حسن إدحم*
لماذا تبقى بعض التفاصيل راسخة دون غيرها؟ كيف ينفلت كل شيء من ذاكرة البشر وتصر بعض النتف، بعض اللحظات أن تصمد في وجه الزمن الزاحف؟..لاتُعلمني هذه الأسئلة غير مدى عجزي على الانفلات من ذاك الماضي الذي يجرني إليه تيهي وضعفي كل مرة.
أسترق النظر إلى الوراء، أشاهد الفتاة الحالمة التي كنتُ، الفتاة الساذجة، العاشقة التي لا تلوي على شيء. تصحح الآن أخطاء الآخرين، ولم تكن تجد من يصوب هفواتها.
لم أكن في صغري أتوقع أن أصير مصححة لغوية في صحيفة يومية، ولكن متى كانت توقعات الطفولة صائبة؟ درست الأدب العربي بجد كبير، كان معظم أساتذتي يتوقعون لي مسارا غير هذا. هم أيضا تجانب تنبؤاتهم الصواب أحيانا. “نريدك أستاذة معنا قريبا..”، “تستطيعين أن تكتبي عملا سرديا بيسر.. “، آه كم أضحك عندما أتذكر هذه العبارات وغيرها التي كان أساتذتي يرددونها تشجيعا لي، كم وددت لو أمكنني أن أكلمهم الآن وأقول: لم أصر قاصة ولا أستاذة، بل متصيدة للأخطاء في صحيفة يومية.
لم يكن يجد أية صعوبة في إقناعي بأي شيء، أكون رخوة هشة عندما يرسم لي وعوده على الماء، أقتنع، أبلع حكاياته المشروخة التي لم أدرك أنها كذلك إلا عندما فصلتني كل هذه المسافة الزمنية عنها. لماذا كان ينعقد لساني وأتسمر بدون أية حيلة أنا التي كانت تجري أبيات المتنبي على لساني بيسر كأني عاصرت سيف الدولة؟
حتى حينما تخرجت، واعتقدت أن حملا ثقيلا أزحته من على ظهري، انتصب أمامي يعدد الأخطار التي تتهدد علاقتنا إن أنا قبلت هذا التعيين وذهبت بعيدا عن المدينة التي جمعتنا دوما. كان يطلب مني ذلك الصباح أن أتخلى على ما نذرت حياتي من أجله. فقد كان كل مناي أن أرحل لقرية ما، في عمق البلاد أعلم أبناءها أبجديات اللغة، لعلي أزرع بذور ذلك التغيير الكبير الذي طالما صرخت من أجله بين جدران الجامعة. كفرت بكل شيء، لأن الأمر كان يتعلق بالنسبة لي بالحب، راديكاليتي لم تكن في السياسة فقط، بل كانت نبراسا أتلمس به الطريق الذي كنت مصرة على أن يكون خاصا بي، وألا أمشي على خطى أحد قبلي، ولا أرجو أن يسير أحد على خُطاي.
ربما أنا أهدي فقط، في ماذا يفيد كل هذا الكلام؟ ماذا سيغير؟ قد يكون حريا بي أن أتصفح الآن معجما لغويا وأدقق في الكلمات، أو أراجع كتاب البخلاء أوالحيوان، سيكون هذا أفيد لي ولعملي.
إنني لا أعود لهذه الحكاية القديمة لكي ألومه أو أبكي زمنا مضى أو حتى ألقي باللوم على تلك النظم الاجتماعية التي رضخ لها وحرمته حريته وسلبته ذاته. إن الذاكرة فقط هي التي تصر على أن تستبقي شيئا من الذي فات، حتى لو فقد كل حرارته وعذوبته وأضحى بلا طعم كأنه لم يعنيك يوما.
لا أعرف لماذا اقترحت على رئيس التحرير أن أساهم في الملحق الثقافي لهذا الأسبوع، لم يقل شيئا، بقي مشدوها للحظة ونطق بكلمة واحدة “غريب”. عذرته، فقد اشتغلت في الجريدة مدة خمس سنوات لم يسبق أن نشرت مقالا أو حتى فكرت في ذلك، كنت أقوم بالمراجعة اللغوية للمواد التي تنشر ولم يخذني الشوق يوما للكاتبة أو النشر.
هذا الصباح عندما كنت في الطريق للعمل، كان سائق الطاكسي يدندن مع صوت المغني الآتي من الراديو. قلت مع نفسي ” لا يعلم هذا السائق المنتشي بالنغم، أنني جالست يوما هذا الفنان الذي أطربه، أكثر من ذلك لا يدري أن هذا الصوت يذكرني بخيبتي في الحب والحياة”.
عندما وصلت للمكتب قررت أن أحكي، أن أكتب في ملحق هذا الأسبوع، كيف أن الذي كان كل أملي و أحببته بلا قيود، زرت معه يوما هذا الفنان الذي أطرب سائق الطاكسي. دخلنا إليه في كوخه القريب من الشاطئ وأعد لنا وجبة سمك صاده بنفسه. لم أعد أذكر العلاقة بين الرجلين وكيف يعرفان بعضهما، كل ما أحتفظ به هو تواضع الفنان وصدقه والتزامه الفني. غنى لنا في كوخه تلك المقطوعة التي أحبها سائق الطاكسي.
……………..