سعيد نصر
يعبر عنوان رواية عمار علي حسن “سقوط الصمت” عن فكرتها الأـساسية، حيث يعكس حالة الصدمة والدهشة التى انتابت شباب ثورة 25 يناير، بعد أن رأوا حلمهم الجميل في التغيير يتبخر تباعا من بين أصابعهم.
يتماشى الإهداء الذى خصصه الكاتب لأحد شهداء الثورة مع العنوان ويصب فى ذات الخانة، لكونه يعبر هو الأخر عن حالة الصدمة والدهشة والرغبة فى الخلاص منها، حيث يقول الكاتب فى الإهداء:” إلى الفتى النحيل، الذى كان الجوع يأكله حين مد رأسه أمام صدرى، ليأخذ رصاصتى عنى، فنجا سابحا فى دمه إلى شاطىء الراحة والخلود، وتركنى أموت كل لحظة من فرط الدهشة والوحشة واللهفة….”
تشتمل الرواية على نحو 50 شخصية،تدور كلها حول شخصية البطل حسن عبدالرافع بوصفه أحد أهم أيقونات الثورة ومرآتها القيمية والأخلاقية، ومصباحها الكاشف لطيور الظلام من الإخوان والسلفيين سارقى الحلم الثورى من قلوب شباب التيار المدنى، وتنقسم الشخصيات وفقا لأدوارها إلى شخصيات فاعلة بالمفهوم الثورى، منها، أكمل صديق البطل وصفاء عيلوة حبيبته ، ورأفت مغازى ممثل الإخوان فى ميدان التحرير، وأخرون، وشخصيات دلالية تؤكد أنها ثورة شعبية تلقائية وملهمة، منها محمد أبو العطا فلاح من بلطيم، حنان المنشاوى ممرضة، وسعد الظايط بائع الشاى بالميدان وخالد السبع زير نساء ودلال مشرقى عاهرة ،والدكتور عصام عبدالقادر المتخصص فى الفيزياء النووية،عاطل عن العمل، وجورج الزفتاوى عامل النسيج العاطل، وحجاج أبومتولى فواعلى،وعيسى الرويشد من بدوسيناء ودارية النوبية، وأخرون، وشخصيات دلالية أخرى تؤكد أن تشويه الصورة الجميلة للميدان و الثوار كان بفعل فاعل، منها،سباعى الدغل زعيم البلطجية وزين الأبجى متحرش، وشديد الوقيع رئيس المتحرشين،وأخرون،وشخصيات تكشف دور الإعلام الرسمى وغير الرسمى فى الثورة بمرحلتيها، منها، ماهر الأسمر “فيسبكاوى”،وبيتر جيدنز صحفى بريطانى، وشخصيات للدلالة على الموقف العنيف لوزارة الداخلية ضد الثوار والكاره لهم ،أمثال،المقدم سيف عبد الجبار والجندى خليفة الإسناوى، وشخصيات دالة على أنها ثورة كل المصريين مسلمين ومسيحيين، منها، هانى جرجس وميخائيل مكاريوس، وروحا الشهيدين أحمد حسن هاشم وحنا تادروس صومائيل، وشخصيات إخوانية وسلفية خطفت الميدان بعد جمعة الغضب،منها رأفت مغازى،والدكتورياسر،والشيخ حسن البنهاوى، صوفى،وشريف زهنى سلفى، وأخرون،وشخصيات تكشف التأمر على الثورة والثوار،منها شحتوت تاجر الرخام وملك شق التعبان المتورط فى موقعة الجمل،بالإضافة إلى شخصيات تعكس الانتهازية السياسية لرؤساء الأحزاب ورجال الأعمال والنواب البرلمانيين فى عهد مبارك،منها سعد عزت و المهندس يوسف أبو الفضل، وعاطف الشطنوفى، النائب الوطنى الذى أطلق لحيته ، بعد وصول الإخوان للحكم، فضلا عن شخصيات أخرى أدارت ثورة مضادة بإعلام مضاد لثورة يناير .
