مصطفى عبادة
«وشم وحيد» رواية جديدة للروائي سعد القرش، صدرت حديثا عن الدار المصرية اللبنانية، تقع في ثلاثة وثلاثين فصلا، وهي الخامسة للقرش بعد: «حديث الجنود» و«باب السفينة»، و«أول النهار» و«ليل أوزير»، غير مجموعتين قصصيتين هما: «مرافئ الرحيل»، و«شجرة الخلد» وكتاب في أدب الرحلات بعنوان: «سبع سماوات».
في هذه الرواية الجديدة «وشم وحيد» يرسخ سعد القرش، طريقته الهادئة والمتأنية في السرد، يحفر وراء شخصياته بدأب، ولا يتعجل الوصول إلى هدفه، حيث لا تتخفى الرواية وراء مقولات كبيرة، ولا يؤطرها رأي مسبق، ولا تحاول حتى أن تكون استعارة لواقع، أو عن واقع، يمكن تلمس تفاصيله، وردها إلى أصولها الوقائعية، أو دوافعها النفسية، فتنأى عن فخ التوثيق للشخصيات وأنماطها الحياتية، التي تكاد تكون معروفة، بل إنها ـ في الأساس ـ تأتي كرواية خبرة إنسانية، كتبت بهذه الخبرة، ولم تكتب الخبرة ذاتها، وهذا ما فرض عليها أداء جماليّا شكليّا وموضوعيّا محددا.
رواية تستسلم لصيرورة الحياة وامتداداتها، لا تتوقف أمام شخص أو حدث باعتباره مركز الكون وحده، حوله تدور الوقائع وإليه ترتد، بمفهوم الدّراما اليونانية الموروثة، دراما البطل القدري، الخالي من الشوائب، فكل شخص وكل حدث جزء من نهر كبير متدفق اسمه: الحياة.
«وشم وحيد» رواية إعادة البعث، وتجدّد الخلق، في الموت تولد الحياة، وفي قلب الحريق يلمع النور، وهي تيمة متكررة في عمل سعد القرش الروائي، تُكون القوة في أعلى ذروة لها، لحظة الضعف والإشراف على الموت، والمشهد الذي يتذكره وحيد (بطل الرواية) لأبيه يحيى وأمه لحظة حريق أوزير في بداية الرواية (ص 8) يصلح كمفتاح لاختبار هذه الآلية في الرواية ففي لحظة الحريق الذي أتى على القرية، ونجا منه يحيى وزوجته، وهما في قمة الإنهاك والإشراف على الموت، تصر الحياة على المقاومة، وتواصل المقاومة التجدد: «هم بالبكاء وأسعفه ضعف زوجته، وهي ترتمي في حضنه، تطلب الأمان وتبكي، فتماسك وزحف إلى داخل الخص، وهي في حجره، سحب الباب وهو يرتعش من البرد، ولم تجد ما تدفئه به سوى جسدها، ضحك غير مصدق، وهو يتحسس رمحه، وهي من المفاجأة شبقت، وتأوهت لذة وتعبا في ذهول من لا يعي، حتى إذا انتهى يحيى أطلق آهته الأخيرة، ولهب الحريق يمتد إلى جلباب أبيه، ويعمي الدخان عينيه، ويسيل دمعه الصامت».
حياة وحيد في هذه الرواية، عبارة عن رحلة طويلة تحلم بالعودة إلى المكان الأم «أوزير» لدفن جثة الأب الذي مات في حفر القناة، رحلة البحث عن الجذور والتمسك بها، «أوزير» هي الهدف من رحلة الحياة كلها، تشكل حلما يدنو ليبتعد، ويظل يراوغ وجدان «وحيد»، يتكرر احتراقه، وتتكرر إعادة بنائه من جديد، ثم ما يلبث أن يحترق، وهو خلفية لكل حدث في الرواية، والغاية من كل فعل، ينساه «وحيد» ليتذكره، ويتذكره فيأسى ويصر على الحياة ليعود إليه، وكأنه سيزيف جديد، يكاد يبلغ الحلم، ويعثر على جذوره، فيرتد خائبا، كأنها مراوحة قدرية.
في طريقه للإمساك بهذا الحلم، يصطدم وحيد بغرائب وشخصيات، تشكل ملامح رحلة حياة كاملة، حياة إنسانية، وكل شخصية يمر بها وحيد تشكل له أملا جديدا، وحياة لم يكن يتوقعها، ولا ينتظرها، درامية الحياة والشخصيات تبدو كقدر لا فكاك منه، وطاقة النور لاختراقه هي إصرار الإنسان على التمسك بالمقاومة وباستكمال الحياة، فتستمر الحياة، ويستمر الألم، ويخلق وحيد حياة جديدة في مكان جديد، حتى يصل إلى الانغماس التام فيها، ليشكل اختفاء أوزير من وجدانه، نهاية عصور قديمة، وميلاد حيوات أخرى، هذه المرة في «مصر المحروسة» مع امرأة غريبة تتجدد بها حياة العائلة، ولا يبقى من الحلم القديم إلا أشباح تأتي في المنام أو في خيالات اليقظة، لتتداخل الأزمنة بشكل كابوسي ونقطة ارتكازها الوحيدة: الحياة تستمر وستستمر.
شخصية «هند» إحدى محطات وحيد في الحياة، هي نقيض شخصيته، متورطة في الحياة، لا تبحث عن ماضٍ، ولا يعنيها، إنها هنا وفقط، وكما هي متورطة في الحياة، تورط وحيد فيها أكثر، إنها وحيدة واللحظة الحاضرة تعني لها كل شيء، والمستقبل مرهون بالأمان، انقطاعها عن الماضي، يجعلها شخصية أقرب إلى التجريد: «قالت إن رجلا جاء بها إلى مصر المحروسة، اشتراها أو أخذها مقابل علايق للدواب أو بضاعة، وكان أبوها هاربا بها من منسر أو عسكر أغاروا على البلدة وقتلوا كثيرين من أهلها، ولم يستطع أبوها أن يدفن أمها، ولا يعرف لهـا قبرا، ثم مات بالطاعون في الطريق، وطرحوا جثته مع جمع من المرضى الهالكين، وأحرقت الجثث بالجير الحي في حفرة».
تقوم لعبة السرد فيما يخص شخصية «هند» على محوري التجريد والتجسيد، فهي مرة تشبه الملاك، أو هي الملاك المرسل إلى مسافر تفرقت به السبل، ومرة هي المرأة الجميلة، التي لا تمل المعاشرة، «هند» حتى اسمها اختاره وحيد عفو الخاطر، لا تعرف اسمها، ولم تسمع لها اسما، سمعتهم مرة ينادونها «أمة» أو «أمة الله» أو «بنت بنوت» وأحيانا «يا بنتي» ومرة هي كل أسماء النساء، وربما كل النساء في واحدة، تمنح الحياة، وتهب الذرية، لتحافظ على سلالة العائلة، وتجعل لآدم امتدادا، وحيد لم يتورط في الحياة، إلَّا مع القرين «هند»، معها يصبح هو كل «آدم» وهي كل «حواء».
تتجرد شخصية هند في الرواية لتقترب من أم النساء حواء في الغواية والحض على ممارسة الحياة بقضم التفاحة المحرّمة، وتتجسد كامرأة عادية يسير النحس في ركابها، وتساءل: «حتى الذين لم يقتربوا منها سبق إليهم الموت، فما بالك وقد انكشفت عليها يا وحيد وتعريت، ونلت منها ما لم ينله قبلك أحد».
وتمضي الرواية في المراوحة بين عوالم كثيرة أرضية وروحية، أرضية من معالمها القهر، والموت والجثث التي تدفن تحت فحت «القناة»، جراء استبداد «أفندينا»، وروحية نقطة إشعاعها المرأة دائما، ويخرج السرد من منطقة إلى أخرى سلسا مطواعا هادئا، مستجيبا لتوتر الحدث، وضغط الموقف، لا عنف في السلوك أو اللغة، بل لعب واقتراب من حرارة مشاعر إنسانية تصر على إثبات حضورها في الحياة، لا قفز ولانتوء، تداخل في الأزمنة، يقترب من حد الهذيان في لحظات اليأس، عندما يفشل وحيد الآدمي ويصر على الخروج من الجنة التي تصنعها هند بحثا عن عم وثأر قديم، وجذور بدأت في مكان بعيد، ويحاول التشبث بها، لكن الحياة تفرض نفسها وتنمو وتستمر حيثما تشاء ليؤسس وحيد عائلته الجديدة في مصـر المحروسة، بعيدا عن أوزير التي تكتفي بالظهور كطيف حلم عابر، ليكمل ابنه هاشم وعروسه رحلة الإنسانية الجديدة.
يذهب سعد القرش إلى التاريخ القريب. وقت حفر قناة السويس، وموت والد الرواي بين يديه فيها، ليرصد إصرار الشخصية المصرية متمثلة في عائلة «عمران»، لكنه يقول ذلك بالسرد وبتفاصيل الحياة ومحبتها، وخصوبة العائلة التي تتناسل فيما يشبه المعجزة بين الحرائق والخرائب، تسعد في أوقات الرخاء، وتأسى وتتمسك بالأمل دائما في لحظات الفناء، إنها الأسرة المصرية التي عجز حتى علماء الاجتماع عن الإحاطة بجذورها.
………….
(“القدس العربي” / 11 ـ 9 ـ 2012).