سعد القرش: الرواية اليوم هي «الحيطة المايلة» لمن لا يجيد الكتابة أصلا!

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 33
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

حاوره: البهاء حسين

 يعرف سعد القرش كيف يمارس الإنصاف، هو الذي تخطته مدرجات التصفيق إلى غيره ممن يهمزون النقاد ويبقون على حرارة أيديهم مرتفعة. حتى عندما حصل، مؤخرا، على جائزة «ابن بطوطة» لم تكن من المحروسة.. لا بد أنه يشعر بالأسى، ولم تكن عن رواية (4 روايات)، أو مجموعة قصصية (مجموعتين)، بل في أدب الرحلات! مع ذلك يخلو بقامته النحيلة ورأسه الذي شاب قبل الأوان، ليفكر في العمل القادم.

   عالمه يشبهه، قدرة على محبة البشر وتصديقهم، لا إدانتهم. حين أخبره أن فلانا ليس نبيلا، كما يظن، يمط الكلمات باندهاشة طفل لا يعرف شيئا عن البنى آدميين.. ياااه، لا يا شيخ، غريبة! تصورت أنه غير كده خالص! أظن أن دهشته تنبع من ثقة فيما يحمل الإنسان من خير وفي المفترض، لا الحاصل. مع أن الروائي، بداخله، يدرك عورتنا ويعريها بلا تشف.

   وبينما يطن كثيرون من هواة التسويق، يكتب سعد وينتظر، مؤمنا، مع كازانتزاكس، بأننا يجب أن نغادر الأرض، ليس كعبيد ممزقين ومجلودين، بل كملوك ينهضون عن المائدة وهم ليسوا في حاجة إلى شيء. وقد بادرته بسؤال عن الجوائز التي أصبحت «موضة»، فقال:

   – من طبيعة الأثرياء، في أي مكان في العالم، أن يبحثوا عن شرعية، خاصة إذا كان التاريخ يعوزهم، والإبداع أيضا. قارن مهرجان القاهرة السينمائي، أو أي واحد من المهرجانات الـ 11 الكبرى في العالم، بمهرجان مثل دبي الذي تصل بعض جوائزه إلى 10000 ألف دولار. إنها هدية يعطيها من يملك لمن يفرح. ولكن فرحة الفائز ستكون أكبر لو نال جائزة أقل ماديا في مهرجان مثل برلين أو كان أو روتردام، هذا هو الفرق. ومن حسن حظي أن جائزة ابن بطوطة، لا تقف وراءها جهة رسمية، بل مركز أهلي أعضاؤه بامتداد الوطن العربي، من الأساتذة المختصين في أدب الرحلة. كنت أود، طبعا، أن تكون أول جائزة من مصر، وفي مجال الرواية، ولكني مررت بتجارب فقدت معها الثقة بكثير ممن يبدون، الآن، عرايا، غير أنني لم أعد أهتم. يكفي أن تنظر إلى الجوائز المصرية، أهلية أو حكومية، في العامين الأخيرين بالذات، لترى إلى أي مدى وصلت الأمور.

   * على ذكر أدب الرحلة، على كثرة ما يصدر فيه، لم تعد الرحلة طريقا لاكتشاف الذات، أو استبطان الأماكن والبشر، أعتقد أنها تحتاج إلى عين طازجة ترى المقيم في العابر.

   ـ أدب الرحلة فرصة نادرة لاكتشاف الذات، أو إعادة اكتشافها. قارن بين رحلات كازنتزاكس والأعمال المتواضعة لكتـّاب من عينة مصطفى أمين وأنيس منصور. لكي تكتشف ذاتك، لا بد أن تكون مؤهلا وقادرا على رؤية ما وراء البريق أو السطح الخاطف للأشياء الجديدة. منذ سنوات بعيدة قرأت كتاب «مشوار كتب الرحلة» لـسيد حامد النساج، أعجبني فيه وصفه لرحلات أنيس منصور بأنها خفيفة، بلا عمق ولا قدرة على التحليل، ومكتوبة بلغة قلقة لا تحمل أبعادا فكرية، يفرح برصد مشهد وينتقل من صورة إلى صورة ولا يعنيه إلا البريق. أدب الرحلة كتبه من قبل أناس مهمومون، وأتوقف بإعجاب أمام رحلات الشيخ مصطفى عبد الرازق قبل مئة عام، ونقولا زيادة وغيرهم، وكتب رفاعة الذي كان يشعر بالمسؤولية تجاه وطن يحتاج إلى النور.

