غزلان تواتي
في رواية “سنوات النمش”، للروائي المصري وحيد الطويلة، والصادرة أخيراً عن دار المحرر، لا تقرأ بقدر ما تشاهد، القرية الحياة الريف الإنسان، الطفولة والكهولة الابوة والبنوة، علاقات بسيطة ومعقدة بمعنى التركيب لا التعقيد النفسي بمعناه المرضي، عندما يكون الأب بتلك الهيبة ويكون الصبي بذلك الانضغاط، ويكون المكان جنة عذراء.
أفكر في الكلمة بالفرنسية un paradis vierge) مكان قصي بعيد عن التلوث الحداثي لكنه بدلا من ذلك لديه أشياءه الخاصة، قرية القيمة الخاصة حيث المدنية بعيدة جدا ولكنها ليست بذلك البعد فهي حاضرة أو متسربة بشكل من الاشكال في تطلعات الناس الخفية، في سنوات النمش كل شيء ظاهر بقدر ما هو خفي.
تظن أنك فهمت بسهولة وليونة لكن هناك دوما أمر آخر عليك اكتشافه (لغة الطويلة رقيقة وناعمة ولطيفة (وهنا أيضا أفكر في الكلمة الفرنسية subtile) يستطيع أي قارئ أن يرى من خلالها كأنه يرى من خلال مرآة معكوسة، بينما هي اللغة بكل ثقلها تقف وراء المعنى كظهر المرآة تماما هي هنا فقط لتعكس القدر الأكبر من الألم، الفرح والكثير من الحوارات الداخلية.
سيرتان وخطابان: خطاب داخلي يطول ويقصر بحسب الوضعيات التي يتعرض لها الطفل المنمش وكم ذكرني بنفسي وخطاباتي الداخلية وصداقتي الفائقة منذ سن مبكرة مع نفسي وهذا أيضا أمر أحببته في الرواية التي في البداية تستخف بها ربّما وتجد أنها مجرد حكاية لا احداث فيها مجرد سرد صحيح أنه متدفق لكن قد لا يثير القارئ، لكن صبرا فالنعومة الفائقة لا تلتمس من أول نظرة، بل تستغرقك لتفهم أن الجمال الحقيقي يشبه لعبة ولكل لعبة قواعد وخفايا.
أحب الأدب الذي يشعرني أنني أقطع مسافة غير بسيطة بين المكتوب والمفهوم أن يولد في ذهني كل الصور، عندما تنطلق حكاية القرية بمقابل حكاية الولد والولد مقابل حكاية الوالد هنا وهذه الثلاثية بالذات تجر وراءها كل ما تبقى من الأسرار والتلاعبات حيث الشر ليس شرا كاملا ولا الخير خير تام، بل كل شيء بين بين وهنا هذا الطيف اللين بين الأشياء والمواقف والمكان والإنسان هو ما يمكن لعبقرية الأدب أن تبلغه.
الجدة كما أتخيلها، كما أحبها، متفانية لكن لا يظهر ذلك بل تراها بالأحرى لا مبالية، تغرق في حياة الجماعة، ولا يهمها التفاصيل وهنا الخطأ.. فإنها كلما غرقت في الهامشية كانت في قلب الأشياء، النساء وأحوالهن الثابتة في شخص العمة وزوجها، لكن ليس ثباتا تاما، هناك مقاومة، وأعجبني أن هناك في أحيان كثيرة الخطاب واضح إلى درجة أنك تكاد تلمسه دون أن تشعر بخشونته.
قرأت القصة بحب كبير ربّما لأن القرية وانجرار الزمن عليها وتفاعلات الحياة واختلالاتها أو توازناتها منحتني هذا الشعور الجميل أنني أعرف من أقرأ عنهم وأن الأشياء ليست كما نظن إما في هذا الطرف أو ذاك، إن كان لابد من حكمة تستنتج (وإن كنت أكره أن ينسب إلى الأدب ما ليس فيه أو يمنح وظيفة ليست له) فإن هذه الرواية هي رواية الزمان والمكان والإنسان…أمر بسيط أليس كذلك؟ هل يوجد أعقد من هذا: الانسان والمكان وانجرار الزمان.
…………….
*كاتبة جزائرية