سينما نهاية العالم

سينما نهاية العالم
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

أحمد عبد الرحيم

فى السنوات الخمس الأخيرة من القرن العشرين، راجت أفلام الكوارث الهوليوودية التى تدور حول نهاية العالم. هل كان السبب النبوءات التى ذاعت وقتها عن نهاية العالم بنهاية القرن العشرين؟ هل كان الأمر محاولة لعودة أفلام الكوارث، التى ازدهرت فى سبعينيات القرن نفسه، ولكن بشكل أكبر حجمًا وأكثر صخبًا؟؛ فبعد أن كانت الكارثة خاصة بمشكلة تتعرّض لها طائرة فى سلسلة أفلام Airport أو مطار (4 أفلام من سنة 1970 إلى 1979)، أو زلزال يضرب مدينة فى فيلم The Earthquake أو الزلزال (1974)—صار الأمر يشمل العالم بأسره!، أم هل للأمر صلة بأبناء المدنية الحديثة، الذين صاروا يطلبون مخاطرًا أعظم فى الأفلام، ليُفرّغوا من خلال الانتصار عليها ضغوطهم النفسية الثقيلة، وكم إحباطاتهم المتنوعة؟ أيًا ما يكون، فإن نهاية العالم صارت “موضة” فى أفلام تلك الفترة، وتمت معالجتها بطرق مختلفة.

فى فيلم Independence Day أو يوم الاستقلال (1996) للمخرج رونالد إيميرش، يتعرّض كوكب الأرض لغزو من جنس فضائى متطور، ونشاهد كيف أن كل القوى “الأمريكية” تتحد وتنجح فى هزيمة ذلك العدو وإنقاذ العالم، فى يوم ذكرى استقلال الولايات المتحدة عن المحتل البريطانى؛ وكأن استقلال أمريكا هو استقلال العالم! جنح الفيلم لتصوير قوة أمريكا على نحو استعراضى، وقدّم كل مواطنيها كأبطال؛ من طيار حرب فيتنام السكير، وراقصة التعرى، إلى رجل العلم اليهودى العبقرى، حتى الرئيس الأمريكى شخصيًا، وأظهر بقية الدول إما عاجزة، أو متخلّفة (مع عدم نسيان الصورة الكلاسيكية لهمج يمسكون عصيًّا ويتقافزون أمام أهرامات مصر!). أى أن الفيلم كان مغامرات دعائية أمريكية، حقّقت ملايين الدولارات بتجسيدها الحماسى للمعارك الحربية بين الفريقين، وتماهت مع فكر “النظام العالمى الجديد” الذى بدأ تجسده فى التسعينيات.  

فى العام ذاته، ظهر ما يمكن اعتباره “الرد” على هذه الدعاية، وبواسطة فيلم هوليوودى آخر وهو !Mars Attacks أو هجوم المريخ للمخرج تيم بيرتون، الذى عرض الموضوع عينه، غزو العالم من خلال جنس فضائى متطور، وباستخدام – تقريبًا – الشخصيات نفسها، لكن فى نسخة عكسية مثّلت نيجاتيف ما شاهدناه فى يوم الاستقلال. فأغلب الشخصيات الأمريكية غارقة فى الطموح المادى، وأوهام القوة، والانهيار الأخلاقى، والتخبط الروحانى. لذا يتمكّن الغزو من تدمير كل هذه الشخصيات المتآكلة داخليًا، فى سخرية عميقة حوّلت الفيلم إلى كوميديا سوداء بارعة تتهكم على ذلك المجتمع، وتنتقم من ضعفه وغبائه. ولا يكون الخلاص فى النهاية إلا بالبعد عن المادية، وإنقاذ من نحبهم ونسيناهم؛ كالجدة فى دار المسنين، والعودة إلى القيم الأصيلة؛ حيث تُهزَم الكائنات الفضائية باستعمال الأغانى الرومانسية القديمة التى راح زمنها، زائد التمسك بالروحانية؛ خاصة عند ربط نجاة الملاكم الأسود فى النهاية مع تحوله للإسلام.

فى عام 1998 ظهر فيلم Armageddon أو نهاية العالم، للمخرج مايكل باى، وهو عمل تجارى آخر عن نيزك ضخم متجه إلى كوكبنا، ولا جدال أنه سيدمره تمامًا، والحل فى إرسال فريق إنقاذ عبر مركبة فضائية، لضربه كى يتفتّت قبل وصوله إلينا. كما يوم الاستقلال، غرق الفيلم فى جو الأكشن، وإن كان إلى حد مُبالَغ فى إثارته بصريًا وصوتيًا، ومال إلى إبراز قيم البطولة والتضحية، مع شىء من الكوميديا، صانعًا مغامرة مسلية تؤكد التفوق العسكرى والعلمى الأمريكى؛ مُمَّثلًا فى مؤسساتهم الدفاعية ووكالة ناسا للفضاء، مع تفوق المواطن البسيط؛ مُمَّثلًا فى مجموعة الصعاليك الذين يقع عليهم الاختيار لتنفيذ المهمة فى الفضاء.

وفى العام نفسه، ظهر – أيضًا – الموضوع عينه فى رؤية مختلفة، من خلال فيلم Deep Impact أو الصدام العميق، للمخرجة ميمى ليدر. فهناك – مُجدّدًا – نيزك ضخم يقترب من الأرض، وفريق إنقاذ عبر مركبة فضائية، لضربه كى يتفتت، لكن – على النقيض – يبتعد الفيلم كليّة عن الأكشن أو الكوميديا أو إثارة الانفعالات العابرة، وإنما يعالِج الأمر من زاوية إنسانية بحتة، تُلقى الضوء على مجموعة من البشر، وكيف تتأثر حياتهم عقب معرفتهم بالخبر، مُستعرضًا ردود الأفعال تجاه الموت المرتقب، ومعضدًا أحاسيس الحب تجاه من سنفقدهم قريبًا، فى رسالة عاطفية مفادها أن تقدِّر أعزاءك، وتعلن مشاعر حبك، قبل فوات الأوان، ونهاية العالم مجازيًا وحرفيًا. لتأكيد الاختلاف عن بقية أفلام الكوارث التقليدية، يضرب جزء من النيزك الكوكب، قاتلًا آلاف البشر، ويموت كل أفراد فريق الإنقاذ فى مهمتهم، لكن مع حشد من مشاهد شاعرية تنطق رسالة الفيلم، وتؤكد أهمية قيم نبيلة كالتآزر والإيثار؛ لنرى عائلة تضحى بنفسها من أجل أبنائها، وغباء قيم أخرى كالأنانية والخصام؛ لنتابع البطلة وهى تُفضِّل الموت مع أبيها الذى خاصمته عمرًا، باعتبار أن الموت مع من تحب أفضل من الحياة بعيدًا عنه.  

وهكذا، بينما دارت هذه الأفلام عن كارثة واحدة، فإن كلًا منها كان له مضمونه ومذاقه. فعلى الرغم من أن هوليوود مصنع الأحلام ووطن الترفيه، فإنها لا تلتزم بكتاب قوانين واحد، أو تخضع لصيغة لا تتغيّر، وستجدها تعرض موضوعًا مثل نهاية العالم فى أطر لا تشمل الخيال العلمى والأكشن فحسب، وإنما تمتد للكوميديا السوداء والدراما الصرف؛ ضامنة للاختلاف هامشه، سواء كَبُر أو صَغُر. نعم، غرض شركات الإنتاج الكبرى هناك ربحى فى المقام الأول، ولكن ثمة إيمان باختلاف المشاهدين، وخطط لتوفير ما يرغبون فيه، لأن اعتبار كل المشاهدين مشاهدًا واحدًا، وكل الأفلام فيلمًا واحدًا، لهو نهاية العالم بحق؛ وهى كارثة نعيشها فى سينمانا حاليًا، إلى حد كبير.    

==============

نُشرت فى مجلة أبيض وأسود / العدد 24 / نوفمبر-ديسمبر 2013.

مقالات من نفس القسم