سعاد

سارة عبد النبي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

سارة عبد النبي      

 رأيتها تمد ذراعيها بشوق طويل للوصال مع شيء ما، طائر غادر قفصه، سيعانق الشغف بعد قليل. ظلام فيها يسري، يمنحها شيئًا من سكينة الأموات وبرودة أجسادهم، ستنام مخلفة عنها وحدتها التي تقطم كل ليلة أجزاءًا من قلبها، كالوحش ينتشي بالوجع، ينتشي بضعف الفريسة واستسلامها.

 ابتسمت لها، قلبي كان به صفاء غريب لراحتها.. قلت ياااه، أخيرًا، تلك ليلتها، لحظتها الذهبية.

 كانت تقف على حافة الشرفة بثبات، تستمع لموسيقى فاتنة، آتية من الوهج الأصفر بداخلها. تخيلت قرص الشمس الغائب، الغني، يغويها وغنت له.. هو في مكان ما في السماء.. ستتبع اللحن وتصل، ستتبع قلبها وتصل..

 لا تعرف كيف ستمنح كل هذا الثقل والعطب للطيران.. ما يندفع منها لأسفل لا شيء، غبار سنوات شاحبة، كانت فيها شخصًا آخر غيرها، ما يرتطم بقلب الأرض الجامد كومة عظام.. حائرة في الصرخة، لمن تهديها، هل ستطير معها في الهواء وتغدو نغم، أم تصمت بجانب العظام للأبد.

 أما الثقل المعلق بجناحيها، ستعطيه فقط الدفعة الأولى، وسيلة نجاته. هى لحظة واحدة وينتهي كل شىء، يتوحدان، تحلق به في الأفق.  تتأرجح كريشة بيضاء نظيفة، فرحة بإحساسها الجديد وشاكلتها التي تغيرت..

كنت أقف على مستوى أفقي واحد منها، عيناها لا تنظر لأسفل، لو نظرت لتراجعت.. تحدق في نقطة ما، فكرة واحدة، بداخلها ستنتهي كل الأفكار.

   وأنا قلبي متلهف، عيني مشتتة، بينها وبين عبور رأسي للجسد.. أحسب كل سنتيمرات الندم، الألم.. أشعر بها بدلًا منها. في منتصف المسافة أوقف كل شيء- ستوب هنعيد من الأول.

 أعيدها عشرات المرات لسيرتها الأولى.. تدور بفستان قصير منفوش، تقفز طبقاته الحريرية على ركبتيها كالمروحة، فراشة تعانق الرحيق، محبوكًا على صدرها وخصرها، محددًا أنوثة فاتنة متألقة، تراقص شاب أسمر، خفيف الظل، أقدامه تلاحق أقدامها، تلاحق طيات الفستان وهى تدور، كانت سعيدة وتضحك له..

  فلماذا كل مرة تصمم أن تعود من ساحة الرقص لوقفتها على السور. هذه الاعادات تستهلك نشوة التجربة لديها، نشوة الفزع في عيني وأنا أراها تسقط, ولكن لا تستهلك التصميم المتبادل بيننا على النهاية المحتومة. كانت تنظر لي بدهشة، بوهن سمعتها تعترض.. السينما خلاص، زمنها راح، بروفات مفيش تاني… تلك ليلة لن أجعلها تُنسى..

  خفق قلبي بعنف.. كيف ذلك، وكل ملامحها تفيض، كل مرة بعمق أكثر من ذي قبل.. تعطي الدنيا شلالًا من كل شيء، كل شعور بداخل القلب منذ الميلاد، تستعيده في تلك اللحظة، ما نمى، وما تعثر خطاه، ما أشبعته حد الهوس، وما منعت عنه الرغبة ملتاعًا.. ما أحرقته وما أحرقها.. ما اكتملت حكاياته، وما ضاعت ظلالها في العيون.. كل شعور يندفع بعمق لملامحها التي تفيض، حتى كادت أن تتلاشي مكانها قبل كل شيء، زهرة تنثر أوراقها غير عابئة، بمحبة التخلي، بفضيلة المنح، ذراتها الصغيرة، يتهافت عليها الكون.. وأنا متأهبة قبله، أهمس لها، فيضي بكل عذوبة لديك الآن، لا ترحلي بشيء، كل شعور سأبسط يدي نحوك لأضمه، لأتذوقه، وأمتلئ بالسحر.. ذلك وداعًا يليق بكِ في عيني..

