شجرة اللبخ..مركزية الواقع والسرد

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

في حركة دائرية تدور أحداث وكذلك أسلوب السرد في رواية "شجرة اللبخ" للكاتبة عزة رشاد، والصادرة عن دار الكتب خان 2014، دائرة مركزها الحدث الذي منه تبدأ وتنتهي الرواية وهو موت رضوان بيه البلبيسي، هذا المركز مرتبط بمركز آخر، هو شجرة اللبخ، تلك الشجرة التي وضع بذرتها جد رضوان، وعلى ظلالها نشأ درب السوالمة، ثم كانت شاهداً أخيراً على سر مقتل البيه وتحولت معه إلى مقام له.

ربما المركزية هنا تشبه أيضاً مجتمعاتنا، حيث السلطة واحدة، تتمركز فيها الجاه والسلطان، كقرية درب السوالمة التي يعيش فيها أبطال روايتنا، فرغم أن صاحبة "ذاكرة التيه" قسمت روايتها لفصول، كل فصل ترويه شخصية من شخصياتها الرئيسية، ولكل شخصية حكاية، إلا أنها ترتبط أيضاً بالبيه، تكشف جانباً من شخصيته، أوسراً من أسراره، إضافة لعوالم الشخصية ذاتها النفسية والاجتماعية، ثم تتسع الدائرة بعض الشئ لتكشف جزءاً من واقعها وواقع القرية ثم الوطن في دائرة أكبر.

 

لن يمر حدث مهما كان صغيراً، مرور الكرام، بل تعدك الكاتبة بكثير من المفاجآت والأسرار التي تكشفها عبر فصولها، عبر لغة تبدو أحياناً أقرب للشاعرية، خاصة ما يتعلق بالحوار الداخلي للشخصيات.

تبدأ الرواية بمشهد لجنازة “رضوان بيه البلبيسي”، حيث يسير أبناء درب السوالمة وراء النعش، الذي يسبق المشيعين، فيتردد بين المعزين “أن النعش طار”، تتردد العبارة بسرعة فوق الألسنة، حتى يصل النعش لشجرة اللبخ على الجهة الشرقية، فيختار مدفنه، ثم يشرع الجميع في بناء مقام “للولي الصالح”.

“تصغي سعاد متعجبة من البيه “زير النساء” الذي تحول بقدرة قادر إلى ولي من أولياء الله الصالحين، ومن نعشه الذي طار وعجز المشيعون عن اللحاق به، متسائلة في سرها:أهذا الذي يحكون عنه هو رضوان زوجي؟تتمتم :له في ذلك حكم”.

ينقلك المشهد سريعاً لقلب القرية المصرية، سواء أكانت درب السوالمة أو غيرها، في بداية القرن العشرين، حيث سطوة البهوات وأصحاب الأراضي، واستسلام الفلاحين، وقبولهم للخرافات والأساطير، حتى وإن أصبح الرجل الذي عرف بنزواته وجبروته في ومضة عين “ولي من أولياء الله الصالحين”.

“الذكريات تروح وتجئ، ثم تنتهي عند أبيه، الرجل الذي عاشها بالطول والعرض، ثم انتهى فجأة، لم ينته إلى المكان الذي تنتهي إليه عادة،خطى الإنسان ..”الجبانة”،بل تحت شجرته “شجرة ذقن الباشا”.

واستطاعت الكاتبة أن تلضم حكاياتها بحال القرية في مطلع القرن العشرين، وما عاشته المنطقة والعالم من فوران، بدءأ من الحرب العالمية الأولى، وما رافقها من مذابح للأرمن في تركيا، إضافة لما تبعها من حراك ثوري ودعوة للاستقلال وثورة 1919، وبدء التحول للتصنيع في العالم،والذي عارضه أصحاب الأراضي خشية من تمرد الفلاحين، وخوفاً على عوائدهم من ريع الأراضي المضمون.

فيمكن أن تلمح سطوة أصحاب الأراضي في نظرة البيه للفلاحين: “طيبين،لكن أخطر حاجة لو تطاوعك قلبك وتحسن إليهم،لأنهم لو شبعوا يركبهم الكسل،والنمردة ويحرنوا على الشغل، ويحل الخراب عليهم وعلينا،دول ما يشتغلوش إلا لو خافوا من الجوع أو من دي مشيراً لأوراق الكمبيالات”.

بينما عكست بعض الشخصيات الكثير من الأحداث العالمية، مثل هروب ليلة الأرمنية وأمها من مذابح الأرمن، ثم زواجها القصير من البيه،وإنجابها لابنته “ليلي” أو بداية “التطرف المذهبي” الذي تظهره حكاية “عدنان الكردي” الذي ترفض عائلته زواجه من فتاة تنتمي لمذهب مختلف، ثم تحول ديار العائلتين لأنقاض نتيجة للمشاحنات المذهبية. وكذلك من خلال حكايات “أصدقاء البيه” التي أدمنت “سعاد” التلصص عليها حول البورصة، وتعنت سلطة الاحتلال، وتظاهرات الثورة والإضرابات،أوحينما قام البيه بتعذيب الفتيان الذين تجرأوا وجروا جذع الشجرة للمشاركة في تمردات 1919.

المرأة ..أيقونة التمرد

لم تكن المرأة عند عزة رشاد فقط أيقونة إغواء أو مظلومية،رغم أن المرأة في ذلك المجتمع الريفي معروف عنها الدوران في فلك الرجل،خاصة لو كان هذا الرجل ثرياً وقوياً كشخصية البيه، بل يمكن القول أنها نالت نصيب الأسد من التمرد على وضعها.

تمرداً قد يكون ناعماً، كتمرد شفاعة على ظروف فقرها وحاجتها، فتزوجت منصور العربجي سرأ، وبقيت في بيت رضوان على أمل الوفاء بعهده بكتابة فدان باسمها يقيها الحاجة، وقد يكون في علاقتها بزينة العالمة،التي لا تعيب عليها عملها: “وايه يعني عالمة!! كل مخلوق يسعى على رزقه،هي لقت وظيفة تعيش منها وقالت لأ! أهو أحسن من الشحاتة”،في تمرد آخر على النظرة التقليدية للراقصة.

وصافيناز زوجة البيه الأولى، التي أجبرتها الظروف على الزواج من رجل أقل بكثير مما تستحق، فسعت بكل قوتها لتغييره وتطويره.

وقد يكون تمرداً قاسياً، ظهر جلياً مع زوجتي فارس، “سوزان” البولندية، التي هجرته اعتراضاً على أن تتحول بعد حين لصورة أخرى من مأساة أمه، و”قدرية” التي رفضت طريقة تزويجها، فظهرت له بشخصية نكدة وحزينة مغايرة لما هي عليه، وحينما واجهها أخبرته:”اسأل الحكيم اللي كان بيعرضنا عليك زي بضاعة بايرة بيدللوا علليها في السوق،إحنا مهما كان بني آدميين ياا..ياابن رضوان بيه”.

وأيضاً في حبيبته “جميلة”التي اشترطت على خطيبها “سيد” الاستمرار في عملها، وأن تكون العصمة في يدها حماية لها،في تمرد على ظروف الفتاة الريفية، كما في رفضها لفارس، مراراً خشية تحوله لصورة أخرى من أبيه. وكذلك أخته “ليلى” التي هجرتهم بعد حادث ظنوا أنها ماتت فيه، ورفضها للرجوع إلى بيت لم تشعر يوماً أنه بيتها،وفضلت العيش والعمل في الشوارع على العودة لظروفها الماضية.

ليست الأمور دائماً كما هو ظاهرها، فيظهر التناقض كسمة رئيسية في شخصيات الرواية، فشفاعة تحكي عن البيه بأن “الانضباط والقسوة المشهور بهما أتاحا بجوارهما مكاناً في نفس القلب لهذه الشفقة التي اختصها بها”،إضافة إلى تأثره حينما علم بضعف نظر ابنته ليلى، ثم موتها، وأيضاً موت قدرية زوجة ابنه.

وهمام الذي يعلم الجميع أنه لص، نكتشف جانباً آخر له، من الوطنية، والمساهمة في تأديب الضباط المجرمين، وكرهه للظلم، كما أن فارس الذي يبدو منصاعاً لوالده يظهر تمرده حينما طلب من سوزان الزواج “أحس بوجهه يتقشر مع نطق الكلمتين،وقعت عنه بقايا سطوة أبيه التي اكتشف زيفها وفقدت هيبتها في السجالات والقفشات الساخرة التي ابتدعها لتزجية الوقت شباب يختبئ من عسكر الانجليز.وكذلك “متولي” صديق فارس الأزهري، الذي يبرر السرقة والغناء.

وتستمر مركزية البيه حتى بعد موته، الذي آثار ارتباك الجميع، فهمام ابن مبارز الذي كان يعيش على أمل الثأر لأبيه من البيه أصبح “يربكه إحساس عارم بالخواء،بأن مبرر اختبائه وربما مبرر وجوده أيضاً قد انتهى بموت رضوان البلبيسي“. وسعاد هانم التي لطالما عانت مع البيه، تطلب من ابنها ارتداء بدلة أبيه، في رمزية لأن يكونه هو “مع بعض التعديلات ولا يهمها ما يريد هو”.

وكما فشل الواقع في الخروج من قوقعة مركزية المال والسلطة، حيث فشل الحراك الثوري، واندثرت سريعاً بذور التمرد، وندرت التظاهرات، وكثر العراك بين الأحزاب، وزاد التشهير وترويج الشائعات على صفحات الجرانين، وحتى بدروم “مسك الليل” الذي كان مسرحاً لأعتى المعارك الفكرية تحول لوكر لمتعاطي الحشيش والخارجين على القانون.

فإن موت البيه لم ينجح هو أيضاً في إخراج الجميع من سطوته، فرغم اعتراض “فارس” علي بدء هذا الميلاد الجديد له وللقرية بكذبة تتمثل في تصديق صلاح والده، إلا أن الواقع أجبره على الاستسلام مع ارتفاع الأصوات المؤيدة للبناء “فذات ظهيرة حارة أطلقت الأعيرة النارية في الهواء احتفالاً بانتهاء البناء”، ومع ذلك فشل شذى شجرة ذقن الباشا في التغطية على فواح الرائحة الكريهة المنبعثة من الجثة.

مقالات من نفس القسم