع من سياقها الشعري لتوضع في سياق العادية، وتجرد من كل أجنحتها وشعريتها وهذه هي المأساة : كما أن النظر للشعر نظرة دونية واعتباره كلاما عاديا ورجسا من عمل الشيطان، مصيبة كبرى والإصرار على محاكمة الشعر بمقايس القانون سواء الشرعي أو المدني كارثة بكل معنى الكلمة واحتقار للأدب والإبداع وللشعر ولكل الفنون والثقافة وحتى الحياة نفسها، وإذا كان من الجائز إبداء رأيي في وضع الرقابة ودور دائرة المطبوعات فهي أكبر عائق في وجه النشر وهي عائق مانع للحرية ووظيفتها لا تتعدى القمع والشطب والحذف وترهيب المبدعين، وهي وظيفة باتت لا تصلح لهذا العصر، ومع هذا التطور الهائل في وسائل الاتصال، لأنها تتخلى ببساطة حتى عن الكتب التي تجيزها ولا تتورع في إعادة مصادرتها أو شطبها، وهي لا تتوانى عن شطب أو منع أو حذف أو مصادرة ما يراه أحد موظفيها غير مناسب للقراءة، أي إن فردا واحدا مهما ضحلت ثقافته ورؤيته يكون وصيا على ذائقة الملايين وعلى أخلاق الناس عموماً.
وأقول أن كل الاتهامات التي طالتني و كتابي وقصائدي لا تتعدى كونها اتهامات باطلة ومزيفة وأنني لست في موضع ضعف لأعتذر لأحد ولا في باب خوف أو خشية لأجنح للمداهنة لكنني أقول للذين ربما تأثروا أو غضبوا صادقين من كتابي أنني لم أنزع إلى ذلك ولم أسع له وأن الأمر لا يتعدى توظيف رمز ديني ورد ذكره في الكتب السماوية كلها ويتم توظيفه بطريقة مستفزة لا أكثر ولا أقل، وكان غرضي من تلك القصيدة الاشارة الى ان الشعب المصري خاصة والعربي عامة يرفض التطبيع مع كيان محتل دخيل يتعلق بقصص تاريخية نردد بعضها دون أن نعرف مغزاها وهدفها السياسي.
أقول ذلك مؤمنا بحرية التعبير وحرية القول وحرية الإيمان والكفر وحرية البشر أجمعين فليس من باب الإنصاف أن نفرض على البشر تصديق ما نصدق أو نفي ما لا نصدق، وان أجمل شيء في الحياة أن نتحاور دون قتل، وأن نتبادل المعرفة والرأي دون ترهيب، ودون حرية حقيقة لن نرفع سماء قصيدة ولن نفتح بابا للرؤيا، ولن نزيح ظلما عن كاهل عجوز أو طفل، أو شعب، وأن أجمل اكتشاف في العالم هو الحرية التي تعلو بالإنسان ولا تحط من قيمته بالترهيب والتخويف والشتائم.
ثانيا أود القول أن دائرة المطبوعات والنشر في الأردن والتي قامت بمنع عشرات بل مئات الكتب، لا زالت تصر على وجودها وسلطتها، رغم الإدعاء بإلغاء الرقابة المسبقة على الكتب، لكنها تتصرف بعقلية عرفية وتحول الكتب الصادرة إلى المحاكم، ومنعت الكثير الكثير من الكتب العربية والاجنبية من الدخول، كما ساهمت في وضع فخاخ للكُتاب بإيهامهم ان الرقابة ألغيت لتصطادهم من جهة ثانية، وترفع قضايا ضدهم بحجج متنوعة دينية مرة وسياسية مرات، وإخلاقية أحيانا. وقائمة الكتب الممنوعة والمصادرة في الأردن زادت على الألف كتاب وتحتاج إلى صفحات طويلة.
هذا من جهة، ومن جهة ثانية فإن الجهل وعدم القراءة وتدني المستوى الثقافي في العالم العربي، ساعد على تشكيل بؤرة صالحة لنمو التطرف والجهل، واحتقار الثقافة والإبداع والإستخفاف بالشعر والفن عموما، وشكل طريقا سالكا للحكومات لاغتيال المبدعين وملاحقتهم والازدراء بتجاربهم، هذا عدا عن محاصرتهم في رزقهم وتضييق فرص العمل والنشر والكتابة عليهم، لتحويلهم إلى أبواق للسلطة فقط، وخلق طبقة كتاب وشعراء وفنانين مأجورين، وترويج أسمائهم وإنتاجهم، وتوزيع كتبهم وتسليط الضوء عليهم.
