سيرتي اللحظية.. عن سيرة خيال هدى حسين في الصحو والنوم

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

عبير عبد العزيز

كانت اللحظة الأولي حينما قرأتُ عن خبر حفل توقيع كتاب "ورأيت روحي بجعة" لهدي حسين في الفيس بوك، وقررتُ الذهاب لمكتبة الديوان لحضور الحفل. هدى ليست صديقتي ولم يحدثني أحدٌ عن الكتاب، لكني منذ فترة أخذتُ قرارًا بدعم الكتابة الجيدة، لم يعد كافيًا دعم الأصدقاء ومن يدعونني فقط لحفلات التوقيع. لكن قررتُ أن أدعم من  أحب كتابتهم عن بُعد، ولا يهم أن تربطني بهم أي علاقة أو مجاملة، وكانت هدى حسين شاعرة أحبها لكنني لم أستطع الذهاب للحفل، تضايقتُ قليلا لكني اشتريت الكتاب بعدها بأيام.

كانت اللحظة الثانية مفاجأة لي، فالكتاب لم يكن ديوان شعرٍ جديد لها، فهو كتاب سيرة. لكني أحبُ ما تكتبه تلك البنت، وكنتُ سعيدة عندما قرأت الكتاب لمرتين متتاليتين، وتلك لحظتي الثالثة،  فقررتُ الكتابة عنه لدعم هذا الكتاب وحدثتُ صديق لي عن ذلك، بل أخذت أحدث الجميع ممن حولي عن جمال كتاب هدى، وبدأت في كتابة بعض الأفكار كمسودة أولي، أثناء ذلك زارني قريب لي من الإسكندرية وكان شابا يشعر بالملل والضيق لأنه في بدايات رحلته في الحياة، وهو شاب مثقف وطموح، قضى عندنا يومين وعندما قرر السفر طلب مني أن أعطيه كتابا يغير شيئا بداخله، وجدتني على الفور أحضر كتاب هدى، إنها لحظتي الرابعة. وقلتُ له: "كان من الصعب أن أفرط في هذا الكتاب، لأني في وسط الكتابة عنه لكن لا يوجد غيره الآن يناسب حالك وما طلبته، وانتبه أثناء قراءته من ذكر الإسكندرية التي جئتني منها، واسمك الذي يُردد كثيرا في الكتاب، ربما يكون دليلك في القادم من حياتك". فلقد كان اسمه أحمد.

توالت الأيام والشهور، ولم أكمل كتابتي عما أريد، لكن في اللحظة الخامسة أحضرتْ شاعرة صديقة نسخة لي من الكتاب، وكنت في حاجة لقراءته مرة أخري لأستعيد بعض أفكاري حوله. وحدث أن سافرتُ وانشغلت كثيرًا. وإذا بي أقرأ خبر فوز الكتاب بجائزة ساويرس على الفيس بوك، وتلك لحظتي السادسة. ففرحتُ جدًا لأنه كتاب يستحق وأنا أعلم ذلك وكتبتُ لهدى تهنئة على الخبر أقول فيها: "مبروك.. إنه كتاب يستحق"، تلك كلمات ليست للمجاملة مثل كلمات كثيرة تملأ الفيس عن أشياء كثيرة، لكنها عن دراية.. كانت من القلب.

وفي لحظتي السابعة اتصل صديق قائلا: أليس هذا الكتاب الذي حدثتينا كثيرا عنه، أين كتابتك عنه؟؟ فقررتُ استكمال الكتابة، ليس لأنه كتاب حصل على جائزة، وليس لأن من كتبته شاعرة أحبها مثلما أردتُ حضور حفل توقيعها. لكنه كتاب نال جائزة قلبي فور قراءته، وهناك قرار لي بدعم كل ما أحب، فكانت تلك لحظتي الهامة التي ربطتني بلحظات مدهشة مع سيرة خيال هدى حسين الرائع في صحوها ونومها وها أنا أشارككم بعض هذه اللحظات..