   * تزعم أن جيلك ولد في غفلة من النقاد، رغم أن أغلبه ما زال، حتى الآن، يعيش في حجر النقاد!

   ـ مشكلة الثمانينيات أنهم ولدوا كأفراد ولم يظهروا كجيل، فجيل الستينيات ظهر مسلحا بنقاده، كما ساهم نقاد من الجيل السابق في تقديمهم، مثل يحيى حقي في حنوه عليهم نشرا ونقدا، ويوسف إدريس الذي قدم الأعمال الأولى لبعضهم، ومحمد عودة وغيرهم، إضافة إلى وجود عمدة مثل نجيب محفوظ، يجيد الإصغاء، وإن ظل أخبث من أن يصدر حكما على أي منهم، وهو ما كان فرصة لنمو كثير من الأعشاب على أكتافه.

   جيلي، ظهر واحدا بعد الآخر، خيري عبد الجواد، عاطف سليمان، إبراهيم فهمي.. إلخ، وكنت أشعر بهم كيتامى يبحثون عن أب. عن نفسي قررت منذ البداية ألا أسعى لصناعة وصيّ من جيل سابق، كنت أرثي لكثير منهم، إذ يبحث عن جواز مرور، وكانت النتيجة أن سقط هذا الجيل ككتلة بين تنظيم السبعينيات وموجة آخر القرن التي اختلطت فيها الأوراق، حتى أن كثيرين يتحمسون لكتابة أقرب إلى التحقيق الصحافي، باعتبارها «رواية»، وساهمت في هذا الخلط الجوائز والسفريات والترجمات والندوات واجتراء كثيرين على حرمة الإبداع من الأكاديميين والمترجمين في ظل عدم وجود شيخ حارة للمبدعين يقول للمحسن أحسنت وللمسيء.. ابحث لك عن طريق آخر غير الكتابة.

   * إذن هناك من يسعى، عن عمد، للخبطة الخريطة الروائية؟

   ـ هناك أشياء متعمدة وأخرى مصدرها الضعف البشري. عندما كان يوسف إدريس، يفرد ظله، بكثير من السطوة «المستحقة» على الحياة الثقافية، كان واحد مثل إدوار الخراط يشعر بالغربة وتجاهل النقاد له، فيلجأ إلى تدبيج دراسات مطولة عمن يقلدونه، كنوع من العزاء. بعض هؤلاء اختفى الآن، وتوارى البعض، فهل سقط رهانه؟ لا تستطيع أن تراهن على نقاد يسعون بنزاهة القاضي إلى الإبداع المطروح وقراءته وتقييمه، بصرف النظر عن معرفة أصحابه، أو انتظارا لوصول العمل إليه، لا أستثني سوى فاروق عبد القادر، أما الآخرون فلهم حسابات. أحدهم (لديه الاستعداد للكتابة عن أي كتابة)، يعلن بصفاقة عن قدرته على خلق كتاب من العدم. بوسع هؤلاء أن يصنعوا كاتبة خلال عام واحد، حتى إن كانت متواضعة الموهبة. خذ جابر عصفور مثلا، لقد كان بثقافته وعقليته المنهجية قادرا على أن يكون ناقدا بجد، لكنه انتهى إلى ما هو عليه، وليته يثبت لنا أنه قد تبرأ من دم التوازنات. واسمح لي أن أستطرد بقصة دالة.. قبل عشر سنوات قال لي صلاح فضل إن منتهى أمله أن تتاح له فرصة الكتابة في «الأهرام»، وتحققت أمنيته، فانظر ماذا يكتب! احذف هذه السنوات العشر من كتاباته ولن يفوتك شيء.

   * بالطبع كان رأيك في هؤلاء سيختلف لو كتبوا عنك ؟!

   ـ أبدا، فقد قررت منذ فترة ألا أهدي أعمالي إلا لمن أثق بهم من الأصدقاء لا النقاد، لا أنطلق من شعور بالاضطهاد، فأنا استطيع أن أضطهد بلدا بأكمله، ولكني أتكلم عن شعور بالإشباع، بل بكثير من الرضا حين أنظر خلفي. لقد عوملت بدلال كبير منذ بدأت الكتابة قبل أكثر من 20 عاما، كنت طالبا في الجامعة، بلا قريب في هذه المدينة التي وصفها عبد الحكيم قاسم بـ «أم اليتامى»، حين فاجأني عبد القادر القط وإبراهيم حمادة وغالي شكري وعبد الله خيرت وفريدة النقاش ومحمد روميش وغيرهم، بحفاوتهم. إن ما كتب عني يكاد يكون أكثر مما كتبت.

   * وسط هذه الفوضى تعمل على مشروع يتوكأ مرة على التاريخ، وإن كنت ترفض مصطلح الرواية التاريخية، لوصف أعمالك، ومرة على الحاضر، أو بالأحرى تستدعي التاريخي إلى الحاضر، سؤالي عن هذا المشروع إلى أين وصل؟

   ـ لا أسعى إلى إنجاز ما تسميه بالمشروع. أنا مهموم ببعض الأمور، منها الوجودي ومنها الاجتماعي، والأهم أني أستمتع بما أفعل، لو لم تستمتع بالكتابة، لن يستمتع القارئ بالقراءة. المهم كيف تكتب، ولا تشفع القضايا الكبيرة لنوايا حسنة أو كتابة متواضعة. المتعة مثل المعنى مطلقة، كالخير والحق والجمال، ليس لها دين. وأنا ألتمس هذه المتعة وأحاول تحقيقها في الكتابة، أيا كان موضوعها. لا أحدد نقطة ابتداء أو انتهاء.

   * لم تجب بعد عن سؤالي.

   ـ كل رواية هي بالضرورة تاريخ، حتى لو تكلمت عن المستقبل، هل يجيب هذا عن سؤالك.

   * ليس تماما، ولكني أعود معك لجيل الستينيات الذي يبدو أنه تفرغ للجوائز والتكريمات. هل كتابته ما زالت فاعلة؟

   ـ هذا الجيل أشبه بتنظيم، لدى أعضائه القدرة على الدفاع عن أنفسهم، حتى وإن لم يحب أحدهم الآخر. كلهم أصدقائي وكلما جلست إلى أحدهم قال عن الآخر ما لم يقله مالك في الخمر. أقله أنه دخل الكتابة بطريق الخطأ.

   * وماذا يبقى منهم؟

   ـ «مالك الحزين» و«الخالدية» و«الزيني بركات» ومعظم عبد الحكيم قاسم وبهاء طاهر ويحيى الطاهر عبد الله.

   * والكتابة الجديدة، رغم الرهان عليها، لم تقدم بعد مشروعا؟

   ـ مشروع الكتابة يرتبط دائما بمشروع أكبر، المشروع الليبرالي أنتج نجيب محفوظ، مشروع التحرر أنتج يوسف إدريس، والمشروع القومي، بمده وانحساره، أنتج جيل الستينيات، نحن لم نشهد هذا المد، وإن عانينا آثار الانكسار، ولهذا ليس هناك مشروع، إنما هناك أعمال متفاوتة المستوى، حتى للكاتب نفسه.

   * اعتبرت مشاريع التحرر التي شهدتها فترة الستينيات أعباء على الكتابة. أهي عبء أم التزام؟

   ـ سؤالك يخص الكتابة التي يجب ألا تخلص إلا لنفسها، الفن الجميل بحد ذاته رسالة عظمى يعلو الأيديولوجيا ولا يتخلى عنها.

   * تحلم بقارىء خالي البال، أظن أن هذا القارئ لا وجود له!

   ـ أنت لا تضع القارئ في ذهنك وأنت تكتب، لأنه يوجه كتابتك. يظل رهانك دائما موجها إلى قراء أو أصدقاء مجهولين، وحتى يأتي هذا القارئ تظل تكتب مكتفيا بالحلم به. طوابير الخبز لم تترك لنا رفاهية الحلم بقارىء خالي البال. هذا لا يدعوك للتنازل عن شروط الفن أو تملق قارىء مشغول بغيرك.

   * هل صحيح أن الرواية بنت المدينة؟

   ـ الرواية والإبداع، عموما، ابنا الخيال، ليس هناك من جديد سوى الخيال الذي يرى في المألوف والعادي شيئا جديدا، ويرى العلاقات المركبة تحت السطح البليد. المهم أن تكون الكتابة تلقائية، بحيث لا يشعر معها القارئ أنها كتابة.

   * أتوقف دائما عند مقولة ابن المقفع.. إن الأدب العظيم هو الذي إذا قرأه الجاهل ظن أنه يحسن مثله.

   ـ بالضبط، لهذا لا أفكر إلى أين ستذهب بي الكتابة، وعلى الرغم من بقائي في القرية حتى مرحلة الجامعة، فإن روايتيّ الأولى والثانية كانتا بعيدتين عن القرية، ثم جاءت «أول النهار» عن قرية متخيلة في القرن الـ 18 م، أريد أن أقول إنك إما تتعمد الشيء أو تكتبه. أما كون الرواية بنت القرية أو بنت المدينة، فأنا لا أميل إلى هذه التفرقة المفتعلة. الرواية، وكل إبداع، هو، كما قلت لك، ابن الخيال. القرية التي كتب عنها عبد الحكيم قاسم «أيام الإنسان السبعة» هي نفسها القرية التي يكتب عنها محدودو الموهبة والخيال حتى من جيل عبد الحكيم.

   * يبدو أنك غير مشغول بالـ best seller وحفلات التوقيع وأوهام العالمية!

   ـ أي صناعة أو «موضة» لها عمر، ما لم يكن صاحبها موهوبا بالفطرة. انتهت موضة كونديرا التي لطشت كثيرين من المبدعين العرب، وستنتهي موضة كويلهو، أو انتهت بالفعل، لكن بقى ماركيز وكازنتزاكس، كما أن كفافيس ما زال باقيا. هناك كتب تسلية، حولتها طاحونة الدعاية إلى روايات، وأوهمت مؤلفيها بأنهم روائيون. طاحونة الزمن تدور أيضا.

   * البطولة في «أول النهار» و«ليل أوزير» بطولة جماعية، أعتقد أن ذلك لطول المدة التي تعالجها.

   ـ يفترض أن البطولة الجماعية تكون من نصيب أفراد، حكاما أو ثوارا أو رجالا فوق العادة، أو حتى ما سمي بالبطل الضد، في مرحلة لاحقة. في «باب السفينة» كان هناك بطل فرض نفسه عليّ وعلى الأحداث، أما في «أول النهار» و«ليل أوزير» فالبطولة لجيش من الصامتين الذين يقاومون بالحيلة، مبتكرين وسائل للبقاء، بعيدا عن السلطان وعيونه، ولن تجد فيهم بطلا إلا بقدر ما يتميز به من حظ في التعليم أو موهبة فطرية لقيادة الآخرين، دون فرض وصاية عليهم. وقال لي بهاء طاهر وآخرون إن الفصول الأخيرة من «أول النهار» «وقعت» بعد موت الحاج عمران، بما كان يمثله من سلطة روحية. أضف إلى ذلك أن كل رواية منهما تمتد أحداثها بين مئة عام وأربعين عاما. أعتقد أن ذلك وراء النفس الملحمي الذي يسري في الرواية.

   * موقفك من المؤسسة ملتبس، فلا أنت داخل «حظيرة» الوزير الفنان ولا أنت خارجها.

   ـ لم أدع ولا أحب أن أدعى إلى مائدة الوزير. سفري إلى الخارج كان لمهام العمل ومن جهات أهلية يعمل بها أصدقاء دعوني ودعوا غيري، مرة واحدة فقط شاركت في نشاط المؤسسة، فقد كنت عضوا باللجنة العلمية لملتقى الرواية 2008، وقد انتهى دوري فور الاتفاق على محاور الملتقى وضيوفه. قبل سنوات، حين كان الاحتياج إلى المال ملحا كنت أمني النفس بالحصول على جائزة، وفاتتني الجائزة ومرت الضائقة ولم أعد أنتظر شيئا، وأشعر الآن أنني أغنى الأغنياء. أنا أكتب في صمت وأراهن على أن ما يبقى هو ما ينفع الناس. أترك حسابات المؤسسة لها، وأترك حسابات الصغار لهم، لا أستطيع المشاركة في حفل الفساد ولا في سبه، لأن كل الفاسدين أصبحوا يهاجمون الفساد. ادعاء الشرف أصبح مهنة لها أصحابها. ما يرضيني هو الجلوس إلى منضدة الكتابة. المثقف الآن إما تابع (مناضل سابقا) وإما شريف، قابض على ضميره. لا تطلب من الشريف أكثر من أنه شريف. هذا نوع من المقاومة يعطي أملا في أن هناك ناجين من الفساد.

   * هل تشعر أن ناقد اليوم شريك بالفعل في النص، أم أن الخفة، روح عصرنا السعيد، قد شملت الجميع؟!

   ـ أعرف أنك تسألني عن الدور العضوي للناقد، كان لدينا نقاد مؤهلون لذلك، لكنهم تخلوا عن دورهم الحضاري إلى مقاعد المؤسسة، كما قلت لك.

   * دعنا نتحدث عن المستقبل، أخشى ألا يكون بمقدورنا، مستقبلا، التفريق بين المدونة والرواية، بين قصيدة النثر وبين الثرثرة!

   ـ تبقى الرواية هي الجنس الأدبي الأكثر تطورا واستيعابا لكافة الفنون السابقة، لأن كل رواية تستطيع أن تقدم شكلها الخاص وقواعدها التي تستعصي على التنميط، وهذا أحد أسباب هزيمة معظم النقاد وإحجامهم عن تناول بعض الأعمال الفارقة، لأنها تتجاوز «عدة الشغل». حاليا الرواية هي «الحيطة المايلة» لمن لا يجيدون الكتابة أصلا.

   * يا أخي يزعجني جدا أن يلجأ الشاعر بالذات إلى الرواية، أنا أحب الرواية، لكني أشعر بإساءة شخصية عندما يتحول الشاعر إلى روائي، حتى لو كتب رواية جميلة! بعضهم لم يتحقق لا في الشعر ولا في الرواية، وسيظل عالقا بين الأجناس. ما الذي يلجئ الشاعر، هو الذي يقف على سقف التعبير العالي، للسرد!

   ـ من لم يتحقق في الفنون الأخرى من شعر وتمثيل ونقد وترجمة، يقتحم الرواية، يشجعه على استباحة فن عظيم كهذا عدم وجود ميزان. الرواية هي الكتاب المقدس، الأكثر بقاء من الجماهير وشعوب لم يؤرخ لها. أما المدونات فهي أصوات فردية لكائنات وحيدة تتواصل افتراضيا.

   * أحيانا أجدني بحاجة لسماع إجابة عن أسئلة قديمة، أو قد تبدو بديهية مثل الإلهام.

   ـ الإلهام يليق بالشاعر، حتى الشعر، حين نعيد كتابته، يكون الذهن حاضرا بدرجة ما. المهم ألا يشعر قارىء القصيدة أن الشاعر قد أعمل ذهنه فيها، يحيى حقي كان يرى ضرورة أن نقابل الكتابة في منتصف الطريق فهي لن تحملك إلى المكتب، لتكتب، ونجيب محفوظ كان يستنهض الكتابة بالذهاب إليها. أما يوسف إدريس فكان هادرا، وقد أفلح في إنتاج قصة مصرية خالصة، لكنني، للأسف، عدت إلى إحدى قصصه، مؤخرا، فوجدت فيها إسهابا يصل إلى درجة الترهل، سحب هذا من رصيده لصالح نجيب محفوظ ويحيى حقي والمازني ومحمد عفيفي وعبد الحكيم قاسم الذي قال لي يوما بانفعال: اللعنة على كاتب لا يكتب وإلى جواره قاموس، واللعنة على قارىء يقرأ وليس إلى جواره قاموس، مع أني أختلف معه.

   * على ذكر نجيب محفوظ، أما زالت خيمته منتصبة؟

   ـ نجيب محفوظ كان موهبة جبارة لم تتكرر، لكن التمرد عليه وعلى مشروعه قائم وقديم منذ «فساد الأمكنة» و«موسم الهجرة للشمال» وغيرها من الأعمال، أما إذا كنت تسأل عن أثرمحفوظ على جيلي، فانظر إلى الأعمال التي فازت بجائزته وأنت تعرف. قبل سنوات أعلن الصديق عبد المنعم رمضان استياءه من حصول كاتبة مصرية عليها قال إن روايتها أقل من الجائزة. الآن بعد ذهاب الجائزة إلى أعمال متواضعة، لم يعلق رمضان. أظن أن صمته وصمتنا نوع من اليأس.

   * كثير منا مولع بالسينما، ولكن هذا الولع لم يتخط حدود الإعجاب الصامت إلى دفتي كتاب، كما في حالتك.

   ـ للسينما مشاهدون لا يهدفون من الشغف بها إلى شيء، سوى الشغف نفسه، بالنسبة لي أردت أن أترجم شغفي إلى فعل، فكتبته في كتاب عن «مفهوم الهوية في السينما العربية».

   * قل لي، ختاما، أين موقعك بين أبناء جيلك؟

   ـ ربما لا أكون الأول، ولكني لست الثاني، قد لا تعجب كتابتي البعض، ولكني أكتب بأصابعي.

………………

(“القدس العربي” لندن 6 فبراير 2010)

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم