حسين عبد الرحيم
شوارع الزمالك صامتة، وتليفون المخرج لا يرد، في إبريل. كانت هناك زمة وافول، قبل الغروب، النيل شمله الصمت فركد الماء، منذ الصبح وأنا أراه على هذا الحال، عدت من معهد السينما، ورأيت الكوميديان القصير يعبث بفردة جوربه، ينتظر دورا جديدا في قلب الليل، عدت لوسط البلد، فقابلت صاصا بشارع الجمهورية، تلصصت، قريبا من باب سيارته البويك، فأنزلت الغندورة تختال في الإستريتش الأسود وبلوزة بيير كاردان حمراء زاهية.
احتجبت خلف محطة البنزين ورأيتهما وهما يصعدان مؤسسة الجمهورية لدقائق، سألت نفسي: لماذا لم يرد حسام الدين صاصا على مكالماتي في بيته، تأكدت بانه كان هناك في شقة السراي، حاولت الاتصال من جديد عصراًـ خاصة وأنه كان قد هبط من المؤسسة بعد ربع الساعة بالضبط وبيده الغندورة، والمارة في حالات دهشة وطلل من أعين البشر كأنه طلقات حارقة، خارقة للجسد الأشقر والشعر الأصفر المنسدل حتى ثلثي الظهر الممشوق في ليونة، ملامحها شامية وعينيها زرقاوين، والكتكوت لابد مابين فخذيها وبائع الشاورمة يقطع اللحم الساخن ظهيرة، وعلى رائحة الشواء كانت تضحك بخلاعة ارستقراطية.
لماذا لم يرد على الهاتف، سألت السيدة زينب زوجته الذي لم أخبرها بالطبع بأنني رأيته في وسط البلد، واختتم مشواره بالولوج لشارع الألف فاعودة لمكتب إنتاج أفلام مصر العربية، قريباً من قهوة بعرة، كانت دهشتي قد تحولت لحالة من السخط والحزن والكدر على هؤلاء النسوة والرجال وبعض الأقزام المنتظرين لدور ما صغير على الشاشة نظير مبلغ لا يتعدى المائة جنية ليعودوا كما كانوا تلالا فوق كراسي بعرة.
من العاشرة صباحا وحتى بعد منتصف الليل، كانت صحيفتي الليبرالية قد نشرت خبرا بالأمس في صدر ملحق “نجوم وفنون” عن تلك الممثلة التي ولدت بالكويت لأب سعودي وأم شامية من سلالة تركية تعود للقرن الثامن عشر، تأكدت من المحرر البورمجي، بسيط، وسألت السيدة زينب من جديد: هل مرض الأستاذ فجأة لتقول لي بدلع: انت عارفه هوائي ويكره الرتابة، لكنه بالتأكيد سيكون أمام التلفاز في تمام السادسة، عدت امشي في شارع السراى فقابلت مودي الإمام ولم أعرف أنه يقيم في رقم 20 شارع السراي، حدقت لصفحة النيل، وغبت، كثيرا غبت، وتذكرت آخر عبارة أو عنوان على غلاف وليم شكسبير “حلم ليلة صيف”، ووجدتني أغيب في العوامات المتراصة على نيل العجوزة، أجتر سيرة أنيس زكي بطل ثرثرة فوق النيل، أعاود الكرة للطل صوب أشباح أحسها في خيالي وليس لها أدنى وجود بواقع ما عشته.
عدت أغوص داخل نفسي، أتذكر اول لقاء مع صاصا، وكلام الأستاذ عن الفارق بين الطل للنيل ونظرتي للبحر هناك في بلادي، الموج يصطدم بصخور صماء، وأنا أوغل في الذكرى التليدة، عن ماذا أكتب، عن أبي الغارب، عن أمي التي تسافر يوميا لبلاد تعرفها ولا تعرفها، عن فاطمة وشعرها الجميل وغنائها مواويل العشق واللقا وهي تغسل الأوعية على شط جزيرة الورد من الجانب الآخر، أقول لنفسي: كم رسالة بعثت بهم إليك وأنت لاتستجيب، متى تقل لي هنا توقف، واكمل، هذه حكايتك انت، مابين البحر والنيل والسفر وعشق الليل، والطلل في العتمة خلسة لتلك الأشياء التي يزداد تالقها وزهزهتها وذاك البريق الأخاذ للشعر والتلال والربى والشراشف، والغور الابدي الاحمر وأنت تمدد ساقيك في ثمة براح مابين غابة من سيقان البنات.
…………..
* من “بار توماس”