هذا الكتاب يزيح عن رأسك الغطاء لترى عالمًا لم تبتعد عنه فقط ولكن عالمًا ربما لم تره هكذا من قبل، فالكاتبة تقدم رؤية صافية ومدهشة عن تماس بين عالم أحداثه الواقعية الواعية بها والظاهرة للآخرين وعالم أحلامها وهلاوسها وتنبؤاتها. تشعر معه بأن أحلامها هي أحداث حياتها اليومية، وان أحداثها الواقعية المعاشة هي أحلام مبهرة وصادمة، تماس متناهي في المتعة والشغف المتواصل. تحكي منذ الوهلة الأولي عن معني كلمة الحلم منذ كانت في الثالثة من عمرها فتقول:  " لم أستطع أن أسأل أمي: أماه أنا أحلم.. فهل هذا طبيعي أم أنا مريضة؟".

المرض يأتي ويذهب، لا يد لنا في وجوده، وربما يكون مزمنًا إذا وُلد معنا، وصار كظلنا لا يفارقنا حتي لو غاب في بعض الأوقات.

إنها تحكي عن سريرها الذي يأخذها إلي مكان ما ثم يعيدها في الميعاد المناسب فهي غير مؤمنة في تلك اللحظات أن الأحلام تأتي للواحد بل هو يذهب إليها دون إرادته فهناك من يأخذه، فهي مأخوذة دائمًا، مندهشة، متفرجة ومفعول بها أكثر من فاعلة، تترك نفسها لهذا العالم الذي تؤخذ إليه ليترك آثاره عليها وعلى تفاصيلها وخاصة في الفصول الأولي من الكتاب. ففي فصل "أحلامي" تتكلم عن فترة المفعول به، فهى المتلقية دائما والمبهورة والغير عارفة بالأمور، فتقول: "كلمة حلم لم تكن بعد دخلت قاموس الكلمات التي أعرفها"، لديها خوف من أن تتوه، وتبحث دائما عن الأمان الذي يفقده الإنسان غالبا في عالم الأحلام لأنه لا يسيطر على شيء.

تلك المتفرجة ليست فقط علي حلمها ولكن على إدراكها لأنها تذهب لهناك وهي مفعول بها لكنه مفعول في كامل وعيه لتحاول السيطرة في اللحظات الواقعية لحياتها الحقيقية أي عندما تعود فتقول:

"أفتح عيني بعدما أسمع أصوات كل من في البيت وأميزها جيدًا، كنتُ آخر من يزيح عن رأسه الغطاء"، هي تملك زمام زمن ووقت الإزاحة وهي لا تملك زمن العودة ولا طريقا لها، لا تكتفي بسماع الأصوات بل الوقت لتميزها جيدًا، فهي تبحث عن الطمأنينة والمعرفة لذلك جعلت السرير مؤنثا، هو مصدر المعرفة والانتقال وليس للثبات والنهاية فهو نقطة انطلاق، وهو أول خطوة في الإرادة الغير واعية لفعل الأشياء والاقتراب منها. وفي ذلك السياق تصنع تعددية مبتكرة تساندها للتوازن مع الوحدة التي بداخل عالم الأحلام والوحدة التي هي من خِصالها مع كل ما هو متحرك، فهي تظن أن لكل واحد العديد من الأمهات والآباء فتقول:

"لم أستوعب في هذه السن أن لكل واحد أمًا واحدة وأبًا واحد. كانت أمي أمي، وجدتي لأمي أمي، وسريري أمي، وأسوان أمي، وشرفة حجرة نومي أمي.... وكان أبي أبي، والأقصر أبي، والبحر أبي، وبيانو المدرسة أبي..."، ولها أخوة تلعب معهم: الصلصال والمنبه وعلب دواء جدتها وغيرها. وكان لها أطفال من الشكولاتة، تأكل كثيرا منها حتى تكبر معدتها وتلده لها. لكنها فور كل ذلك تقرر أن تبدأ  في الفعل والتأثير، فبطريقة شكرها للسرير ومشاركته أول لعبة معها لتأخذه لأماكن مثلما أخذها وكأنها ترد الجميل وتتعامل بندية ووعي ومحاولة التأثير في الآخر والبحث عن دور، وإنها لا تترك العالم يُحكم السيطرة بل تلك أولي محاولاتها للإمساك بزمام بعض الأمور. ففي ذلك الفصل تكشف رحلة البحث عن الذات الحقيقية وطريقة نحتها وتكوينها.

تقول: "عرفتُ كلمة رأي قبل أن أعرف كلمة حلم وكلمة شرود".

هي تحكي هنا عن التأريخ فهي تؤرخ لمعرفتها الشخصية للكلمة وليس لتجربتها المعاشة. فتجربتها مع الأحلام تسبق تجربتها مع الرأي ولكن معرفتها للكلمة التي تعبر عن تلك التجربة "القاموس" كانت سابقة لذلك. استعملتْ الكاتبة تيمة السؤال المطروح على مدار الحكي في كل الكتاب. فعالم الأحلام تمتلك مفاتيحه بكيفية إدارة الأسئلة حوله وفيه، والسؤال النقطة الأولي لاستكمال الوعي والمعرفة بالواقع. فبعد سؤالها الأول حول الحلم هل هو مرض؟ جاء الثاني وهو سؤال طرحه أبوها عليها وليست هي من طرحته عندما سألها : وأنتِ ما رأيكِ ؟ وهو السؤال الأول التي تذكره وقد طرح عليها. فالأم من تُطرح عليها الأسئلة الأولي، والأب هنا من يسأل. وهي أيضًا تهتم على مدار الكتاب بتكرار ذكر جملة "كانت أول مرة" وكأنها تعلن عن اهتمامها بالمرة الأولى دون باقي المرات فالوقع الأول له سحر وتكوين فريد في النفس وتغيير في الرؤية والوجود.

يأتي سؤالها الأروع ما بين الحقيقة والخيال عندما سألتْ: من أين تشتري الرأي؟، لقد بحثتْ عن رأيها في محل اللعب، وقي محل الحلوى، وعند البقال وفي الصيدلية، ولكنها لم تجده عندهم. كل ما وجدتْ أنهم يضحكون. فهل رأيها هذا يدغدغ ؟!

وتمسك بقاموس الكلمات مرة أخرى لتعيد تعريفها من خلال العالم الواقعي

لتلك الذات الهائمة في عالم الجمال والخيال الممزوج بواقعية وتبحث عن كلمة "الرأي والمصروف" بل وتؤرخ زمن معرفتها بكلمة المصروف قبل كلمة رأي، وقد ذكرتْ سابقًا أن الرأي سبق الحلم في ذلك، وكأنها أرادت أن تؤرخ للأمر هكذا :  المعرفة بكلمة المصروف ثم بكلمة الرأي ثم بكلمة الحلم. ربما المصروف كلمة تتكرر على مسامعها يوميًا، أما كلمة الرأي فتحتاج لرحلة لتجدها وتكتشفها. وتختم  بروعة تلك الكاتبة الحساسة في التقاط أمورها برفاهية شديدة  عندما تذكر نتيجة رحلة بحثها : " لكنني لم أجد رأيي " فهل وجد أحدٌ رأيه في تلك الأماكن إذا كان يبحث هناك بالفعل. وهي تهتم بتيمة التأريخ على مدار كتابها كله وبطرق متنوعة كما سنرى. ولقد أجابها أبوها بعد حوارات كثيرة، رحلات متعددة:

"يا حبيبتي رأيك لا يمكن أن تشتريه، رأيك تجدينه بداخلك يجلس في رأسك، ويخرج من لسانك".

لكن أمها ووالدها رفضا أن تهرش رأسها وتُخرج لسانها من فمها لكي تري رأيها، فصارت تلعب برأيها وحدها في حجرتها وعلي سريرها العزيز. هناك رحلة أخرى هامة  حكت عنها  "رحلة العيش الفينو" مع أبيها، فكان الطريق لشراء أصابع الفينو متنوع بنقاشات بديعة ولحظات هامة في اقتناص المعاني والدلالات، هي رحلة بحث داخل الذات الواعية.