من الإجازة إلى المصادرةو
في بداية عام 1999 قدمت ثلاث نسخ من كتابي (استحق اللعنة) مطبوعة ومرقمة حسب الأصول، إلى دائرة المطبوعات والنشر وحصلت على نسخة من المخطوط مجازة بالكامل – حال شطب أي فقرة أو جملة أو صفحة يكتب [مجاز مع شطب] ويشار إلى الجمل او الصفحات الواجب حذفها، هذا إذا لم يشطب المخطوط بالكامل – حملت الإجازة رقم (475-5-1999) والمخطوط موجود في ملف محكمة بداية جزاء عمان – وهو ممهور بختم الدائرة ، كما حصلت على رقم إيداع وطني، ولم يكن ممكنا أن تطبع كتابا قبل الحصول موافقتين رسميتين؛ إجازة دائرة المطبوعات، وثانيا رقم ايداع المكتبة الوطنية، ورقم الإيداع كان للكتاب المذكور (626 -5-1999) وهناك نسخة محفوظة من المخطوط الأصلي لديهم، وصدر الكتاب عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت نهاية صيف 1999.
عندما راجعت مديرية المكتبات للحصول على رقم الإيداع قال لي الموظف المسؤول محذراً: ألا تخشى أن يسبب لك العنوان (استحق اللعنة) حرجاً، لأن اللعنة محرمة في الإسلام، لا أدري بما أجبت الموظف المسؤول، لكن إشارته تلك ظلت تدور في رأسي، وخشيت فعلاً أن يسبب لي العنوان بعض الانتقادات الدينية، فقمت في اللحظات الأخيرة بتغيير العنوان، اخترت (شجري أعلى ) وهو عنوان إحدى قصائد المجموعة، ووضعت تنويها واضحا لذلك، على الصفحة الرابعة من الكتاب:
“العنوان الأصلي لهذه المجموعة هو أستحق اللعنة، وقد تم استبداله لمجرد التمويه فقط”.
صدر الكتاب ونشرت عنه أخبار متعددة في الصحف اليومية بل أقامت رابطة الكتاب الأردنيين، أمسية شعرية حول المجموعة ودار حوار مستفيض نشر أيضا في بعض الصحف حول بعض القصائد إن كانت تمس الدين أو القرآن، وتحدث كثيرون عن التأويل وحق الشاعر في استخدام الرمز والقص القرآني، دون ان يتوقف أحد عند الأمر، وتم توزيع الكتاب وبيعت منه عشرات النسخ لوزارة الثقافة، وبعض المؤسسات وحتى نفس دائرة المطبوعات والنشر التي تشترط تسليمها نسختين من الكتاب بعد الطباعة، اشترت عشرة نسخ إضافية، ولم تعترض على تغيير العنوان.
في بداية شهر فبراير/ شباط من عام ألفين، خصصَّ إمام مسجد خلدا /غرب عمان خطبة الجمعة عن شجري أعلى، وطلب من المصلين الا يشتروا الكتاب. فضلت الصمت وعدم تكبير الموضوع، قائلا بيني وبين نفسي لعلها غيمة عابرة، وبعد أسبوع واحد، سمعت أن هناك خطيب جمعة آخر في منطقة ام البساتين جنوب غرب عمان، شتمني على المنبر، وتحدث عن الشعر والكتاب باعتبارهما رجس من عمل الشيطان، وبدأت تصلني هواتف تنقل أخبار الشتائم في المساجد.
ومع كل تلك الأنباء ظللت حريصا الا يصل الأمر إلى الصحف، كي لا تتوسع القضية وقلت لعلها هجمة منبرية لا أكثر، لكن الصحف الأسبوعية بدات تتناقل الاخبار، وفوجئت أن إحدى هذه الصحف نشرت تحقيقا كاملا حول الكتاب، أفردت فيه آراء عدد من شيوخ حركة الإخوان المسلمين، والذين وجهوا لي في التحقيق اتهامات كثيرة منها خدمة العدو الصهيوني، وتغيير القرآن الكريم, وقال النائب عبد المنعم أبو زنط أنه مستعد لقبول توبتي، لكن وزير الأوقاف السابق والنائب ابراهيم زيد الكيلاني اعتبرني كافراً، اما النائب محمد الحاج فقد طالب الحكومة بمعاقبتي وعدم التهاون. وبعد أيام أصدر مجلس الإفتاء في جماعة الإخوان المسلمين فتوى بتكفيري.
