حاميد اليوسفي
الشركة الفرنسية التي توزع الماء والكهرباء لا يستفيد من خدماتها إلا الأجانب، وعدد قليل ومحدود من منازل مساعديهم من الأعيان وكبار رجال السلطة. أغلب سكان المدينة القديمة يضيئون بيوتهم بالشمع والغاز. ويتوفرون على آبار داخل منازلهم، تؤمن لهم الماء الصالح للشرب، أو ينقلون الماء من سقايات قديمة بعضها نشأ منذ عهد المرابطين وسط الأحياء الكبرى وبالقرب من المدارس والمساجد..
تملك الاسر الغنية أراض وجنان واسعة خارج سور المدينة، فكانت تحتاج إلى حمان لحفر الآبار و(الخطارات)* ومد السواقي. وهي مهنة ورثها عن والده، فالتصقت هذه الصفة به، واشتهر باسم حمان (الخطاطري). لم تكد تمض أعوام قليلة حتى اشترى منزلا واسعا وسط أرقى أحياء المدينة القديمة، أسكن فيه زوجته وأولاده.. كثرت طلبات الشغل، وتوسع الرزق. فتح بيتا جديدا، وتزوج من امرأة ثانية. وجرى المال في يده كما يجري الماء في السواقي، فطلب في العام الموالي يد فتاة غاية في الجمال، والدها من كبار التجار. واقتنى لها منزلا كبيرا..
وزع حمان ليال الأسبوع بين نسائه الثلاث. فكان يقضي عطلة نهاية الأسبوع مع الياقوت أصغرهن وأكثرهن جمالا وفتنة.. اشتعلت الغيرة بين النساء الثلاث.. وكنّ يخاصمنه في الفراش، فيلجأ بين الفينة والأخرى إلى استمالتهن بالهدايا..
اقتنى في البداية دراجة نارية يتنقل بها بين ورشات العمل والبيت. وكان عدد هذه الدراجات محدود، ولا يملكه غير الأجانب. عندما يمر حمان من حي أو زقاق إلى مقر عمله، يجري خلفه الأطفال، ويقف الكبار مشدوهين، فاغرين أفواههم. الناس لم يسبق لهم أن رأوا دراجة نارية، بمحرك يصدر عنه صوت مثل هدير الأمواج، وتطير بهذه السرعة. بالكاد بدأ بعضهم يستأنس بالدراجة العادية، رغم أن الأئمة وصفوها في بعض خطب صلاة الجمعة بعجلة الشيطان.. عندما يضغط حمان على المنبه، يقفز الواقفون من مكانهم، فلا يترك لهم غير الغبار والدخان..
وعد حُمّان زوجته الياقوت بشراء سيارة أحسن وأسرع من باقي سيارات المدينة. لكن قبل ذلك عليه أن يحفظ قانون السير، وينجح في امتحان السياقة. أخذ منه ذلك أكثر من سنة..
عندما اشترى السيارة وأدخلها إلى الحي، وركنها بالقرب من الرياض الذي يسكنه، اجتمع عليه حشد كبير من الناس.. أمر أحد الشبان بحراستها حتى يعود من المنزل. انتظر الياقوت حتى انتهت من زينتها، ولبست الحايك، ووضعت خمارا أسود شفافا أخفى نصف وجهها الأسفل، ووضعت الكحل فبدت رموش عينيها مثل خنجرين يفتكان بمن ينظر إليها، وغطت رأسها بطرف من الحايك، فأمست كأنها جارية خرجت لتوها من قصور ألف ليلة وليلة. عندما رأى الناس حمان قادما رفقة زوجته، ابتعدوا عن السيارة، وبقوا يراقبون المشهد من بعيد. فتح الباب، وأشار بحركة من يده على الياقوت بأن تدخل إلى السيارة، وتجلس. أغلق الباب ودار من الخلف، وجلس أمام المقود. من قبل كان حمان يكتري (كوتشي)* ليصحب زوجته إلى بيت أهلها..
اليوم تملّك الياقوتَ شعور غريب.. فهي لأول مرة ترى وتركب سيارة.. كادت تطير من الفرح، والأطفال يجرون خلفهما منبهرين.. عندما خرجا من أزقة المدينة إلى شارع كبير، حرك حمان صندوق السرعة، فطارت السيارة، وتجاوزت سيارة فارهة كانت تسير على اليمين، وكادت الياقوت تصرخ، فطلبت منه تخفيف السرعة. فقال لها حمان:
ـ أسكتي أيتها الحمقاء، فأنت تجلسين في أمان، وإذا خفت أن تميل بك السيارة، فضعي الحزام الذي بجانبك، واربطي جسمك بالمقعد؟!
لم يكن يعلم حمان بأنه تجاوز سيارة الباشا، الرجل الذي يحكم الجنوب بيد من حديد.. كانت السارات التي يركبها مغاربة معدودة على رؤوس الأصابع. وأغلب الأعيان والتجار يعرفون مالكيها.. سأل الباشا سائقه:
ـ من يكون هذا السافل الذي تجاوز سيارة الباشا؟!
أجاب السائق، وهو مرتبك:
ـ هذه سيارة حمان الخطاطري، نعم سيدي!
عندما عاد الباشا إلى قصره، أرسل (الرقاص)* ليطلب من حمان أن يمثل بين يديه، وأخبره بأن يُرطّب ذقنه..
سمع حمان بالخبر، فتيقن بأن عقابا لا يعلم فحواه غير الله ينتظره. فكر في حيلة وتمنى أن تنجح. بقي واقفا أمام مكتب واسع، والانتظار ينهش أفكاره وأحاسيسه. عندما مثل بين يدي الباشا كاد يتبول في سرواله. أمره بأن يحلق لحيته وشاربه، فتنهد الصعداء، ونفذ الأمر، وقدم مفاتيح السيارة للباشا، وقال:
ـ إنها هدية لك يا سيدي.، وأردت قبل أن أزف لك الخبر، أن ترى وتتأكد من سرعتها لعلها تعجبك، لذلك مررت بجانبك وتجاوزتك.
لم تنطل الحيلة على الباشا.. كان قد أمر أعوانه بإزالة محرك السيارة، وربطها بحمارين، وطلب من حمان أن يقودها، ويتجول بها في أحياء المدينة القديمة تحت مراقبة (المخازنية)*.
المعجم:
ـ الخطارات: جمع خطارة وهي حفرة كبيرة يُخزن فيها الماء، أوسع من البئر وأقل عمقا منه.
ـ الكوتشي: الحنطور وهو وسيلة النقل داخل أحياء المدينة..
ـ الرقاص: الرسول.
ـ المخازنية: شرطة الباشا.
مراكش 28 أبريل 2025