إنها أيضًا تُحدد أدوات الرؤية للعالم، فلا تهتم بالنوع ولا بالعمر ولكن بالحجم ولون الجلد "ما تراه وليس ما وراءه" وهذا ما يحدث للحلم فنحن نرويه كما نراه ونتأثر به ثم نؤوله بعد ذلك ونبحث عن طريقه لفهمه والتواصل معه. وهي تحكي عن أبيها: "قررتُ أن أخبره بالموضوع فهو الوحيد في الأسرة الأسمر مثلي تمامًا وكان هذا يعني لي، أنني عندما سأكون في حجمه سأصبح هو."  وها هي بعد ذلك تحكي عن أول رجل ذكرته بعد أبيها في المدرسة : " سحب رجل أسمر مفتول العضلات، وكانت يده الضخمة بلون الشكولاتة". تتحدث أيضا عن الضخامة والارتفاع للصوت وصليل جنزير الباب الذي يثقب أذنها، فنجدها في "باب العالم ونافذته"عندما تكمل الاهتمام باللون وتتحدث عن تمثال العذراء وطفلها وهو تمثال رخام أبيض وتقول : " لم أكن ساعتها أعرف أنه تمثال العذراء والطفل." دائمًا تؤكد المعرفة وعدم المعرفة واللحظة الفارقة بينهما، وهي تهتم في هذه السيرة باللحظة التي تسبق المعرفة ما توازي الحلم وربما أيضًا بلحظة لقاء التجربة بتعريفها الواقعي. مثل لحظة الوصول لحل شفرة معينة. وتؤرخ هنا مرة أخري فتقول:

"كان علي قاعدة التمثال لوحة معدنية بلون جميل، عرفتُ بعدها أسماء المعادن، وعرفتُ أن اللوحة كانت نحاسية".

وتتحدث أيضًا عن مقابلتها لامرأة قصيرة سمراء، وفتحت لها بابًا أبيض في الجدار المقابل في المدرسة. بل تتكلم عن اهتمامها بهذا اللون في أحد فصول الكتاب الأخيرة "الإسكندرية - بنغازي" فتقول: "لم أكن أحب المياه الغازية البرتقالية، كنت أفضل السوداء".

وعندما تذكر عن تمثال العذراء عندما تصورته تحرك من مكانه ليطل عليها من نافذة مديرة المدرسة وتلك حميمية كبيرة وسريعة مع الجماد، وذكرتْ ذلك كثيرا في سيرتها، تقول: "لم يكن من الصعب علينا أنا والتمثال أن نتبادل الحديث، فأنا أعرف لغة الصامتين, لولا لونه الذي يُشعرني بالأسى على نفسي".

 لقد تداخل العالم الذي تحكي عن واقعيته في وصفها لأول يوم تري فيه المدرسة عن طريقة حكيها كأنها تروي حلم شاهدته، وقد ختمتْ هذا الفصل بالتحدث عن لحظة وداعها للراهبة مديرة مدرستها في يومها الأول بمنتهى الروعة قائلة:

"صافحتها بابتسامة مرتاحة بينما لم تكن راحتي كافية لكي أطلب منها كأصدقاء أن تُقرضني نظارتها لكي أري من خلالها كيف تراني؟؟".

وفي فصل "موسي يخطط حربًا" تحكي هنا عن أحلامها الأولي وطبيعة نشأتها، وكيف كانت قصيرة، وفي أحد أحلامها بالطفل موسي الذي يخطط لحربًا، تلتقط شيئا جميلا وهو وجودها اللامرئي في أحلامها الأولي فتسأل وهنا السؤال للذات، لو كانت موجودة بالفعل، لماذا لم يوجه أحد لها الحديث ؟! وتذكر أنها تشاهد نفسها داخل حلم فصار كل ذلك لحظة تسبق لحظة إدراكها بوجودها داخل أحلامها، فكما قلنا سابقا هي غائبة مفعول بها ثم فاعلة ومشاركة ومؤثرة. وتحكي عن قراءة والدها لقصة سيدنا موسي أثناء حلمها بحرب موسي الطفل وكأنها تناقش فكرة أن ما نسمعه أثناء نومنا يؤثر علينا مثلما يحدث في واقعنا بالضبط. وفي حديثها مع أبيها أثناء إحدى رحلات "العيش الفينو" قالت: "أبي، موسي وهارون أخان؟"

 قال أبي: وكيف عرفت؟ قلت: من أختي التي في المرآة، فأنا عندما أحرك يدي اليسرى تحرك هي يدها اليمنى. يعني تفعل العكس. ولهذا هي أختي التي تشبهني وتفعل عكسي، والآن انظر لفمي وأنا أنطق اسميهما: مووووساااااا... هاااااارووون، في الأول أضم شفتي أولا ثم أفتحهما وفي الثاني أفعل العكس. لذلك فهما شبيهان يفعل كل منهما عكس الآخر".

ثم تحكي في فصل "أستطيع أن أراني" عن أول حلم تتذكر فيه أنها رأت نفسها بداخله بل ظهر ظلها في كل مكان كأن الكثافة في التواجد تؤكد إحكام السيطرة وحالة الظل تشير إلى أنه تواجد غير معلن فالظل لا يُعلن عن الهوية الكاملة لصاحبه فرغم انتشارها تحتمي في تلك الحالة. ونجد الكاتبة هنا راوية واعية جدا لأحلامها، فصوت الراوية يضيف ويزيل كما يريد فلا يهم الحكاية أو الحلم أحيانًا ولكن المهم هو اقتناص تلك اللحظة المعاشة وبروزها التي تسبق المعرفة والإدراك لها. حكت عن الحفرة التي مشت نحوها في نفس الحلم ولكنها لا تراها ولكن الذات الواعية تراها، كانت على وشك الوقوع فيها لولا دب صغير جلس بها. تصف الحفرة بأنها تبتلع نخلة لكن الدب الصغير حل المشكلة، لقد ملأها، هنا مفارقة في الحجم والشعور حيث ما تتصوره كبير يكون في حقيقة الأمر تافه وصغير

عندما نتغلب عليه ونهزمه حتى بمساعدة الآخرين حتى لو كانوا الأضعف أو الأصغر. كما تؤكد أيضا على وجود الذات الواعية فتقول:

"أنا التي في الحلم لم ترَ الدب لكني أنا التي أحلم رأيته". وعندما تقول عن الدب: " كان بلون الظل في نهار الصحراء". هي تعود لتتحدث بلغة اللون، وأيضا يطغى عليها اللون الأسود. وها هي تحكي عن علاقتها بالخنفساء في فناء المدرسة، هي لا تخافها مثل بقية التلميذات بل على العكس تريد بشدة اللعب مها ، تضعها على يدها وتوجهها للشمس ليصير لونها أسود فضي. هذا اللقاء الذي يمثل لحظة معرفة جديدة " شيء أسود" ثم ينهال طابور كبير من أسئلتها عن هذا الشيء الجميل الأسود.. أين يعيش؟؟ ماذا يفعل ؟؟ لكن الراهبة كان لها رأي آخر: "إنه ليس جميلا إنه أسود مثل القلب الأسود المليء بالأخطاء".

وفي فصل "الجنة والخديعة البيضاء" تقول: "يقطف زيتونة سوداء بلمعان فضي.. كان طعمها يشبه طعم الأراسيا". وتحدثها عن بائع البطيخ وقرارها بأخذ البطيخة البيضاء المختلفة عن باقي البطيخ ثم يخرج من داخلها دود أسود يدخل تحت جلدها ويحتل جسمها.. وعندما تكلمت عن الأراجوز الذي تراه على الحائط يعاكسها وأمها تؤكد أنه لا يوجد إلا شماعة عليها الزي المدرسي وتقول: "عرفت ساعتها إن ما أراه في الظلام يختلف عما أراه في النور. وأنه في النور هناك أشياء كثيرة تتنكر في هيئة أشياء أخرى". وتقول في فصل "رسم الحدود بحبل":

"أخبرت أمي أنني في الدولاب أتفرج على الظلام".

تهتم الكاتبة بتكرار مناقشة علاقة اللون الأسود بالحياة والناس والأفكار حوله، فجذور ارتباطها بذلك اللون مؤثرة من خلال الذات اللاواعية. وتختم الفصل بسؤال من الراهبة:  " لماذا لا تلعبين مع زميلاتك؟؟".

دائمًا السؤال من يكشف الذات والعالم حولها وكيفية استقبالها للأشياء.. فعندما تحكي عن أحد طرق لعبها: " نلعب معًا بحنجرتي ولساني وشفتي"،

فهي تعود وتستمتع بما تملكه لا تشغل نفسها ببحث عن ملكيات بعيدة عنها فهي توفر طاقتها وتستغل كل ما لديها ولا تحتاج الآخر فعندما تقول:

"صحيح كانت هناك التزامات على الواحد تجاه هذا المجتمع، منها مثلا أن يكون لي أصدقاء من البشر من سني."  لكنها تحكي عن علاقتها بماكينة الخياطة العتيقة ذات الأرجل المعدنية الثقيلة حيث أنها تعتبرها صديقة حميمة لأنها استطاعت الدفاع عن نفسها ضد طفلة شرسة وقعت على رجلها المعدنية. لقد تعلمت الخياطة، وبدأت في استقبال المقص، الكربون، المارك والمزورة في عالمها، وتقول: " كانت الماكينة كإله ضخم تتجمع عنده وتنتهي خيوط الأحداث التي تحدث حوله، كانت مهيبة، وكنت أصادقها وأشعر بفخر شديد".

لكن فور مجيء ماكينة جديدة كهربائية توقفت تماما عن الحياكة وانتبهت لأشياء أخرى.. هي تحب الجامد وليس المتحرك، وتؤرخ لتلك المرحلة بذكرها لتاريخ وصول تلك الكهربائية عند وصولها للمرحلة الثانوية. وهنا إشارة للانتقال أكثر وأقوى من لحظة الحلم للحظة المعرفة. وهذا يؤكدها قولها في فصل "ذكريات":

"الذكريات الحقيقية هي تلك التي عشناها قبل أن نعي أن الحياة لامعنى لها في هذا العالم".

وعندما تحكي عن انتظار بض التلميذات لأوتوبيس المدرسة وكانت المشرفة تجعلهم يضعون أيديهم ورؤوسهم على الأدراج كأنهم في وضع النوم وتحكي لهم قصصًا في بعض الأوقات، لكنها كانت تخترع قصصها الخاصة التي تتشكل عندما تحكيها لنفسها بلا صوت، النوم دائمًا مرادف للحكي، للأحلام التي يأخذنا السرير لها. بينما بقية التلميذات يتأففن من النوم كانت الوحيدة التي يمكنها أن تبقى لساعة ونصف نائمة. وهي لا  تريد نط الحبل مع البنات ولا لعبة الزحليقة التي يتصارعن حولها.

وتؤكد نفس الفكرة عندما تسأل: "هل ينبغي أن أصادق أشياء متحركة؟؟  أشياء للتعامل معها ينبغي أن أتكلم".لابد أن نلاحظ أن الحالم لا يحتاج للكلام أو للفعل المباشر أو للاشتراك مع آخرين، وهي توجه هذا السؤال لدب أحلامها وهو منقذها: "عندما أكبر أحب أن أكون الهواء"." تلك الجملة هي إجابة سؤال أبيها.

وفسرت ذلك بأنها لا تريد أن يراها أحد، ولا يستطيع أحد العيش بدونها، وهكذا عالم الحلم كأنها تريد أن تكون في حلم دائم، وفي جملتها:

"لم يكن والداي يستوعبان ما أقوم به، لكنهما لم يمنعاني". تؤكد بها فكرتها فالحلم ليس به سلطة منع.

وتختم الكاتبة فصل " رسم الحدود بحبل" بسؤال لأبيها: "يا أبي، لماذا كنت تعلمني الحكمة، وأنا ذاهبة إلي عالم محكوم بقوة السلاح. " والسلاح جالب للدم، ورؤية الدم في الحلم تفسده.

وكأن السؤال هو مفتاح للفصل الذي يليه، وهو بعنوان "شرب الدم" وفي هذا الفصل تتناول كتب الأحلام وتفسيرها أي أنها تقترب أكثر من لحظات المعرفة والوعي، وها هي تعود للتأريخ مرة أخرى عندما تذكر أن هناك حلم لا تستطيع نسيانه رغم مرور سبعة عشر عاما عليه، وبعد ذكر الحلم تختم الفصل بالتأريخ مرة أخرى باستعمال الحلم السابق فتقول عنه: "كان هذا الحلم نهاية لمرحلة ما. بعده، بقيتُ فترة طويلة جدًا بلا أحلام". هل كان حلمها بقطرات الدم المجمعة إشارة لفساد عالم أحلامها للفترة القادمة؟..

ثم تؤكد على الفكرة السابقة في بداية فصل "باب الخيال":

"لم يعد هناك مجال للحلم، فقد تخطيت السادسة عشرة من عمري".."كل ما أتذكره أنني فقدت الأحلام وبدلا منها كانت تأتيني "خيالات".. كنت ما أزال محافظة على علاقتي بالجمادات، والحيوانات والطيور.. لكن بالإضافة إلي ذلك بدأت تظهر لي أشياء لا يمكن لغيري رؤيتها. فكان هناك أسد يقف محشورا في الممر الواصل بين المطبخ والصالة.. ".

في تلك المرحلة لم يكن دبا في حلم ولكن أسد يظهر في الصحو، وبدأت الألوان تظهر بعيدا عن الأسود والأبيض، فيكون عرق الأسد بنفسجي، وشعره عباد الشمس، بل هناك خيالات تراها ولا تتكلم معها، فبدأت تستعيذ بالله من الجن والعفاريت.

 لكنها تؤرخ للحظة توقفها عن الاستعاذة  باللحظة التي رأت فيها المجرة والفضاء، وتذكرتْ حينها ميزة أن يظهر لها عفريت في الزي المدرسي. وها هي لحظة معرفة الذات وعلاقتها بالكون وخصوصيتها. ثم تأتي مرحلة استدعاء لتلك العفاريت والكائنات بالكتابة وهذا تأريخ جديد فتقول:

"وأكتب عنهم ما كانوا يتمنون أن يحدث لهم لو كانوا بشرا".

اللحظة المدهشة مع سيرة تلك الكاتبة الجميلة حدثت لي عندما قرأت فصل "أميرة من الجنوب| حيث عرفت تاريخ ميلادها 1972م وهو نفس تاريخ ميلادي، أي أنها تنتمي لنفس برجي الصيني، وأنا أهتم بعلم الأرقام. هي تتكلم في ذلك الفصل عن أنها لم تعش أي حرب، فتتكلم عن علاقتها بالوطن. لكنها تختم بعلاقة جديدة مع أحلامها هنا، فبعد سرد حلمها تعلن عن أن حلمها مجرد أضغاث أحلام وتقول:

"شعرت بالخجل من نفسي ، فقاومت الحلم وتناسيته وواصلت مسار حياتي نافضة عن ذاكرتي هذا الحلم السخيف".

وإذا بلحظتي المدهشة مع سيرة الكاتبة تقوى وتلمع عند قراءة الفصل الذي يليه "رحلات زمنية ومكانية" وبالرغم من أن بداية هذا الفصل تُظهر مدي واقعية الحكي التي زادت في تفاصيل الحكي والنقاط الملتقطة من السيرة وطريقة حكيها إلا أنها فتحت بذكاء شديد بابا سحريا جديدا للتملص من تلك الواقعية الهاجمة على تفاصيل حياتها، فتتكلم عن الميتافيزيقا، ومقابلتها لتلك السيدة السويسرية التي وعدتها بعمل الخرائط الفلكية التي تخصها، وبنفس الفترة ظهرت لها أميرة الجنوب من حلمت بها. لقد قدمت لها النبوءة وقالت:

"لكنني متأكدة أن تعويضا عاطفيا ما سيأتيك من وراء البحر المتوسط".

تذكر الكاتبة أن ذلك كان عام 1997م وهذه هي لحظتي المدهشة فبعلم الأرقام الذي أعرفه جيدا وحسب عام ميلاد الكاتبة تكون أرقام حظها هي "1، 4 ، 7 " وتعبر هذه الأرقام عن أي عمر تتمه الكاتبة يصنع رقم من تلك الأرقام لتكن سنة تغير وتعطي الكثير لها، وبذلك نجد أن الكاتبة قد أتممت عام 1997م عمر الخامسة والعشرين أي 5+2=7 أي رقم7 وهو من أرقامها لقد جاءتها النبوءة في سنة حظها، والجميل أنها تتماس معي في ذلك فنبوءتي حصلت لي في نفس العام وهو نفس العمر بل ارتبطتْ نبوءتي بالسفر للإسكندرية ومنها لبنغازي ثم طرابلس فهل هذا تصادف مبهر أم علم الأرقام البديع ما بين الحلم والحياة..

بعد كلام تلك السيدة سافرت الكاتبة في سيرتها للإسكندرية ثم منها إلي بنغازي ثم منها إلي طرابلس ثم عادت للقاهرة مرة أخرى، مجموعة من الرحلات الجغرافية والمكانية في فصول متتالية حملت رحلات داخلية في الذاكرة ورحلات للبحث عن أماكن وأشخاص واقعية. في فصل ( الإسكندرية- بنغازي) يكون الحلم هو الدليل والمرشد في الرحلة والحكي هنا عن أحداث واقعية ويبدأ الفصل بسؤال:

"لماذا أنت ذاهبة إلي لبيا وحدك بدون أخ أو زوج أو أب أو أبن؟"، كان تعليق أحد أصدقائها على السفر لليبيا:

" حرام عليكي! معاكي فلوس، روحي سوريا روحي لبنان مش ليبيا!..  لكنهم لا يعرفون ما أعرفه. ولا ينتظرهم ما ينتظرني، إنهم لا يفهمون ليبيا. لا يعرفونها كما أعرفها؟ أدلتي تأتي من حلم وأدلتهم تأتي من قنوات إعلامية".