ويتوافق السرد الوصفى والحوارات مع طبيعة الشخصيات، خاصة شخصية البطل حسن عبدالرافع، باعتباره محور ارتكاز الأحداث فى ميدان التحرير وخارجه، ومركز دائرة الحبكة التى تدور حولها الاحتمالات السبعة لمقتله،من خلال فك أسرار الفلاشا وشخصية الزنباوى، وبؤرة السردية الدلالية الكاشفة لسرقة التيار المتأسلم للثورة، بصفقة الخيانة على حساب الثورة والثوار، فعلى سبيل المثال لا الحصر، وصف الكاتب أيقونة الثورة حسن عبد الرافع، بقوله:”فتصرف وكأنه ضابط مخابرات محنك، فصد شائعات، ورد كل ما ألقاه عملاء السلطة فى أذهان المتظاهرين من أفكار مسمومة لتثبط الهمم.”،وجاءت كل حوارات حسن مع صفاء عيلوة وسامر خفاجى ورأفت مغازى عاكسة لهذا الوصف ومتوافقه معه، ففى حوار له مع صديقه أكمل تظهر السمة الاستخباراتية للبطل، بمنظور إدراك ما وراء الكلام، حيث يحكى الكاتب :”وفى زحام الأجساد الملتهبة من شدة الاستياء، نظر أكمل إلى حسن وسأله:من أنت؟ ،فربت على كتفه وقال: أنا أنت.فتحير قليلا ثم قال:لكننى لست مثلك.فابتسم له وقال وهو يهز رأسه:يمكنك أن تكون ما تريد.”،ويحسب للكاتب فى رسمه لشخصية البطل أنه جعله صورة تجمع كل ملامح المصريين، وذلك بقوله:” فقال الشاب الذى تعرف عليه وهو يمصمص شفتيه سابحا فى شرود وألم: حسن من كل مكان فى مصر.”
وتتبدى حكمة الإنسان العاقل ورزانة المثقف الموضوعى فى شخصية حسن عبد الرافع من خلال موقفه من رؤية الإخوان الصبيانية للثورة، حيث يحكى الراوى : “كان يعرف كل شىء، ثم يطلق ابتسامة ساخرة من طرف فمه، حين يختلى إلى نفسه وهو ينصت إلى الشيخ رأفت مغازى حين يقول: إنها ثورة ربنا. “، كما تتبدى فيه صفة الثائر المدرك للمخاطر على الثورة ، ففى حوار له مع سامر خفاجى الثورى المتحمس الميال للعنف ،يرفض حسن عبدالرافع بشدة تحولها من سلمية إلى مسلحة، حتى لايكون ذلك مبررا منطقيا وفرصة سانحة للطاغية لوأد الثورة الشعبية فى مهدها، حيث يصرخ خفاجى فى وجه حسن ويقول له :”كفاك حديث عن هذا الحمل الوديع الذى تأكله الذئاب.”، فيرد حسن: ” هذا الحمل الذى لا يعجبك أكل الذئب الأكبر.”، فيقول سامر:” وبعدها انتهت قدرته على بلع أى شىء، فجاءت الذئاب لتلتهمه على مهل وهو يبكى من عجزه وخوره.”، فيرد حسن:” الدم سيفقدنا تعاطف الناس وهم الحضن الوسيع الذى نرتمى فيه، والنبع الذى تنهل منه ثورتنا، وإن جف ستموت عطشا.”،ويحكى الكاتب أيضا حوارا بين حسن عبد الرافع ورأفت مغازى يتوافق تماما مع طبيعة الشخصية الإخوانية، ونيتها فى سرقة الثورة والدولة والمجتمع بالشعارات البراقة لدولة الخلافة، حيث قال رأفت لحسن : “الثورة نقطة الانطلاق إلى دولتنا التى طال انتظارها.”، فسأله حسن:”أى دولة؟”، فقال مغازى:” الدولة التى دفعنا ثمنا باهظا من أجل بلوغها.”، فرد حسن:”الإسلام دين للإنسانية كلها، وحبسه فى دولة يضر غاياته الكبرى.”، فقال مغازى:” الدولة ستحرس الدين.”، فرد حسن:”الدول تقوم وتزول، والدين باق، وقوته فى ذاته، وهو يحرس نفسه، وإلا ما انتشر منذ قرون فى بلاد لم تطأها سنابك الخيل.”
وتضفى عناصر الحبكة على الرواية طابع الإثارة والتشويق من بدايتها لنهايتها، فالرواية تبدأ بحادث ضخم للغاية يتمثل فى اغتيال حسن عبدالرافع أحد قادة الثورة، والذى يمثل اسمه رافعة معنوية للثورة والثوار، ويبدأها الكاتب بعبارة خاطفة وصادمة “قتل الليلة حسن عبدالرافع”،ويتبعها بسبع أسئلة تكتنف سبعة احتمالات لمقتله،تطول كل المشتبه فيهم بالتأمر على الثورة والثوار،وهكذا تدور الشخصيات والأحداث فى ميادين الثورة وفى القلب منها ميدان التحرير بالقاهرة، وميدان الأربعين بالسويس،لفك طلاسم هذا اللغز الغامض والمحير،وخلال مراحل الوصول للحقيقة عن طريق الفلاشا وشخصية الزنباوى ورسالة حسن القصيرة إلى أكمل،وهى النهاية التى تركها الكاتب مفتوحة ليكشفها التاريخ فى حينه.
وتبدو الراوية كما لو كانت وثيقة سياسية ، وذلك لأنها تترك كل الشخضيات تدلو بدلوها فى الثورة ، بنفس رؤيتها وموقفها منها، سواء كانت معها أو ضدها، أو متآمرة عليها، وتنقل الواقع كما كان موجودا فى حينه، وإن كانت تعيد قراءة الأحداث وليس ناقلة لها فقط ،ويفعل الكاتب ذلك من خلال سرد مقاطع متكاملة يجمع بين كثير منها الاتفاق على حقيقة وحلم، والحقيقة هى أن الثورة ضاعت بفعل انتهازية الإخوان وغبائهم السياسى وعدم استفادتهم من أخطائهم السابقة، والحلم هو أن الثورة مستمرة، وهو ما تحقق بالفعل على أرض الواقع بسقوط حكم الإخوان،كما تنبأت أم حنان المنشاوى وغيرها،حيث يحكى الكاتب فى السطور الثلاثة الأخيرة للرواية :”لكن آخر وقف فى ميدان التحرير ونظر طويلا إلى الفروع الملفوفة فى الحروف، وقال: تسقط ورقة من شجرة الثورة فتنمو أوراق. يسقط شهيد تحتها فيصير كتيبة من المناضلين. تنكسر موجة فتتدفق موجات. يسقط حلم عابر فتنبت آمال مجنحة. يختطف المستبدون ميدانا فتولد ميادين. يقتلون حسن عبد الرافع فيولد لهم ألف حسن جديد.”
ويغلب على “سقوط الصمت” السرد الواقعى بحكم أنها رواية واقعية، من حيث الحدث والزمن والمكان، ولكنها تتضمن فى الوقت نفسه ثلاث سرديات تتسم بالواقعية السحرية، وتضفى على الأحداث طابع الإثارة والتشويق وتخطف ذهن المتلقى للتفاعل مع الأحداث،ويستخدمها الكاتب فى تأكيد الخيانة والخديعة الإخوانية والسقوط المدوى المتوقع لحكم الجماعة وكشف مغالطات تاريخية بشأن الفراعنة، أولها مشهد مناجاة حسن عبدالرافع مع تمثال عمر مكرم ،حيث يحكى الراوى:” يقف أمامه حسن عبد الرافع ويحملق فى عينيه الحجريتين وتدمع عيناه، ويبدأ فى مناجاته:يا شيخنا النبيل، قل لنا كيف لا نخدع مثلما خُدعت أنت؟، وثانيها مشهد الفرعون زوسر نثرخت،بعد تنحى مبارك وقول أحد الثوار أن الثورة أنهت عهد الفراعنة، حيث يحكى الكاتب عنه: “يضحك من كل قلبه، ويود أن يقول له، لكنه لن يسمع:حملتمونا فوق طاقتنا، ووصلت إليكم أخبارنا مبتورة، وخلعتم علينا جميعا أخطاء وخطايا قلة منا.”، وثالثها سردية الشهيدين أحمد وحنا، وحديثهماعن تحول خالد السبع لثائر حقيقى وزواج صفاء عيلوه من شخص غير أكمل ، وهى سردية تتنبأ بثورة شعبية عارمة فى ميادين مصر ضد حكم الإخوان، حيث يحكى الروحان عن المهندس إبراهيم الشربينى الذى ترك ميدان التحرير تحت وطأة صفقة الخيانة:”ـوسيعود يوما حين يشعر أن بقاءه هنا ضرورة، سيجهز الطعام للقادمين الجدد إلى الميدان،ويأخذ فى صدره شهداء آخرين بعد سنين.”،ويقارن الروحان بين المهندس إبراهيم الشربينى الثائر الوطنى لمصلحة البلد كلها، وبين الإخوانى الخاطف للبلد ليضعه فى جيب جماعته، وذلك بقولهما:”شتان ما بين هذا الرجل الذى يجود بكل ما لديه دون أن ينتظر لنفسه شيئا، وبين هذا الذى يجلس الآن على مكتب بين الشباب، يقول لهم بلسانه ما يأباه قلبه.”
ويستغل الراوى سردية زوسر فى عمل مقارنة عميقة الدلالة بين مبارك والفرعون المصرى زوسر نثرخت، حيث يحكى:” كانت سنوات حكم الطاغية تتوالى، وزوسر يعدها فى محبسه الشفاف، ويسأل نفسه: هل يزيد عن أيام بقائى أنا فى الحكم؟ ويقول لرفاقه فى المتحف العريق: أنا الجسد المقدس، حكمت تسعة وعشرين عاما، ومددت حدود بلدى جنوبا، وراكمت ثروة طائلة من تركواز سيناء ونحاسها، وبنيت أول هرم عرفه البشر، وأصلحت للناس دينهم، وسجلت كل هذا فى بردية تورين.”، ويكشف الكاتب من خلال سردية زوسر دور الإخوان والسلفيين فى قتل الثورة وإهانة الثوار، حيث يحكى:”زوسر يرى الإخوان والسلفيون يطاردون حسن عبدالرافع.. ويطاردون قلة من الشباب الذين رآهم فى المرة الأولى. أحد هؤلاء وقف يقاوم، فأوسعوه ضربا حتى سقط تحت أقدامهم، وسمع زميلا له يصرخ: اتركوه، إنه حسن عبد الرافع.”
ويستخدم الكاتب تلك السردية فى التأكيد على اقتراب ثورة الخلاص من الإخوان، وذلك من خلال صورة ثلاثية الأبعاد يظهر فيها الثوار وعمر مكرم وزوسر، كما لو كانوا “إيد واحدة” ضد مخطط الجماعة، حيث يحكى الراوى عن زوسر:”وقف عند تمثال عمر مكرم، وصعد إليه واحتضنه، وابتسم فى وجهه، ونظر إلى الميدان نظرة طويلة شاملة، ثم وقف يبتسم فى إشراق وحبور، ويقول لروحى أحمد وحنا، الشهيدان اللذان رحلا برصاصة واحدة غادرة: سيأتى ما أردتما جليا كشمس صيف ولو بعد حين.”،وهى السردية التى تعمقها سردية الروحين أحمد وحنا، وسردية تفسير والدة حنان المنشاوى الممرضة و الثائرة المصابة لحلم عميق الدلالة والمعنى، حيث يقول الراوى: “فأغمضت الأم عينيها قليلا وقالت:رأيت رجلهم الاحتياطى الذى وضعوه على الكرسى الكبير وهو جالس على الأرض، فوق رأسه لفافة بيضا، وقدماه مغروستان فى التراب، وبصره ذاهب نحو قرص الشمس المجروح بسكين الغروب. كانت عيناه منبلجتين، بينما هناك فى الخلفية قصر ذو أسوار عالية قد انفتحت أبوابه أمام سيل عارم من البشر الغاضبين.”، ويحكى أيضا عن الروحين الشهيدين ما يعزز هذه النبوءة: “صعدتا سويا إلى أعلى وهما تسمعان الأغنية التى ستصير بعد أيام قليلة، تنطلق من حناجر كل المصريين:“قولوا لأمى ما تزعليش .. وحياتى عندك ما تعيطيش .. قولولها معلهش يا أمى .. أموت أموت وبلدنا تعيش.”
ويضفى الكاتب على ميدان التحرير طابع القدسية الثورية والأخلاقية، وكأنه يعيد صورته الحقيقية لذهنية القارىء مرة أخرى، بعد أن شوهها المتحرشون والبلطجية المأجورون والإعلام الموجه المضاد لثورة 25 يناير، فهذا عم فاروق، ماسح الأحذية، يصبح متفاعلا مع الثورة والثوار وينادى ابنه الأكبر ويقول له: “اقرأ المكتوب تحت الثورة . فنظر الولد ثم قرأ : حسن عبدالرافع من شباب الثورة.”، وها هى دلال مشرقى التى كانت تعطى جسدها للراغبين فى اللذة الحرام مقابل المال تقول لخالد السبع :”أريد أن استغن عنكم جميعا. حين تنجح ثورتنا، سأبحث عن عمل فى مناخ نظيف، وأشطب أرقام هواتفكم إلى الأبد.”، وتحكى دلال عن الثوار فى ميدان التحرير “شعرت أن كل واحد فيهم أخى، وأنه يثأر لوجعى وغربتى وهوانى على كل من اشتهانى.”، ويحكى الكاتب عن سكينة وأسرتها التى كانت تكره الثوار إلى أقصى درجة ولم تشارك فى أى مظاهرة من قبل :” لكن حين تنحى اهتزت، ولم تدر بنفسها إلا وهى تتدحرج نحو المصعد، وتهبط إلى الشارع لتشارك الناس احتفالهم، وإلى جانبها مخيمر، وخلفها الابن والابنة. كادت أن ترقص، وهى تقول فى نفسها:”الله يا أبطال.”
ويكشف الكاتب كيف تغيرت شخصية خالد السبع من إنسان مستهتر يلهث وراء ملذاته الجنسية ويقدس الفردية ويحتقر الجماعية إلى ثائر حقيقى ضد الإخوان لاستكمال الثورة ، حيث يحكى عنه:” فقال فى ثقة متناهية:ميدان النافورة القريب من مقر مكتب الإرشاد. هناك سيتجدد كفاحنا، وسيسمع العالم كله صوتنا، بعد أن ظن الجالسون الجدد على العرش أننا بلعنا ألسنتنا، وأن قبضات أيادينا لم تعد قادرة على دق الهواء.”
وتتميز رواية سقوط الصمت بالسرديات الدالة،فكل واحدة منها تدل على شىء بعينه وتؤكد عليه، حيث يقول الراوى فى دلالة على حتمية الثورة للإطاحة بحكم الإخوان:” تسقط ورقة من شجرة الثورة فتنمو أوراق. يسقط شهيد تحتها فيصير كتيبة من المناضلين. تنكسر موجة فتتدفق موجات. يسقط حلم عابر فتنبت آمال مجنحة. يختطف المستبدون ميدانا فتولد ميادين. يقتلون حسن عبد الرافع فيولد لهم ألف حسن جديد.”، ويحكى الراوى لكشف نوايا الإخوان، أن حسن عبدالرافع قال غاضبا لرأفت مغازى:”نحن الذين سنموت هنا. أما أنتم ستذهبون لعقد الصفقات التى تبقيكم على قيد الحياة. تمصون دماء هذا الشعب، وتسخرون منه، وتستعملونه مجرد أدوات لتحقيق أغراضكم التى لا تخص أحدا سواكم، لكنكم تتوهمون أن فيها سعادة الجميع.”، ويقول عاطف الشطنوفى واصفا الوضع بعد سرقة الإخوان لمكاسب الثورة:”لصوص الثورة جلسوا على الكراسى المرصوصة فوق أعناقنا، وبلدنا التى لا يؤمنون بها، أصبحت فى خطر.”، ويحكى الكاتب فى سردية دالة على كراهية التيار المتأسلم الشديدة لشباب ثورة 25 ينار،” ضحك شاب وقال للدكتور ياسر: كلامك مقبول يا شيخنا، لكنه لن يمنعنى من أن أقتص ممن هاجمونا، لاسيما الولد الذى يسمى حسن عبد الرافع. كم أكرهه؟ وطالما حلمت وأنا يقظان بأننى أغرس أظافرى فى عنقه، حتى تخرج عروقه فى يدى.”، ويحكى الكاتب أيضا للدلالة على نفس الشىء :”أما رأفت مغازى، فابتسم حين طلب منه حسن أن يأتى لتحية الرجل، وقال:هؤلاء مجموعة من اليساريين أصبحوا خارج الزمن، ولدى ما هو أهم منهم.”
وتكشف سردية دلالية الرأى الحقيقى للناس ، خاصة البسطاء فى جماعة الإخوان والسلفيين، وخوفهم الشديد من إعادتهم البلاد إلى فكر ماقبل العصور الوسطى، حث يحكى الكاتب:” فيضحك رجل جالس فى ركن المقهى ويقول:”والآن جاءنا من يريد أن يغطى الأهرامات لأنها حرام ويحطم أبو الهول لأنه صنم، ويتمنى لو لم يزر بلدنا أجنبى واحد.”، وتؤكد سردية دلالية أخرى على أن الشباب المدنى هم مفجرو ثورة 25 يناير،حيث يحكى الكاتب :”حين عاد الثوار مرة أخرى إلى التحرير، بعد أن شعروا أن كل شىء يسحب من تحت أقدامهم، طلب الرويشد من ابنه الطالب فى كلية التربية أن يذهب إلى الميدان، وقال له:سلم لى على أصحاب الفضل، وخصوصا شاب اسمه حسن عبد الرافع.” ويربط الكاتب بين نظام مبارك وجماعة الإخوان فى العنف والقسوة ضد المرأة بسردية عميقة الدلالة، يحكى فيها:”لكن كالعادة نسى الناس بعض حكايتها مع مرور الأيام، إلا أنهم عادوا ليتذكروها كاملة حين سحبها شاب ملتح بقسوة بالقرب من مقر جماعة الإخوان فى حى المقطم، فانسحلت، وتجلط وجهها، وسالت الدماء غزيرة فروت الأسفلت القاحل.”، وتكشف سردية دلالية أخرى النقاب عن الأموال التى حصل عليها مرشحو التيار السلفى فى انتخابات مجلسى الشعب والشورى فى 2012، حيث يحكى الكاتب عن شحاتة أبوعوف الذى كان يقتات من سرقة اللافتات الانتخابية:” وتهلل حين سمع حسن عبد الرافع يقول لرجل ذى لحية كثة:مئات الملايين جاءتكم من الخليج لتمويل مرشحيكم.”، وتشير سردية أخرى بأصابع الاتهام إلى الإخوان بقتل بعض الثوار،وذلك بالتلميح لا التصريح، حيث يقول الزنباوى تاجر السلاح لخالد السبع:” الفلول معهم فلوس لا تحرقها نار. كما أنهم أصحاب الفضل علينا، وأصحاب اللحى الكثة تأتيهم أموال طائلة من الخارج، لا يشغلون أنفسهم فى عدها.”،وتتعمق تلك الاتهامات بشكل أكبر من خلال سرديات دلالية عديدة أخرى ، منها واحدة تصف حال رأفت مغازى لحظة علمه بمقتل حسن عبدالرافع، حيث يحكى الكاتب عن صفاء عيلوه:”ووخزها كلامه، لكنها تماسكت وسألته عن السبب، فأجاب:الملعون يفتش فى دفاترى القديمة. لا يعجبه تقديمى كحارس على الثورة. يصفنى بأننى ثعلب مكر وصبر حتى لهف ما ليس له. هكذا وصلنى ما يطلقه من شائعات عنى. وزاد على ذلك أن أسرارنا التى جمعناها من قلب ميدان التحرير وطويناها معنا باتت مكشوفة بفعل لسانه اللاذع وحقده الدفين. يبوح بكل شىء ويسمى هذا شفافية، وما هو إلا عبط وسذاجة. وقد يدفع قريبا ثمن خبله وثرثرته التى لا تنتهى.”
وتتسم “سقوط الصمت” أيضا بسرديات وصفية ترسم صورا دقيقة ومعبرة للغاية تساعد فى جذب القارىء وتشويقه أكثر لقراءة رواية طويلة بهذا الشكل، فعلى سبيل المثال لا الحصر، يصف الكاتب أقسام الشرطة فى عيون أطفال الشوارع والمشردين، بقوله:”يوم الزحف الكبير وجدوا أنفسهم يندفعون نحو صناديق العذاب والغربة ليحطموها.”،ويصف أطفال الشوارع فى ميدان التحرير، بقوله:” يسيرون فى الميدان كأنهم كائنات برية جاءت للتو من معارك قنص ضارية، يرفعون وجوههم الممروضة فى وجه الناس، ولا يعبأون بشىء ولا بأحد. أولاد وبنات شبوا عن الطوق قبل أيام أو أسابيع، يفعلون كل شىء بلا خجل ولا خوف.”، ويصف الثوار فى 25 يناير بقوله:” خرجوا ليدقوا الهواء بأيديهم فيسوقون الريح إلى حيث يجلس الطاغية العجوز فيهتز عرشه ويترنح ثم يسقط إلى الفراغ، ومنه إلى عتمة التاريخ. “، ويصف المتحرشين بالنساء فى ميدان التحرير بقصد تشويه صورته، بقوله:” كانت الفرحة تسبق زين إلى الميدان. لأول مرة فى حياته سيجد يده ممدوة إلى الأجساد الطرية بلا خوف. سيفعل ما يريد. شعر أن جسمه يغلى بالشبق. جيوش من النحل تزحف فى شرايينه، وتنتهى إلى ما بين فخذيه فيتصلب. يتلهى عنه قليلا ليهدأ، لكنه كلب مسعور لا يكف عن النباح.”