بالطبع كان الخبر مثيرا لبقية الصحف التي بدأت تعيد وتزيد في القضية وتأخذ آراء جديدة لبعض الشيوخ وكانت الاتهامات تتواصل، حتى وصلت إلى درجة اتهامي بأنني مدفوع من جهات خارجية ومن بينها الموساد، وطلبت دائرة المطبوعات والنشر مني مراجعتها، ولما ذهبت كان عدد من موظفي الدائرة بينهم المستشار القانوني، والذي طلب مني التوقيع على اقرار بأنني اضفت قصائد للديوان وغيرت العنوان، كما طلب أن أكتب تعهدا بسحب كل النسخ من السوق وتسليمها للدائرة كي تعيد النظر في الاجازة، رفضت ذلك، بل طالبتهم بتحمل مسؤولياتهم، والرد على الحملة بأنهم أجازوا الكتاب وانه لا يحمل اية اساءة من وجهة نظر الذين أجازوه على الاقل، وسيكون لكلامهم أثر مهم في القضية، بل ستتراجع الحملة قليلا، لكنهم هددوا بتحويلي للأمن الوقائي إن رفضت التعاون معهم,ولم يكن بامكاني أن اقبل تلك المطالب العرفية، لان قبولي يعني أنني قمت فعلا بتغيير القصائد، وذلك لم يحدث.
بعد أيام أصدر مدير دائرة المطبوعات د. حسين أبوعرابي قرارا بمصادرة الكتاب في شهر مارس، واستند فقط إلى تغيير العنوان، وبدأت الصحف اليومية تنشر اتهامات المطبوعات، وكان أكثر التصريحات اساءة، تصريح وزير الثقافة والإعلام في حينه صالح القلاب الذي قال لصحيفة الرأي الاردنية:( ألا تأويل في شعر موسى حوامدة، لأنه مسكون بعقدة تسليمة نسرين وسلمان رشدي) -جريدة الرأي 11/4/ 2000 وهنا استغل الشيوخ هذا التصريح واشعلوا المعركة من جديد وبدأت صحيفة السبيل، وهي صحيفة الاخوان المسلمين بكيل التهم مجددا، وكانت في كل عدد تأتي بقصائد جديدة تحمل كفرا صريحا حسب تفسيرهم، دون أن تأخذ رأيي بل كانت لا تنشر حتى الاراء التي لا تكفرني أو تقدم وجهة نظر منصفة، وظهرت مقالات معادية في صحف أخرى، تطالب وزرارة الأوقاف بالتدخل، وتتهمني باثارة النعرات الدينية والتسبب في زعزعة الأمن.
المح
المحكمة الشرعية
وفي شهر أيار/مايو 2000 اقتادتني الشرطة إلى قصر العدل ومن هناك إلى محكمة عمان الشرعية الشرقية، ووجهت لي رسميا تهمة الردة، بناء على شكوى تقدم بها رئيس كتاب المحكمة نفسها بحجة إن ابنه في الصف السادس، قرأ الكتاب وانه بدأ يسأل أسئلة تشكيكية عن القرآن.
سألني القاضي الشيخ مصطفى المفتي قاضي المحكمة الشرعية رحمه الله، إن كنت اعترف أولا بأنني كتبت الكتاب، وإنني اعترف أنني كتبت قصيدة يوسف وسبيل قلت نعم فسألني إن كنت مسلما فأجبت: نعم، فقال هل تشهد بذلك، فنطقت الشهادتين، فسألني إن كنت أؤمن بالله ورسله وكتبه وملائكته واليوم الآخر، فقلت: نعم أؤمن بكل شيء تريده. قال: ما دمت كذلك فلماذا تنفي القرآن الكريم وتسخر من السنة النبوية ؟ ونفيت التهمة طبعا، وشرحت له تفسيري للمعنى حيث إنني اقصد إسقاط الحاضر على الماضي، وإنني لا أنفي قصة يوسف بل نتيجة القصة ، مثلا أنت لا تريد ثمر الشجرة لهذا الموسم، لكنك لا تقلع الشجرة نفسها، أعترض على الثمر وليس على كل الثمر بل على حبة واحدة أو عدة حبات، وليس على الشجر كله أو هذه الشجرة بالذات، فسألني وما غرضي من ذلك، قلت إن مصر والمصريين يرفضون التطبيع وان الموساد والصهاينة لا يمثلون النبي يوسف عليه السلام، أما قصيدة سبيل فأنا لا أنكر فيها وجود الجنة، بل أسأل أي سبيل للجنة؟ ولا أستخف بالمسلمين على الإطلاق، بل أتساءل أين طريق الجنة؟ أي أنني اعترف بوجودها، لكنني اسأل هل الأفعال الظاهرة التي يمارسها البعض مثل تحويل الدين إلى شكل خارجي توصل للجنة، وأكدت له أنني لا أقصد السخرية أو الازدراء بالإسلام، ولكني انتقد بعض تصرفات المتدينين، وذلك ليس جريمة أو كفرا.
لم يتوقع القاضي موقفي ذلك وكان يهيئ نفسه لعمل استتابة، كما أعلمني حين زارني بعد سنوات معزيا بوالدتي، وحين وجه لي تهمة الردة وعواقب ذلك من قتل وتطليق ومنع الحصول على ميراث المسلمين، وعدم الدفن في جبانة المسلمين، قلت له بالحرف الواحد، حدث مثل هذا الموقف في مصر في بداية القرن العشرين حينما رفعت قضية ضد طه حسين، لكن القاضي محمد بك نور حفظ القضية، لأنه لم يشأ أن يرتبط اسمه بتكفير طه حسين، وظل يشار له باعتزاز واحترام، فلا تلطخ اسمك بقضية تكفيري أو تكفير غيري، لكنه لم يتقبل فقد كان مطلوبا منه ذلك، كما قال لي لاحقا، وبدأت احضر المحاكمات بانتظام ودون تأخير وكانت جلسات المحكمة متتالية كل يومين أو ثلاثة أيام، وبعد أكثر من ثلاثة أشهر طلب مني رسميا الاعتذار فسألت: لمن أعتذر؟ قال لبعض المسلمين الذين لم يفهموا القصيدة قلت وما ذنبي أنهم لم يفهموا، لن اعتذر لأحد لأنني لم أسيء ولم أنف القرآن وكل ما في الأمر إنني كتبت تأويلا مختلفا والقرآن يجيز ذلك، ونطقت أمامك بالشهادتين، ثم قلت له: إننا لا نأخذ كل النصوص القرآنية كمسلمات واقعية تنطبق على حياتنا المعاصرة، وان كنا لا ننفيها، مثلا قوله تعالى (يا بني إسرائيل إنا فضلناكم على العالمين) فهل نعتبر بني إسرائيل الحاليين هم مقصد الآية الكريمة، إذا كنا نعتبرهم كذلك، فلنسلم لهم باحتلال فلسطين، إنني أنفى نتيجة قصة يوسف من ناحية سياسية فقط، ولست معنيا بنفي أو تثبيت القصة القرآنية نفسها، قال هذا موضوع مختلف، قلت هل بيع الأراضي لليهود حلال أم حرام؟ قال هذا الأمر لم يعرض أمامي ولو عرض لقلت رأيي بصراحة، وأصر أن أقر بأنني كفرت وعلي إعلان التوبة لكي يقوم بكتابة عقد زواج جديد، بشكل سري، فرفضت وقرر توقيفي ثلاثة أيام في النظارة، وتحويلي إلى محكمة الجزاء، لأنال عقوبة السجن ثلاث سنوات حسب قانون العقوبات الذي أطلعني عليه على الكمبيوتر أو اقبل الاعتذار وإعلان التوبة على يديه، أفضل من تطبيق الحكم على المرتد، فقلت له: لست مرتدا ولم أعترف بذلك، وأنت تعرف أن الدولة لن تقوم بقطع رأسي أو رأس غيري لهذه التهمة، فرد قائلا لا نستطيع تنفيذ حكم الردة فعلا، لكننا نستطيع قتلك وأنت حي.
