سقراط والسؤال

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

سمر مجدي 

هناك أناس أتخذوا من التاريخ موضعًا لقدم لهم, لم يستطع الزمان أن يزحزحهم عنه في طي النسيان، منهم من اتخذه بالقوة، ومنهم من سلبه في غفلة من الزمن، ومنهم من كان يجوب البحار فيخرج لنا بعالم جديد “قارتين من العدم”، كان سقراط مثله في ذلك غير أنه كان يجوب بحار نفسه ليستخرج الحكمة، ومنهم من أراد أن يخلق من الليل نهارًا فاخترع مصباحًا يضئ به العالم، وكان سقراط مثله أيضًا لكنه أراد نورًا من نوع خاص يجلو البصيرة قبل البصر، ومنهم من لوى ذراع الزمن فأشعل حروبًا وأهدر دمًا كسقراط الذي أشعل حربًا فكرية وأهدر دمه ولكن شتان بين هدفه وهدفهم. لم يكن سقراط يومًا برجل حرب أو مستكشف وليس بعالم أو مخترع أو واضع للنظريات  ولكنه تشابه معهم بل وخرج من عباءته كثيراً منهم واستطاع أن يتخذ موضعًا مجيدًا له من قبل الميلاد حتى الأن فقط لإنه سأل.

في أثينا الإغريقية قبل الميلاد بحوالي 450 عام حيث اثني عشر إلهًا، وطبقات اجتماعية يترأسها الأرستقراطيون مرورًا بأصحاب الحرف والمزارعين إلى العمال المأجورين الأحرار، ونظام سياسي يقوم على الديمقراطية المباشرة التي بالمناسبة تختلف عن الديمقراطية بتطبيقها الحالي حيث ينتخب الشعب ممثلين يتخذوا القرارات السياسية بالنيابة عنهم بينما في الديمقراطية المباشرة يصوت الذكور من الشعب بأنفسهم، وأخيرًا سفسطائيون يحترفون الجدال من أجل الجدال كمهنة، في ظل كل هذا ظهر رجل يسأل!

كانت أسئلة سقراط للوهلة الأولى تبدو غاية في البساطة ولكن ذلك سرعان ما يتعمق ما إن تبدأ في الإجابة, فتأخذك الإجابة إلى سؤال آخر.
يبدو هذا جليا إذا استعرضنا جزءًا من حوار سقراط مع لاخيس وهو قائد أثيني معروف له بالقتال وميادينه علم يستشيره أهالي أثينا في تربية أبنائهم عسكريًا.

يسأله سقراط: ماهي الشجاعة عمومًا؟

فأجاب أن الرجل الشجاع يلزم مكانه ولا يهرب.

أخذته إجابته لسؤال سقراط التالي:

ماذا عن الفرسان حيث المناورة فلا يلتزمون بمكان؟ وماذا ترى في الشجاعة عند العواصف والمرض والفقر؟

وكان لاخيس بإجابته يكر خيطًا من الأسئلة يحيك به رداء من المعرفة بالشجاعة رغم إنه من المفترض بالشجاعة خبير.
وفي حوار آخر دونه أفلاطون استطاع أن يصل سقراط بسؤاله ليوثيديموس إلى حقيقة مفادها أن ليس كل عمل مخادع هو عمل غير أخلاقي.

إن إدراك سقراط من خلال اختلاطه بالناس في الأسواق والأماكن العامة أنهم يتكلمون عن أشياء لا يعرفون عنها سوى القليل هو ما دفعه للسؤال ليس ليجد إجابة ولكن لينتبه الناس فيتوقفوا قليلا ليسألوا ويبحثوا في أنفسهم وبالتالي يعلمون عنها قبل أن يعلموا عن العالم الخارجي،  فإن هدف سقراط هو أن تعرف نفسك أولا اعتقادًا منه أنك عندما تعرف عن نفسك فإنك ستكون قادرًا على فهم الأشياء من حولك ولذلك سطر عنه تاريخ الفلسفة بإنه من أنزل الفلسفة من السماء.

ومن أقواله “كنت أفتش عن الحقيقة وأبحث عنها كما يبحث الجائع عن الطعام، ولم استطع أن أقبل المشكلات من غير مناقشاتها، فلقد كنت في حاجة لكي أرضي ذلك النداء الملح الذي يريد من كل إنسان أن يجتهد للوصول إلى الحقيقة الكاملة، وها أنا إذن، لا يهمني أن أكون مثلكم لا أملك شيئًا من علم ولكنني لا أريد أن أعاني ما تعانون من جهل.”

لجأ سقراط للسؤال كي لا يملي على الناس معارفه وأفكاره فكان سؤاله بمثابة دعوى للناس كي يبحثوا عن أفكارهم هم ويكونوا معارف لأنفسهم بأنفسهم. حتى أن سقراط لم يخط حرفًا في كتاب اعتقادًا منه أن الأفكار يجب أن يتم مناقشتها وليس كتابتها حتى لا تتعامل معها الأجيال اللاحقة على أنها حقائق مسلم بها.

في عهد كان فيه العقل يغط في النوم كالميت على طبول السفسطائيين, كانت أسئلة مثل ما هو الحق؟ ما الفضيلة؟ ما معنى الخير؟ بمثابة زلزال يوقظ الموتى من قبورهم ولم تكن أثينا مستعدة للبعث بعد، لذلك أتهم سقراط بأنه خطر على الشباب ويهدد آلهة أثينا وحكم عليه بتناول السم، ليموت سقراط في عهدهم ويظل حيًا في كتب تلاميذه حتى اليوم.

والآن أترككم مع كلماته الأخيرة:

  “لنواجه الموت بشجاعة  كما واجهنا الحياة. فليست المشكلة يا قضاتي أن ننجو من الموت، بل في النجاة من الجريمة. لإن الجريمة أحث من الموت خطوة، وأسرع بنا لحاقًا. وإن كان حكم الموت قد لحق بي، فإن الإثم لاحق بمن وجهوا لي هذه التهمة، والزمان يحكم في النهاية.”

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كاتبة مصرية 

مقالات من نفس القسم