ويتنوع السرد فى الرواية بين الوصف و الحكى والحوارات ، وتشتمل اللغة على الموروث من الحكم والأمثال والأشعار والكلام المأثور، وقد تم توظيفها بعناية ودقة لإقناع القارىء بمضمون الأحداث ومساراتها،؟ فعلى سبيل المثال لا الحصر، قال المستشار ترزى التعديلات الدستورية:” من يخطب الحسناء لا يغلها المهر.”، وقال حسن عبدالرافع:” الثورات كأسماك القرش حين ترى الدماء تزداد توحشا.”، وقال هاشم الغامدى لدلال مشرقى:”بنات الهوى فى كل مكان “، وقال حسن عبدالرافع:” القاتل يقتل ولو بعد حين.”،وقال هانى جرجس:”الموت راحة كل حى”، وقال أكمل لحسن عبدالرافع:” بين الشجاعة والتهور شعرة.”،وقال البطل: “إذا اتسعت الرؤية ضاقت العبارة”.،وقال الفلاح الفصيح:”يدى الحلق للى بلا ودان”، و”الحظ لما يآتى يخلى الأعمى ساعاتى”، و”ملك الملوك إذا وهب لا تسألن عن السبب”.، وقال مكاريوس:”ليست الشجاعة فى مواجهة الموت، ولكنها فى مواجهة الحياة.”، وقال البطل لأكمل:”الشعب الذى يصنع نصف ثورة يحفر قبره بيده”.،وقال عبدالرحيم القوصى:”ليس المسئول بأعلم من السائل.”، وقال أكمل لضابط الشرطة:” الفقر فى الوطن غربة.”، وقال البطل:” من لا يرى من الغربال أعمى”، وردد البطل وهو يتحدث مع اسحاق عبدالملاك قول المتنبى “نامت نواطير مصر عن ثعالبها … وقد بشمن وما تفنى العناقيد”، وقال حنفى سليم:””وزر المظلوم الساكت على الظلم كوزر الظالم”.،وقول أحد الثوار:” لا يمنع حذر من قدر.”
ولا تخلو الرواية من الرمزية فالطفل تاه فى ميدان التحرير لأنه وجد فيه الأمان والطمأنينة ، ووجد فيه أيضا فيضا من الحنان أحن عليه من أبيه وأمه، وشعر بأن ثورة يناير هى مصدر سعادته، حيث يحكى الكاتب عن الطفل :” اقتربت منه طفلة تمسك يد أمها، وحاولت أن تمس بأطراف أصابعها ذيل القطة، لكنه راغ عنها وتفاداها، ثم صرخ في وجهها: قطتى.”، وترمز القطة هنا للثورة، وكأن الكاتب يريد أن يقول أن الأطفال الذين شاهدوا ثورة 25 يناير ربما هم الذين يحرسونها حتى تتحقق مبادئها ومطالبها،خاصة أن الكاتب يحكى عن الطفل:” لكن الشيخ كان مشغولا بالنظر إلى طفل صغير سحب يده من يد أبيه ورفع علما فى وجه الريح وهو يصرخ:يحيا الشعب ويسقط الخونة.”
كما لاتخلو الرواية من تناقضات تزيد أحداثها تشويقا وشجنا فى قلب وذهن القارىء،فعلى سبيل المثال لا الحصر، يحكى الراوى:” مبارك إلى منتجع مخملى بعد الخلع والثائرة كريمة إسماعيل إلى السجن الحربى”، ويحكى عن شحاتة أبوعوف سارق اللافتات بعد تحولها إلى لافتات نيون :”ترامى إلى أذنه نقاش حاد بين اثنين من الزبائن، كان أحدهما يقول للآخر:لا بد أن نشعر بالتغيير. فضحك عم شحاته من كل أعماقه، وسعل وشهق ثلاث مرات، ثم التفت إليهما وقال بالنسبة لى، أنا أكثر واحد فى هذا البلد حاسس بالتغيير.”