رغم هذه الحملة النفسية الشرسة، رفضت إعلان التوبة أو الاعتذار، لأن اعتذاري يعني موافقتي على كل التهم غير الصحيحة، وكان مصيري تلك الليلة النظارة ليتم نقلي إلى السجن بانتظار تحويلي إلى المحكمة الجزائية.
في اليوم التالي تمت إعادتي إلى نفس المحكمة الشرعية، وإلى نفس القاضي حيث قال لي أنه بات مقتنعا ببراءتي بعد أن ثبت لديه باليقين إنني مسلم وإنني مصر على كلامي، وقرر القاضي رد الدعوى، وقد تم استكتابي على إقرار بعدم رغبتي في الاستئناف كما طلب من المشتكي وهو موظف لدى المحكمة نفس الشيء.
وقد أفهمني القاضي إن محكمة الاستئناف – ليس في المحاكم الشرعية محكمة تمييز- ستؤيد حكم المحكمة الشرعية الذي اسقط التهمة عني، وبعد ذلك سألني إن كنت سعيدا فأجبت بالنفي، فقال: ولكني برأتك من الردة، قلت لكنها ستظل عالقة بي للأبد وكان يمكن أن تنهي القضية في أول يوم جئتك فيه، ولا تسبب لي ولعائلتي هذه السمعة والإحراج في مجتمع محافظ ومتزمت وتضعني تحت دائرة الخطر.
صدرت (البراءة) في 12-7-2000 أي بعد ثلاثة أشهر من المحاكمة وقد وقف معي وناصرني في تلك المحنة وقبلها عدد من الكتاب والأصدقاء، و اتحادات الكتاب العرب من بينها اتحاد كتاب مصر واتحاد كتاب اليمن والمغرب، وأصدرت رابطة الكتاب الأردنيين بيانا لصالحي ونقابة الصحفيين والحزب الشيوعي الأردني وكذلك الجمعية الأردنية لحقوق الإنسان والمنظمة العربية لحرية الصحافة، وكذلك لجنة حقوق الإنسان في الأمم المتحدة الذين ظلوا على اتصال دائم بي طيلة المحاكمات، ومنظمة بن وغيرها الكثير.
كانت التهمة قد استندت على قصيدتي يوسف و سبيل، وحمدت الله أن هناك قصائد أخرى لم تذكرها المحكمة مثل قصيدة عبد الله التي كانت مكتوبة في عام 1996 ومنشورة في المجموعة، ومن لا يضمن ألا ُتحمل أحمالا وأبعادا سياسية أخرى، وقد تم الانتباه لها في آخر محكمة مدنية عام 2003 واجتهدتُ في إحضار خبراء لتقديم شهادة للمحكمة بان اسم عبدالله مجرد اسم ولا ينطبق على أحد.
بعد أشهر قليلة فوجئت بالمحكمة تستدعيني ثانية، ليبلغني نفس القاضي أن محكمة الاستئناف الشرعية وعلى غير المتوقع فسخت الحكم، وستعاد محاكمتي ثانية لأن المحكمة لم تأخذ برأي ذوي الاختصاص، لقد كنت طالبت المحكمة سابقا ومرارا أن تأخذ أراء نقاد أو شعراء أو مختصين بالأدب ولكنها رفضت، كما رفضت هذه المرة أن أقدم خبراء أو شهودا من طرفي واستشهدت المحكمة في الجلسات اللاحقة برأي مفتي المملكة الشيخ سعيد حجاوي والذي سبق أن خاطبته أول ما بدأت الفتاوى تنهال على رأسي، وشرحت له القضية والتفسير وبالفعل عرض الأمر على مجلس الإفتاء المؤلف من عدد من المسئولين الدينيين مثل المفتي نفسه وقاضي القضاة ووزير الأوقاف وغيرهم من الأعضاء لكنهم، وبعد نقاش مستفيض رفضوا إبداء الرأي في قضيتي وطالبوا بشكل عام بعدم إصدار أي فتوى من خارج المجلس، واعتبروا إن أي فتوى تصدر من أي جهة غير مجلسهم باطلة.
لم أطلع على شهادة المفتي بالتفاصيل لكنها لم تكن لصالحي، وكذلك لم تكن شهادة أحد الشيوخ المتزمتين الذين طلبتهم المحكمة والذي كتب أربع عشرة صفحة في إدانتي، قلت للقاضي هل كان يتوقع أن يصدر هؤلاء الشيوخ رأياً متفهما للأدب وللشعر، هل كان يتوهم أن يشهدوا لصالحي.
ورغم رفض المحكمة طلبي باستدعاء ناقد أو خبير أدبي، لكنني فوجئت في الجلسة التالية بوجود الدكتور محمد بركات أبو علي أستاذ البلاغة ورئيس قسم اللغة العربية في الجامعة الأردنية، والذي فسرت له القصائد فقال للقاضي، بعد نقاش مستفيض أمامه، “يجب أن يكرم هذا الشاعر لا أن يعاقب لأن مقصده شريف ونبيل” وكان لشهادته اثر ممتاز فأخذ بها القاضي وبرأني للمرة الثانية وطلب بالطبع رفعها للاستئناف مجددا وسط التأكيد إن محكمة الاستئناف ستقبل الحكم الجديد بعد الرجوع لذوي الاختصاص.
بعد عامين من المحاكمات طلبتني المحكمة مجددا، فذهبت للحصول على قرار البراءة الثاني، لكن القاضي أبلغني أن محكمة الاستئناف فسخت الحكم للمرة الثانية، وأنه سيعيد محاكمتي من جديد، لأنني حسب قرار محكمة الاستئناف لم أقسم على أقوالي.
وبعد عدة جلسات طلب القاضي أن اقسم على أقوالي وعلى صحة حججي السابقة فقلت للقاضي إذا كنتم تعتبروني كافرا فكيف تطلبون مني القسم، وإن كنتم تعتقدون بصحة إسلامي، وإيماني فلماذا تحاكمونني، فقال: هذا طلب محكمة الاستئناف، وبالفعل وضعت يدي على المصحف الشريف، وأقسمت إن أقوالي السابقة صحيحة وإنني لم اقصد كذا وكذا ولم اسع لنفي القصة أو القرآن الكريم وإنني مسلم ومؤمن والخ…..
وجاء قرار محكمة الاستئناف الثالث جميلا جدا حيث برأني تماما من تهمة الردة، ووردت فيها عبارات جميلة وبليغة من مثل؛ إن الكفر والإيمان في الضمير والضمير لا يكفر، وأن المحكمة اقتنعت بقرار القاضي الشرعي بإسقاط القضية، وتم إغلاق ملف القضية في المحكمة الشرعية، ونشرت براءتي في العديد من الصحف ووكالات الأنباء، وهناك من كتب مشيدا بنزاهة القضاء الشرعي.
المحكمة المدنية
لم تقبل دائرة المطبوعات والنشر هذه النهاية، فبعد أقل من شهرين، طلبتني الشرطة مجددا، وسلموني طلب إحضار إلى محكمة بداية جزاء عمان، وأبلغوني أن النائب العام قد رفع قضية مطبوعات ضدي، وفهمت أن دائرة المطبوعات أعادت رفع نفس القضية من جديد، وكانت التهمة هذه المرة تحقير أحد الأديان ومخالفة قانون المطبوعات والنشر، وبعد سنة كاملة من الجلسات، صدر حكم البراءة لصالحي على يد القاضي وليد كناكريه في شهر تموز/ 7/ 2002، والذي قال انه لم يجد في الكتاب ما يخالف قانون المطبوعات أو يمس المشاعر الدينية، غير إنني استدعيت ثانية أو ثالثة أو عاشرة بعد المائة، في شهر أيلول 2002 الى قصر العدل، وأُبلغتُ بأن المدعي العام رفض الحكم وأن القضية ستعاد للاستئناف من جديد، وبالفعل فسخت محكمة الاستئناف الحكم وأعيدت المحاكمة لدى قاض ثان وأصدر القاضي نشأت الأخرس قرارا بحبسي ثلاثة أشهر ولم تشفع شهادة الشهود ومنهم رئيس رابطة الكتاب الأردنيين، ولكن المحاميان جواد يونس ومحمد عياش ملحم رفعا القضية للاستئناف وبعد طول انتظار أقرت محكمة الإستئناف الحكم محولة التهمة إلى جنحة.
الشهادة التي ألقيت في ندوة (أليات الرقابة وحرية التعبير في العالم العربي) في مكتبة الإسكندرية 13-7-2009