سكيكي

عبد الرحمن أقريش
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

عبد الرحمن أقريش

يبدو الأمر بعيدا الآن، بعيدا جدا.

في قريتنا يمضي الزمن بطيئا وسرمديا، لا يتوقف ولكنه لا يتقدم، كنا أطفالا في مقتبل العمر، ولسبب ما كنا نحلم، نتمنى لو نكبر بسرعة، وكان ينبغي أن تمر سنوات طويلة لنكتشف كم كانت تلك الرغبة مجنونة، خرقاء وبدون معنى.

في قريتنا تعلمنا مبكرا انسيابية الزمن الكوني وفكرة التناغم والعود الأبدي، التعاقب المنتظم لليل والنهار، والرجوع المتجدد للفصول السنوية.

في قريتنا لا وجود لتعدد الأزمنة، الزمن هنا واحد أحد هو الزمن الحاضر، المستقبل هنا حاضر لم يأت بعد، ننتظره، نستشرفه هناك في الأفق، أما الماضي، فهو نفس الزمن وقد ولى وذهب، نستحضره، نحمله بداخلنا، نسكنه، يسكننا، فيتوقف عن كونه ماضيا.

أخيرا، يحل موسم الخصوبة والتزاوج، تفيض عواطفنا فجأة، طوفان من المشاعر يمتزج فيها الحب والعطف بالقسوة والعنف والاندفاع والتهور، وحدها الحيوانات الصغيرة الحديثة الولادة كانت تنجح في تفجير مشاعرنا، قطط، جراء، سلاحف، فراشات، عصافير، كتاكيت، حملان، مهور…

نعطف عليها، ونحزن كثيرا إذا ما أصابها مكروه، وعندما يموت بعضها بين أيدينا الطرية بفعل قسوة الحب، نشعر بالحزن، نبكي بحرقة، ونقيم لها الجنائز…

نتسلق الأشجار، نطل على الأعشاش، تغادر الطيور، تحط في مكان قريب، تراقبنا، نسحب العصافير المواليد، نكتشفها، ننظر لأجسامها الرخوة باستغراب، ندغدغ زغبها الرطب بأناملها الفتية، نصفر، نخاطبها، نغني لها، تفتح الكتاكيت الصغيرة أفواهها الغريبة، نلقمها ديدانا طرية، ثم نعيدها برفق إلى العش…

اكتملت المصيدة.

نفتح البوابة الكبيرة، نشد الكلبة (سونير) إلى العمود الخشبي الضخم، تبدو جميلة ومثيرة بلونها الأبيض وخطوطها الصفراء، تحضر كلاب القرية تباعا، تحضر وفود أخرى من خارج القرية، الكلاب الوافدة صعبة المراس، يسكنها الخوف والشك، فتقف هناك حذرة، متوجسة وبعيدة.

مثل جنود عند خط النار، نبني متراسا، نبقى يقظين، متحصنين، متحفزين، ننتظر، ساعة، ساعتان، ثلاث ساعات، ولكننا لا نستعجل أبدا، كنا نعرف بفعل الغريزة والحدس، أن الرغبة جمرة ملعونة، خبيثة ولا تقاوم، قد تخبوا قليلا، قد تضعف، قد ترتخي، ولكنها لا تنطفئ أبدا.

يمر الوقت ثقيلا كالدهر، نتربص، نصمت، تندفع الدماء في عروقنا، نحبس أنفاسنا، نسمع دقات قلوبنا تضرب بقوة، تبلغ الإثارة ذروتها، يسري دبيب في أجسادنا الصغيرة، دبيب لذيذ وقوي، ثم أخيرا يتجرأ (سكيكي) الكلب الأسود القوي، يدخل البوابة بخطوات حذرة ولكنها حاسمة ومصممة، تتبعه قبيلة الكلاب، تتردد قليلا، تتوجس، تنتصب آذانها، تلتفت في حركات متوترة، تتوقف قليلا موزعة بين الرغبة والخوف، ولكنها في النهاية تدخل.

نسحب الحبل، تنزلق البوابة الخشبية الضخمة، وتنغلق فجأة دائرة الحصار مثل مصيدة رهيبة.

نغادر المتراس قفزا، نجري، نصيح بصوت واحد.

  • هجوووم…

يختلط صياحنا بنباح الكلاب الهائجة، وننخرط في طقس غريب، حجارة، عصي، هراوات، حبال، كلاب محاصرة، وأخرى معطوبة، ضحك، صراخ، نباح، دماء، روائح قوية وحادة، أنين وألم.

طقس بدائي عنيف، مجنون ومتهور، يمتد الأمر لساعات، تتعالى ضحكاتنا المجنونة، تملأ المكان.

ثم في لحظة ما يسود الصمت.

توقف (الحسني)، تسمر في مكانه جامدا مثل تمثال، جرى خطوات إلى الأمام، ثم هوى جسده النحيل إلى الأرض، سقط بقوة، انتفض بعنف، تصلبت أطرافه فبدت مثل أعواد ميتة ويابسة، ثم انخرط في نحيب عنيف وحاد، انفتحت عيناه بشكل غريب، مالتا إلى الأعلى، غاب سوادهما، انحرف فمه بشكل متشنج، تخرج منه فقاعة رغوة بيضاء، تتشكل، تكبر، تنتفخ وأخيرا تتلاشى.

ارتسمت على شفتيه الخطوط الأولى لتعبير غريب ومؤلم، تعبير يشبه الابتسامة، فبدت تقاسيم وجهه قاسية ومخيفة.

نسمع شخيره مصحوبا بهمهمة وهذيان.

وقف (المامون) مذعورا، بدا عاجزا، خائفا ومصدوما، كانت تلك المرة الأولى التي يرى فيها شخصا صريعا.

في كل مرة تعود تلك الصور العنيفة إلى ذاكرتي، أستحضر هشاشتي المزمنة، أفكر، أسأل نفسي وأحاول أن أفهم:

  • من أين يأتي كل هذا العنف القاسي؟ كيف تسربت تفاصيله واستقرت عميقا في أرواحنا؟

وفي كل مرة، أقف حائرا ولا أجد الجواب.

آنذاك، يبدو عالمنا مختلفا، عالم تحكمه قوانين قاسية وغريبة، وكنا نحن الصغار من يصنع تلك القوانين، فموت كتكوت أو أرنب صغير، أو اختفاء بضع بيضات الدجاج من الحظيرة، كان ذلك يعتبر سببا كافيا لإعلان الحرب على كل القطط والكلاب.

(سكيكي) كلب ضخم، ذو شعر أسود حريري كثيف ومنسدل، رأينا صورته في كتبنا المدرسية، كانت قصته مختلفة حتما ولكنه كان هو، لسنوات كنا نعتقد أن تلك الكتب إنما تتحدث عنه.
في قريتنا يحكي الرعاة الأعاجيب عن بطولات (سكيكي).
لم تخدعه الثعالب أبدا، لم تنجح الذئاب في هزمه ولا افترست أبدا فردا من قطعانه المحروسة، لم يستسلم أبدا في المعارك التي تخوضها قبيلة الكلاب على الإناث، كان شعلة من الذكاء، قبسا من حياة متأججة، لم يأكل أبدا من أيادي الأجانب، كان يقظا، حذرا، وينظر بعين الريبة والشك للغرباء والمشبوهين.

بعد سنوات، انتهت الأسطورة بشكل حزين، ولت أيام المجد، أصبح (سكيكي) كلبا عجوزا، هرما، كسولا، أعشى وأصم، لم يعد يحرس القطيع، واكتسب بالمقابل عادات سيئة، ينام طول النهار أمام المدخل الحجري للدويرية، ويتسلل خلسة وقت القيلولة إلى الحظيرة، يلتهم بيض الدجاجات، يحشر وجهه في جحر الأرانب الصغيرة ويفترسها، وأحيانا يتجرأ، يجازف، يقتحم (الكشينة)، يلتهم الخميرة وقطع العجين.

وللحقيقة التاريخية، ينبغي أن أعترف أننا لم نره أبدا متلبسا بالجرم، ولكن السيدة (لالة زينة) زوجة (عمي العربي) تقول إنها رأته مرارا وهو يلتهم البيض، رأته يفترس صغار الأرانب، وأنها طردته مرارا وبين فكيه أرغفة مسروقة.


تمضي الأيام ويفقد (سكيكي) تعاطفنا تدريجيا بفعل انحرافه، وبفعل التحريض المتكرر للسيدة (لالة زينة)، فقد وعدتنا ذات يوم بوجبة شهية من بيض الإوز، خبز أسمر مغمس في سديم السمن البلدي، وكؤوس شاي مسكر يفوح منها عبق النعناع الأخضر، مقابل التخلص من الكلب المنحرف.
في البداية بدا الأمر مستعصيا، ترددنا كثيرا، (المامون) وأنا كنا من المترددين، ولكن (الحسني)، (بيهي) و(عدو الله) تحمسا للصفقة.
قدموا مرافعة.

قالوا.

  • الأمر مؤسف حقا، نحن أيضا نحبه، كنا نحبه، ولكن (سكيكي) لم يعد موضوعا للافتخار و(الفوحان) على أبناء الدواوير المجاورة، فقد الكثير من قوته ومهاراته، هو كسول جبان ومنحرف، ولم يعد يجرؤ حتى على النباح في وجه الغرباء أو الكلاب الضالة، ولم يعد قادرا على خوض الحروب…

كان صباحا ماطرا، باردا وقاسيا.

(سكيكي) مربوط إلى شجرة الأركان العجوز، وجلسنا نحن نلتهم قطع الخبر المدهون بالسمن والبيض ونرتشف كؤوس الشاي.
ينظر إلينا ويبصبص بذيله، وبين الحين والآخر نلقي إليه ببعض الخبز المدهون.
كان (الحسني) أول من نهض، مسح أصابع يده اليمنى في شعر رأسه، ومسح فمه بكم قميصه، ثم أخذ يشد الحبل، انخرطنا جميعا، قاوم الكلب في البداية، قاوم بقوة، ولكن الحبل كان متينا ومشدودا بإحكام، فركلت قوائمه في كل الاتجاهات، تقلص جسده وتمدد في حركات قوية وعنيفة، وعندما أصبح معلقا في الهواء تحول نباحه إلى حشرجة مكتومة ومؤلمة.
تراجعنا إلى الخلف في خطوة عسكرية، وقفنا ننظر إليه بعيون جامدة وبحياد غريب.

بدا الأمر قاسيا وغريبا، اجتاحتنا مشاعر غامضة تستعصي على التصنيف، وقفنا هناك ننظر وننتظر، استمر الأمر لمدة…
ثم أخيرا انتهى كل شيء.
في مكان منزو تتوارى (لالة زينة)، تتابع المشهد من بعيد، تنظر خائفة، تخفي وجهها الشاحب بين كفيها وترتجف كريشة في مهب الريح.

***

(الدويرية): دار الضيافة.

(الكشينة): المطبخ.

(الفوحان): الافتخار والتباهي بلغة الصغار والمراهقين.

(بيهي): إبراهيم.

(عدو الله): عبد الله، في قريتنا لا ينطق الباء لأسباب إثنية وأنثروبولوجية.

الشخصيات والتفاصيل من نسج الخيال.

 

مقالات من نفس القسم

تراب الحكايات
بولص آدم

ظل الأم

تراب الحكايات
موقع الكتابة

فصام ..