وفي فصل "بنغازي- طرابلس" تتكلم عن قراءة الكف والفنجان معها، وعلاقتها بتنبؤ من ستتزوجه ويحمل حرف ألف. تذكرت أحمد الفرنسي ذو الأصل الجزائري ورحلة الحذاء الأبيض وتحقق كلام الفنجان ، كل هذا وهي في الميكروباص. وتحكي عن مقابلتها لأحمد ليبيا الذي والدته من الإسكندرية وأبوه ليبي، وكيف ساعدها، تقول: "كان في عيني كل منهما حنين إلي بلد الأم. إنهما يشتركان في ابتسامة واحدة أيضا، ابتسامة تشبه أن تقابل قريبا لك صدفة بينما أنت في المنفى".

وعندما تحكي عن حمد هذا الفتي الذي أنقذها هي وزوجها في الحلم وهنا الاسم لم يكنى أحمد لقد حذفت حرف الألف، ربما أنها حصلت على نبوءتها "زوجها ".

العابرون في الواقع مساوون للعابرين في أحلامها دائما لهم دور في المساندة في لحظة احتياج وذعر. وفي فصل "مسألة جغرافيا" تقول:

"مسألة أن أرحل أن أعرف نفسي". فهي توازي في سيرتها بين الأحلام والرحلات المتنوعة ما بين رحلة الفينو، رحلة المدرسة، رحلة الرجوع للبيت، رحلات السفر، رحلة البحث عن فندق، رحلة باريس، رحلة البحث عن حذاء وغيرها.. ومن ضمن أسباب الرحلة لديها " أريد ذلك " الإرادة كافية وحدها لأنها عكس ذلك في عالم الحلم مفعول بها، لا وجود لتك الإرادة لذلك هي تقوم بهذا التوازن.

وفي فصل "طرابلس القاهرة" تعلن عن انتهاء رحلتها عند بيت الشباب وأنها تتابع رحلة شخص آخر وهو هذا الدكتور الذي يحدثها عن حياته، تحكي بواقعية كبيرة صادمة مثل بقية الفصل.

وفي "التمساح الحارس" تقول: "هناك أحلام تمر ولا تترك أثرا، وهناك أحلام قاسية كخيانة من تحب، كما أن هناك أحلاما ولود، منها تخرج هلاوس وخيالات.. " وتعود لتحكي عن الأسد الإفريقي في مدخل المطبخ أو تمساح أخضر، فالهلاوس نتاج أحلام قديمة. إنها تتهتم بموضوع شفرة الحلم، وذلك بمعاونة صديق الذي يؤكد عليها أهمية موضوع الاتجاهات في الحلم والحياة الواقعية أيضًا، ففي "العسل المسكوب" تتحدث عن جغرافيا الروح، الكائنات دائما تأتيها من الخلف، ثم تتحدث عن علاقتها بالأشباح "عبد العزيز وسماح" وبذلك هو الرابط بين الحلم والواقع، الخط الفاصل، وعندما تتكلم عن القطط، وقدرتها على التنبؤ بحادثة علي الطريق للإسكندرية قبل رؤيتها من علاقتها بالقمر وغير ذلك الكثير..

تحمل سيرة خيال هدي حسين في الصحو والنوم الكثير من الاستماتة في الدفاع عن الخيارات، التمرد، البحث عن وعي داخلي خاص وواقع بقوانين جديدة، وهي تستغل كل الطاقات المتاحة للرؤية والمعرفة من طاقات للحلم والرحلة والذاكرة والربط والتحليل والنبوءة والميتافيزيقا وغيرها ليتكون عالم مدهش أضافت لنا الكثير من خلاله بل تماست معنا وهي تمر من أمامنا علي حين غفلة.

 

خاص الكتابة

مقالات من نفس القسم