سيرة جديدة للتمرد

علاء خالد
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

علاء خالد

1

أعتقد ان الذات التي تنتج الشعر الآن، أصبحت ذاتأ مهددة، لا تشعر بثقة في المستقبل. تحولت إلى ذات اجتماعية مهمومة أكثر منها ذات شعرية متجاوزة. هناك تحول في السياق الذي تتحرك داخله الذات الشاعرة، فلم تعد من أولوياته هذا النوع من التفسير والتأويل للحياة. حدث انفصال بين الشعر والسياق الاجتماعي الذي يحوطه، وفقدت الثقافة شعريتها وقدرتها على التخيل. ربما يكون الخطأ مزدوجأ، أن تشعب وتعقيد السياق الاجتماعي أصبح فوق احتمال أدوات الشعر وقدرتها على الاستيعاب. وكذلك فإن الأدوات الشعرية لم تتطور لتعبر عن لحظة راهنة عشوائية.

وكما أن ثقافتنا لم يعد لها ثوابت أو محاور ارتكاز؛ أصبح من الصعب تثبيت أشكال شعرية بعينها وضمان استمرارها. لأن الشكل الشعري، والنثري بوجه خاص، هو الأكثر حساسية وتأثراً لغياب الثوابت التي كان يبنى عليها شعريته.

2

نشأت قصيدة النثر العربية في ظل مرجع تنويري أو جذري. ليس المعنى فقط هو ما كان جذريا، بل اللغة أيضا. كانت اللغة هي إحدى طرق التغيير، فالمجتمع بشكل ما كان يسكن اللغة، وأي جديد في تراكيبها وعلاقاتها، قادر على أن يصل إلى ذائقة وحساسية المجتمع. بتلاشي هذا المرجع النقدي، تحت ضغط الحياة الحديثة واليأس من التغيير؛ فقدت قصيدة النثر أهم مراجعها، أو المجال الذي تتحرك فيه اللغة الشعرية، المجال الذي كان يمنحها الشكل.

أعتقد أن النماذج المبهرة لقصيدة النثر، والتي ظهرت في الستينيات والسبعينيات، برغم عدائها للتفسير الكلى والشامل للفرد، إلا أنها استفادت من هذه العدائية. فقد ساهمت هذه النماذج، بحسها النقدي، في خلق نموذج جديد ضد النموذج السائد. لا أعرف الآن ما هو النموذج الذي يجب الوقوف ضده، وكيف نكون الوعي النقدي؟

3

الثقة التي منحها المجتمع للغة، وبالتأكيد للأدب وأشكاله المختلفة؛ عاد مرة أخرى ليسحبها، بعد التيقن بأن اللغة وتجلياتها غير قادرة على التغيير، ولا يمكن أن تكون بديلا عن الحياة. لا أعرف لماذا كانت المقارنة تقوم، في الأساس، بين اللغة والحياة؟ ربما هو مأزقنا المعرفي، أن ننشى ثنائيات، كل طرف فيها مهم وعلينا أن نختار بينهما. الأدب بكل أشكاله يقف في موضع الاتهام والمساءلة والحساب، وخاصة الأنواع الأدبية التي كانت تحمى نموذج المتمرد. كل هذا تم في صمت وبدون ضجة، أعنى أن سحب الثقة تم تدريجيا وبدون تعمد.

4

رغم فداحة الأزمة التي تعيشها مجتماعاتنا، إلا أنها غير ممثلة بحق في الأنواع الأدبية، وتحولت الأزمة داخل النصوص إلى إطار سميك من الإحباط واليأس. فمن أين تستعيد أي لغة نشاطها وفلسفتها وهى غائبة عن التعبير عن الأزمة وتفنيدها.

كذلك، الحوار، بمعناه الواسع، أصبح غائبا، وما يوفره من تعدد هام لأي شكل أدبي. فالحوار هو المكان الخام الذي تستمد منه أي شعرية وجودها. وبرغم أن قصيدة النثر غير حوارية بمعناها الفردي أو غنائية بشكل ما، إلا أنها لا تتحقق ولا تستمد قوتها إلا وسط حوار دائر حولها. حتى لا تصبح غنائيتها أو وحدتها مضاعفة.

تعطل وغياب الحوار جعل أي نوع أدبي، وحديث كقصيدة النثر، يفقد جزءا من مهنيته وتقنيته. فلم تعد هناك أسئلة وقضايا مثارة حول الشكل الأدبي، وبالتالي لم تضف أي تفسيرات جديدة على هذا النوع. بالتأكيد أصبحت قصيدة النثر الآن هي الشكل المسيطر، ولكنها سيطرة هشة، نظرا لغياب التأصيل النقدي.

أقصد النقد بمعنى التدقيق والتصنيف وإشاعة جو حيوي وخلافي من القضايا. كل هذا هام لخلق نوع من الأحاسيس العلمية اللازمة لأي تأسيس أو استمرار. هذا النوع من النقد سيضع قصيدة النثر في حجمها الطبيعي، ويفسر هذه السيطرة التي دانت لها، وهل هذه السيطرة تعبر عن حداثة تعبيرية، وكيف نجا هذا النوع الأدبي من عشوائية حداثتنا، إذا جاز التعبير. وهل أصبحت قصيدة النثر شكلا مفرغا من فاعليته؟

5

ربما ما حفظ قصيدة النثر حتى الآن هي تقنية الحكى، وهى التقنية التي أتت من حقول أدبية أخرى. أصبحت الحكاية هي بوصلة القصيدة لضبط الشكل والنفس الشعري. أعتقد أن المستقبل، بمعنى ما، سيرتبط بهذا النوع من السرد الحكائى.

6

ستستمر قصيدة النثر بانفرادات شخصية، بموهبة شعراء وحدسهم، وعمق أسئلتهم الوجودية، ووعيهم كذلك بخصوصية الشكل الشعري الذي يعملون داخله. إذا كان نموذج التمرد الذي تمحورت حوله قصيدة النثر من قبل، سواء كان التمرد الحياتي أو اللغوي، فنشاطها الحالي ومشروعيتها، كنموذج نقدي بالأساس، هو إيجاد سيرة جديدة للتمرد، بمعناه الإنساني والوجودي وليس السياسي فقط؛ كمقاومة أخيرة ضد غياب الفرد وموته المتعمد والمجاني والصامت.

 

عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم