سيدتان جميلتان.. فأيهما الأفضل؟

سيدتي الجميلة
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

أحمد عبد الرحيم

ظهر الفيلم الغنائي الأمريكي (My Fair Lady) أو (سيدتي الجميلة) سنة (1964)، من بطولة ركس هاريسون وأوردى هيبورن، وإخراج چورچ كيوكر، وسيناريو آلان چاى ليرنر عن مسرحيته الغنائية بالعنوان نفسه، التى عُرِضت لأول مرة سنة (1956)، والمأخوذة بدورها عن مسرحية (Pygmalion) أو (بيجماليون) للكاتب الإيرلندى چورچ برنارد شو، التى عُرِضت لأول مرة سنة (1913). بعد هذا الفيلم، ظهرت أكثر من معالجة سينمائية مصرية لـ(سيدتي الجميلة)، بعضها أعمال غير غنائية مثل فيلم أيام الحب (1968)، وفيلم النشالة (1985). لكنى سأقارن هنا ما بين الفيلم الأمريكي، والمسرحية الغنائية المصرية (سيدتي الجميلة) التى كتبها سمير خفاجي وبهجت قمر، وأُنتِجَت سنة (1966) من بطولة فؤاد المهندس، وشويكار، وإخراج حسن عبد السلام. طبعًا المقارنة بين فيلم ومسرحية أمر غير دقيق، لاختلاف الصورة الفنية باختلاف الإطار، لكن موضوع المقارنة سيكون “النص الدرامي” فى العملين، بمعلومية أن الفيلم الأمريكي كان ترجمة مخلصة إلى حد كبير للمسرحية المأخوذ عنها. 

بادئ ذي بدء، تميّز النص المصرى بقدرة فائقة على التمصير، وإيجاد معادِل زمنى بارع للقصة. العمل الأمريكي يدور فى لندن بعصر الملك إدوارد السابع (1901 – 1910)، حول مُعلِّم الخطابة (هنرى هيجنز) ونظريته القائلة بأن طريقة نطق الشخص تُحدِّد طبقته فى المجتمع، التى تدفعه للرهان مع صديقه عالم الصوتيات العجوز، كولونيل (هيو بيكرينج)، على قدرته فى تمرير بائعة الزهور الفقيرة (إليزا) ابنة عامل النظافة (دوليتل)، ذات الإلقاء اللغوي البشع، كدوقة عالية التعلّم بتدريبات معينة. نَقَل الاقتباس المصرى الأحداث إلى القاهرة فى عصر الخديوي إسماعيل (1863 – 1879)، وحوّل البطل إلى معلم الإتيكيت (كمال بك الطاروطى)، الذى يهرب من زيجة شكلية يريد الخديوى توريطه فيها بربطه لإحدى عشيقاته، إلى حارة (حلال عليك) المتربة، حيث يقابل النشالة المحترفة (صدفة)، ابنة السكير المتبطل (حسب الله بعضشى)، التى يرى فيها الكذبة المثالية التى سيهرب بها من زيجة الخديوى؛ إذ سيزعم أنها الثرية التركية التى تزوجها، وبالتالي لن يتزوج عليها، ومن ثم يكون الاختبار فى قدرته لتحويل هذه النشالة السوقية لسيدة مجتمع راق؛ إنقاذًا لموقفه، وتأكيدًا لموهبته.

بهذا الشكل، حافظت النسخة المصرية على أجواء العمل الاصلى، بل جعلت الصراع أقوى؛ فالأمر تبدّل من مجرد رهان بين صديقين هدفه تحد علمي ما، إلى عملية إنقاذ من بطش الخديوي الذى يريد رؤية الزوجة التركية وإلا أمر بإعدام (كمال)، لذا فى حالة فشل الأخير فى تدريبه للفتاة سيكون المقابل حياته، وليس “خسارة رهان”، أضف إلى ذلك أن تحويل بائعة الزهور الفقيرة إلى نشالة محترفة جعلها أكثر خشونة وعنفًا، وعمّق أزمتها كفتاة لا تنشد الانتقال من عالم فقير إلى عالم أقل فقرًا وحسب، وإنما تنشد الانتقال من طائفة المجرمين، والتطهر من حرفة النشل أيضًا. ناهيك عن أن ذلك وفّر كمًا أكبر من المفارقات الكوميدية؛ لاسيما عند تواجدها فى قصر الخديوي وسط إغراءات عديدة قد تعيدها لماضيها الإجرامي، ووضع حدث مثل اختفاء عقد والدة الخديوي فى وجودها. 

استغل العمل المصرى شخصية الصديق (هيو بيكرينج) أيما استغلال، فبينما فى الأصل الأمريكي هو عجوز طيّب وظيفته ترديد الحوار مع البطل، يُخرِجه العمل المصرى من بلادته الظاهرية هذه، ويحوِّله إلى (حسن مفتاح) الصديق الفَكِه، الأصغر سنًا، والأقل ذكاءً، الذى لا يتوقف عن إنقاذ صديقه؛ حين يشارك فى تهريبه إلى حارة (حلال عليك)، أو توريطه فى العديد من المشاكل؛ كادعائه أمام الخديوي أنه تزوج من عائلة (التفكشى باشا) الذى يتصادف أنه من ألد أعداء الخديوي! وفى أثناء غياب الصديق فى نهاية الفيلم الأمريكي، يلعب الصديق دورًا هامًا فى نهاية المسرحية المصرية باعتباره ناقل أخبار (صدفة) إلى (كمال) بعد انتقالها إلى دروب المجتمع الأرستقراطي. كذلك يستغل العمل المصرى شخصية مديرة المنزل (مسز “بيرس”)، الباهتة تمامًا فى الفيلم الأمريكى، ويحوّلها إلى (مدام “شجرة الدر”) مُبتكرًا لحظات كوميدية منها؛ عبر تجسيدها كامرأة مهووسة بالنظام، وعصبية للغاية. ورغم حفاظ العمل المصرى على ترجمة اللقب الإنجليزى لوالد البطلة فى الأصل إلى العامية المصرية (اسمه هناك Doolittle أو دوليتل، وهى أقرب فى الإنجليزية إلى “يفعل القليل”، وتحوّل عندنا إلى بعضشى أو “بعض الشىء” أى قليله)، فإنه فى صياغة الشخصية تعدى مرحلة الترجمة، وحوّله من كنّاس الشوارع الراغب فى القفز فوق طبقته بضربة حظ، إلى مالك العمارة الراغب فى الحظ ذاته، لكن من خلال ملامح أكثر صخبًا، وانتهازية؛ كسكير غضوب فوضوى، لا يمانع احتراف ابنته للسرقة، أو بيع ما سرقته من كمال إلى كمال نفسه!، إلى جانب إنشاء علاقة مباشرة بينه وبين البطل، بجعل العمارة التى يملكها هى التى سيختبئ فيها (كمال) من الخديوي؛ وهو أمر يفتقر إليه الأصل، كذا يُبقِى عملنا على رفيقي والد البطلة فى السُكر، وتنظيف الشوارع (هارى وچيمى)، لكن بعد إعادة تسميتهما إلى (زربيح وسليط)، وتحويلهما إلى اثنين من رفاق الجريمة فى عالم (صدفة) الأول، مما يُثرى الخط الكوميدي ببراعة؛ خصوصًا عند إثارة المفارقات بينهما وبين مُعلِّم الآداب الرفيعة (كمال)، سواء فى الحارة، أو فى قصره لاحقًا، عبر اختلاف لغة حوارهما عن لغته، أو عدم التوقف عن سرقته بشتى الطرق.

يتفرّد الاقتباس المصرى عن الأصل عبر عدد من الإضافات، منها طيف الشخصيات القاطنة للحارة الشعبية، التى تميزت بتنوعها، وظرفها، وخفة ظهورها، كما أنها مثّلت – من ناحية – مفارقة مع أرستقراطية (كمال) حين احتكاكه بهم، و – من ناحية أخرى – أفضل تقديم لشخصية (بعضشى) والد البطلة. كانت أخف تلك الشخصيات ظلًا هو (عزوز أفندى) الساكن الذى انحبس فى بناية (بعضشى)، بعدما هدم الأخير السلّم وباعه، ورجل غامض يريد إيصال مفتاح شقة بها قتيل لأى شخص يصادفه! كل ذلك بعيدًا عن المشهد المماثل فى الأصل، عند مصادفة البطل للبطلة لأول مرة فى الشارع، الذى يبدو أقل كثافة وطرافة بالمقارنة. أيضًا، تُضيف المعالجة المصرية مشهدًا تمثيليًا تؤديه (صدفة) لـ(كمال) لبرهنة مواهبها خارج مجال النشل. غير ظُرُف المشهد، لكونه زاعق بما يتماس مع الثقافة الفنية المتواضعة لشخصية مثل (صدفة)، فإنه عضّد رغبتها، وربما إمكانياتها الأوليّة، فى الهرب من شخصيتها، والانسلاخ من جذورها؛ وهو عينه ما سيحاول البطل دفعها إليه لاحقًا، كما أنه جاء أكثر إبهارًا من المشهد الموازي فى الأصل الأمريكي، الذى تعلن فيه البطلة رغبتها فى تطوير مهاراتها الاجتماعية لما يلاءم حلمها بامتلاك محل زهور يومًا ما، وذلك من خلال جملة حوار عابرة ليس إلا.

من المشاهد الأساسية فى العملين مشهد الحفلة الكبرى التى تقابل فيها البطلة المجتمع الأرستقراطي، وتخدعه بلكنتها الجديدة، وتحبك إخفاء أصلها المُعدَم، وبينما يختزل الفيلم الأمريكي تلك الحفلة فى لقطات عامة قصيرة، تفرد المسرحية المصرية لها – فى أهم إضافاتها قاطبة – مشهدًا كاملًا، شديد الإبداع، لنرى تفاعل البطلة مع رجال ونساء الطبقة الراقية، ومستوى تحوّلها الثقافى، وقدرتها على خداع الجميع حتى الخديوى نفسه؛ الذى مثَّل وجوده طرف أقوى للصراع غير متواجد بوضوح فى الأصل، وبينما بقت شخصية مخبر الأنساب المجرى (زولتان كرباثى) فى الفيلم الأمريكى مجرد لقطات خاطفة صامتة فى مشهد الحفلة، ومقطع فى أغنية (You Did It) أو (أنت فعلتها) بعد الحفلة، يروى فيه (هنرى) لخدمه كيف انخدع الرجل الخبير بلكنة (إليزا)، مُوقنًا أنها أميرة هنجارية—يستثمرها العمل المصرى فى صورة (أردغان) مخبر أنساب الخديوى، ومدير أمنه، صائغًا منها عنصر تشويق بالغ الإتقان، كاد فى لحظات ما أن يُهدِّد الأمر برمته، ويقرّب (كمال) من حبل المشنقة، وذلك حتى نجحت (صدفة) فى قلب السحر على الساحر، وإذلال المخبر بكشف نسبه هو شخصيًا؛ ليتضح أنه (جعيدى) ابن بائعة المحشى، جارها القديم فى حارة (حلال عليك)! 

فى الوقت الذى يستطرد فيه الفيلم الأمريكي بخصوص شخصية الأب (دوليتل) الذى ينزع للزواج، والفتى الأرستقراطي (فريدى) الذى يقع فى حب البطلة بعد رؤيتها كسيدة مجتمعات، يختصر العمل المصرى هذين الخطين، وما يستتبعهما من أغانٍ، فى تكثيف أزاد التركيز حول العقدة الأساسية، وكفاح المُعلِّم فى تحويل الفتاة، وقصة الحب بينها وبينه تلك التى يعطِّلها غروره. كذا يحذف العمل المصرى بعضًا من الأغاني؛ مثل أغنية  (Just You Wait)أو (فلتنتظر) التى تغنيها البطلة توعّدًا للبطل بسبب قسوته عليها فى التدريبات، وأغنية (The Rain in Spain) أو (المطر فى إسبانيا) التى يغنيها البطل والبطلة فرحًا عند نجاح الأخيرة فى تدريب لغوى صعب، ويختصر أغنية (I Could Have Danced All Night) أو (كان بإمكانى الرقص طوال الليل) التى تغنيها البطلة تعبيرًا عن حبها للبطل، مُحوِّلًا إياها لجملة على لسان (صدفة) تذكرها لمديرة المنزل فى لحظة سعادة تنهى أحد المواقف. ربما كان ذلك للاختصار ليس إلا، لكنه إجمالًا لم يفت فى عضد رومانسية العمل المصرى، أو يُضعف التعبير عن مشاعر البطلة تجاه البطل، خاصة أن الأمر مُعوَّض بالفعل من خلال جمل حوار ماهرة هنا وهناك.

يعلو العمل المصرى مُتجاوزًا العمل الأمريكى فى صياغة ذروة النص، فالفيلم الأمريكى يوجز كل مشاعر البطل (هنرى) فى أغنية واحدة (I’ve Grown Accustomed to Her Face) أو (لقد تعوّدت على وجهكِ)، ثم مشهد مقتضب وبارد للبطلة (إليزا) تعود إلى مكتبه، بلا حوار تتبادله معه، أو أى تعبير من تجاهها لأسباب العودة. أما المسرحية المصرية فتسبك مشهدًا مشبعًا، تستعرض فيه آلام (كمال) بعد افتراق (صدفة) عنه، وشوقه العنيف إليها، يتخلّله أغنية (يقطع صدفة على سنينها) المُعادِلة لـ(I’ve Grown Accustomed..)، ثم لقاء رائع بين البطلين تميّز بحوار غنى فى دراميته وكوميديته، ليختتم (كمال) العمل بإقراره أن (صدفة) قد نشلت قلبه كما نشلت فانلته سابقًا: “إزاى؟.. ما اعرفش!”. جدير بالذكر أن نهاية الفيلم الأمريكي تعرّضت للهجوم، باعتبار (هنرى) لما رأى (إليزا) فى اللقطة الأخيرة لم ينطق إلا بسؤال واحد متغطرس: “أليزا، أين خُفّى بحق الشيطان؟!”، مما دفع عددًا من النقاد لاتهام الفيلم بالتمييز العنصري ضد المرأة، أو – على الأقل – أن بطله لم يتغيّر فى النهاية، عاجزًا عن النزول من برجه العاجي، أو التنازل عن خيلائه. بينما فى عملنا المصرى، كان جليًا أن الأمر يخلو تمامًا من هذه الغلظة، أو هذا التعالي، وأن (كمال) صار لا يستطيع العيش لحظة بدون (صدفة)، لأسباب كثيرة ليس من بينها “إحضار الشبشب” له!

وعليه، يتفوق العمل المصرى فى تركيزه، وإيجاده لمناطق أكثر سخونة فى القصة، وتوظيفه للشخصيات، وإضافاته الذكية، وذروته المُحكَمة، مما جعله يتفوق فى إثارة المفارقة، وتصعيد الصراع، والتأثير النهائي العام، مُقدِمًا كوميديا رومانسية أكثر حيوية وفاعلية؛ ولذلك فإن “سيدتي الجميلة” المصرية أفضل دراميًا من “سيدتي الجميلة” الأمريكية، فى تأكيد للاقتباس المبدع الذى يتمكن من تجويد أصله، وهو أمر لا يحدث إلا ببذل الكثير من الجهد الموهوب، لأن الاقتراب من الكمال لا يتحقق صدفة.

…………………………………

*نسخة مزيدة ومنقحة من مقالة نُشرت فى مجلة العربى الكويتية / العدد 712 / مارس 2018.

 

مقالات من نفس القسم