نورة عبيد
أخبرتني في قلق عن القصّة الّتي باتت قصّتها. بدأت الحكاية في الشّارع. ذاك الشّارع الطّويل الّذي أرهقها. كانوا ثلاثة؛ هي ومنير وحافظ. لم يكن يجمع بينهم غير اللّيل. فلكلّ شأنه وشؤونه. كانت تلحّ عليهما ألاّ يتركانها للّيل. وكان اللّيل بالنّسبة لها يوما واحدا. ذلك اليوم الّذي تغادر فيه مقاعد الدّراسة وقد أغشى النّهار. ولانّ منزلها بعيد عن محطّة الحافلة ثلاثة كيلومترات، اضطرّت إلى أن تستأنس بحافظ ومنير. فهما ولدان واللّيل لا يخيف الرّجل تقول أمّها. فلماذا لم تكن ذكرا وتتخلّى عن تذكير حافظ ومنير بأن ينتظراها. والحقّ دائما ما يلومانها عن هذا التّذكير. فهي كأختهما وابنة شارعهما وزميلة دراسة وجارة أيضا. فتفرح بكلامهما. لكن لم تطمئنّ لهذه الأخلاق الرّفيعة مرّة. كان بداخلها شيء يخبرها بأنّها ستكون وحيدة بالشّارع، لو لم تذكّرهما بمصاحبتها. وتشدّد وهي تذكّرهما بخوفها من اللّيل. فيلومانها مستنكريْن ما تبدي من إهمال لحرصهما. ومع ذلك كانت لجوجة. اللّيل يا إخوتي كسوة فتّاكة. واللّيل فرصة المارقين. واللّيل ناقوس الغرائز والحواس. هي لا تذكر أنّها قرأت عن اللّيل أكثر ممّا قرأ أبوها. وهي لا تعرف عن اللّيل أكثر ممّا تعرف أمّها. فهي قد أخبرتها أنّ اللّيل ساحة حرب. ومحارب اللّيل لا يرضى بالخسارة. كانت تراقب ما يحدث باللّيل في رأسها. تغزوها الصّور وينهال الكلام عليها كشلاّل. فتحارب ليلها ما استطاعت. كانت وهي تحارب إيقاعات ليلها تكاد تفقد عقلها. فتستفيق مكسّرة الأطراف، ثقيلة الرّأس فاسدة المزاج. وهذه الحرب وحدها تجعلها تهاب اللّيل وتجلّه. في ذلك الخميس الأبيض، لم تلتق بحافظ ومنير في الحافلة. فبحثت عنهما بالمعهد، لكنّها لم تجدهما. بحثت في الصّباح. وعادت للبحث عنهما بعد الغداء. وجدتهما بقاعة المراجعة. وقفت بجانبهما. فأخبراها أنّ الأستاذ أرجأ حصّة الصّباح للمساء لإجراء اختبار. وقبل أن تذكّراهما، نظرا إليها في غضب قائلين “موعدنا السّادسة بالحافلة”. فابتسمت لهما واطمأنّت. السّادسة شتاء ليل حالك. والعابر بشارع الغابات الطّويل قد يهلك. والسّادسة شتاء مطر وأنواء وقطّاع طرق واغتصاب تقول أمّها. فخافت الأنواء والأمطار وقطّاع الطّرق والاغتصاب. مضت لقاعة الدّرس غير مطمئنّة. كان المطر غزيرا. تقرع النّوافذ زخّاتها. وريح باردة تشبّ في أجساد التّلاميذ والأستاذ. والنّصيب الأكبر من البرد لأستاذ الفلسفة الّذي لا يرتدي معطفا أبدا. فكأنّه متدثّر بالأفكار. كان يشرح نصّا لشوبنهاور. وكنّا نحاول تفسير قدرته على تحمّل برد الشّتاء دون معطف. ربّما انتبه لأسئلتنا وحيرتنا. فدعانا إلى فهم العمق والأسباب… ولا عمق لي قالت لي وهي تروي ما جرى لها. غير أن أجد حافظ ومنير. فاللّيل قد كلكل. وفي ذلك المساء غطّت بلاط ساحة المعهد مياه المطر المهيار. فاضطرّ الأستاذ إلى تسريحنا قبل ربع ساعة. والحقّ لغزارة الأمطار اللاّفتة، فتحنا جميعا مطاريّاتنا، وكأنّ وقع المطر على سقف القسم نقر على رؤوسنا. فضحك الأستاذ. وقالت لي وهي تروي ذلك في عذوبة واستمتاع ” لو حدث ذلك اليوم، لسارع أحدنا بالتقاط صورة طريفة للمشهد. وأسند لها عنوانا “مطريّات ولا مطر!” لكن هيهات! لم يكن ثمّة هواتف محمولة. ولا الهواتف القارّة انتشرت بالمنازل. ووجدت نفسها بالحافلة واللّيل وخمسة تلاميذ، ولا حافظ ولا منير. لم تدر كيف مضى الوقت من المعهد إلى المحطّة. لم تدر كيف نزلت من الحافلة. وهي واللّيل والطّريق والجوّ الممطر. واللّيل لا خلّ ودود له. لفّت جسدها في المعطف، وتحته أحكمت شدّ محفظتها إلى ظهرها، وتركت بها المطريّة. استسلمت لمصيرها وحربها. لم تدر من يحمل من؟ أهي تحمل الطّريق أم يحملها؟ واللّيل كيف نسته؟ لم يعد ليلا الطريق فحسب همّها وغريمها! بحثت عن الضّياء. يقودها القلب؛ دقّاته لضياء الطّريق. كانت خطواتها كخطوات جنديّ؛ ثابتة وسريعة. وكانت عيناها تشيّع النّظرات إلى الأمام دائما. لم يمرّ بالشّارع مارّ أو سيارة. حتّى كلب لم يمرّ. ناصفت الطّريق، وبدأت تكذّب خوف النّاس من اللّيل. فالشّارع فسيح. والمطر أنيس. وجسدها في المعطف نبّاض. فلم هذا الخوف؟ كانت تواسي نفسها بخيالاتها. ولا تعرف كيف برق برأسها حديث أبيها عن اللّيل والطّريق والخوف من البشر. أمّا الباقي أنيس لطيف. حتّى الكلاب قالت له يومها! فأخبرها أنّ كلاب الطّريق تكتفي بالنّباح وعلى عابر السّبيل تجاهلها حتّى لا تلحق به أذى. حين بان لها ذيل كلب مستوبص تحت شجرة شبّ فيها البرد. كادت أن تسلّم عليه لتنقل قلقها أو تكسره. والكلب قالت كان مهتمّا بشؤونه حين اقتربت منه. كان يركب كلبة ويستزيد. حينها تذكّرت حديث الاغتصاب. فأثقل عليها ما بقي من اللّيل بالطّريق كما ثقل معطفها على كتفيها. أوشكت على الصّراخ لولا ضياء مصباح منبعث من منزل بعيد. شارع الغابات، شارع جديد بتجمّع سكنيّ من ضواحي الدّنيا. شارع تجاورت حفره. ومساكن تباعدت وانغلقت. ذاك الضّوء البعيد أربكها. فكّرت في اليد الّتي أنارته، وما خلف اليد من نوايا و في المنزل من زوايا. هالها أن يعترضها البشر. فرمت بأصابعها في بركة ماء تبحث عن حجر. فمنزلها أبعد من مرمى حجر. غزتها فكرة الاغتصاب. فكادت تفرّ من معطفها. فانهالت شتما على الكلّ. وهناك على بعد مائتي متر على حافة الطّريق اليسرى، لاح مجمع شرارات. فضحكت من تفسيرها؛ أنّى لكانون أن ينتصب في قلب المطر! فإذا هي قطط في زاوية مقبّبة تستمتع بنشيد الدّفء. قطّ يرخي لبانه مثنيا ذيله على أخمس قدميْ قطّة لا يرى منها غير العينين. حينها قالت بدا المطر خفيفا ناعما. وخلف السّحاب نجوم متفرّقات تلمع. لقد صفا الجوّ، ومازلت بالطّريق واللّيل ضياء. نشر قلبها خوفه ورهبته. وكشف الطّريق عن عريه وسكّانه. فأسبغت من شتائمها ما قلّ ودلّ على الطّريق والقطط والكلاب وحافظ ومنير. ولعنت وجودها والوجود. وما إن تخطّت القطط، حتّى فتحت معطفها، ونثرت فرو جزئه العلويّ الّذي يحفظ رأسها. تحلّلت من المعطف. ثمّ لبست محفظتها كما تلبس الأمّ طفلها. فانتبهت ساعتها فقط لتجمّد قدميها. إذ تسرّب الماء من فردتيْ الحذاء إليهما. لم تتذمّر من ذلك. بل وجدت فيه شكلا من أشكال النّضال. فعلى الأقلّ تتبلّل مثلما تبلّل الأطفال وهم بالطّريق إلى المعاهد والمدارس ومواعيد الحبّ. في لحظة نسيت كلّ شيء. اطمأنّت لنقطة النّهاية. منعطف فحسب وتكون في حرم المنزل المقام على أرض منخفضة بشارع الغابات. لم يبق عن السابعة مساء غير ربع ساعة. فبدأت تتخيّل العشاء السّاخن والسّفرجل المغلّى الّذي تتقن أمّها إعداده. ارتفعت الرائحة إلى رأسها. فخفّت قدميها، وكريشة أخذها الطّريق. فجأة تسقط في بركة تحوّلت إلى مستنقع. لا تتذكّر إلاّ أصوات شبّان تدفعها إلى السّقوط معهم كلب. تذكر أنيابهم وضحكهم وتهامسهم… سقطت في البركة. فإذا بضفدعة تنطّ على رأسها. فأغمي عليها… هي لا تتذكّر ما حدث بالضّبط. وجدت نفسها على أريكة بقاعة جلوس تعالج أمّها شهقات تغلبها.
……………….
* كاتبة تونسيّة