تذكرت وجهها عندما كانت متعلقة بشباك المقام باكية، جالسة كأنها في التيه، كانت تفيض أيضًا. أنا في شدة يا عم الشيخ.. هذا المشهد عالق بذاكرتي، استدعيه في كل شدة أمر بها، لكني لم أمتلك عزمها وكيدها… ينطلق صوتها بداخلي يريحني، وتصمت العبرة من الحكاية.. أنا في شدة يا عم الشيخ.. بكائها يسقط على شفتاي، وقهر استنجداها في قلبي, وقوامها الصغير يتهشم معي تحت ثقل الشدة، تحت ثقل الأغطية والظلام والصمت.. أُبقيها معي في الفراش نائمة، أيام، شهور، سنوات، تحت وطأة الشدة نضيع .. خُلقت بعض الأرواح من زجاج، ونمنحها الأسباب بسخاء لتتحطم..

 كانت الرجفة في بدني تسري وأنا أراها ترقص، أحذرها، سينتهى كل شيء بطعنة خنجر، أو بطلقات غادرة من فوة بندقية، ثمنًا لتلك الانتفاضة.. فستانها الضيق نام على ليونة الخصر وارتعاشه كما نامت العيون اللئيمة..  تراخى عزم الأرض تحتها من عذاب الجسد وعاره.. كيف لتلك الخفة أن تزلزل الكون، تغرقه في العتمة، ورغم كل ذلك، قضي الأمر، تركوا الثوب الأبيض ينقش بالدم. في استقبالها للموت، كسا الحنان المُقل، كان وجهها مليحًا أكثر من كل المرات السابقة، رحيمًا بغريب سفره طويل، تشفق عليه من طول الانتظار على بابها.

 كانت شيء عصي على التصديق.. لو استخلصتها من عناصر الصورة الكبيرة، أصبحت الشاشة في عينك لا شيء، وهى أيضًا تنزوي، يصبح الجمال كفاف، لوعة محترقة في قلب يغالب عشقه، غايته التي خلق لها.

 لو احتوت عيناك ست فتيات يسابقن النسيم بدراجتهن، وضيعت السابعة، فلا معنى للحكاية يذكر، ستموت في نقطة ما، لا شيء يروى، حتى السحر المندفع إليك، سيصبح عبء ممل ثقيل.  الملائكية، الملابس الأنيقة، خصلات الشعر المتطايرة، حركة الأجساد على الدراجات، أشياء تزهدها النفس بعد قليل.. كان نزقها، طموحها الشقي، تلفيقها لكل شيء، سقوطها، هو الجوهر والذروة وفتنة العين.

في حكايات الحب الأخيرة الناضجة، رافق الحزن كل التفاصيل، حتى ابتساماتها للحبيب كانت حزينة، رغم القهقات الأولى، والوميض الذي يشهق له القلب سرورًا… ينتهي الأمر دائمًا بالابتسامات الحزينة المتبادلة، التي تنبت من اليأس، لا دور كبير للشفاة الرقيقة سوى التنهيد، أما الابتسامات فتُشق داخل العيون بأسى، ترسمها حركة الجفن الساهمة الذائبة في الحسرة المستترة.

 قفز قلبي عندما ترنحت أول مرة، ستتردد بالتأكيد.. لكني انتظرت أن تنجح.. تماسكت ثم انسكبت.. لم تدو الصرخة في حلقي، أغلقت قلبي عليها، كصلاة مؤجلة، حتى يحين الأوان.. دربت نفسي وهى بحوذتي على السقوط مئة مرة.. حسنًا تفتت العظام، سالت الدماء، كل شيء فيها ارتخى ثم تجمد.. من مكاني لا أرى  التفاصيل.. مجرد قربان قدمته، ألمًا شديدًا يليق بأن يكون الأخير.. فقد أرادت أن تمنح نفسها من جديد، لذة المدى الواسع من كل الأشياء.. هكذا قلت..

 لا لم أقل ذلك بالتأكيد، غلبتني نفسي القديمة المرهفة الحس.. هتفت بحزن يا سعاد النقصان نعمة، ربما على الأشياء ألا يكتمل جمالها مثل جمالك الأخاذ..

كنت بين فتاتين، وحدي الصغيرة بينهم، لم أعرف بعد أن أجمد حزني بداخلي، ألواح متكدسة، كل واحد بداخل غلاف أسود، مدون عليه اسمه وميلاده، سمات جرعات الألم، متى ينزوي ثم يعود.. وما أبقيه مؤنسًا لي برغم شراسته.. لم أعرف بعد أن أختار المكان والزمان المناسبان لتنهمر دموعي، كنت صغيرة كزهرة لم تعرف من الحزن إلا الندى.. فأمنحه ليصمت.. أبكي دومًا، كأن البكاء سر وضع في.. أحب أحدهم أبكي.. أستمع للموسيقى أبكي.. بداخل السينما مشهد راقص بين شاب وفتاة تحبه، لا يستدعي إلا البهجة، ولكني أشاهده أبكي.. أرى الجمال وأشم عطره المربك، يعتصر قلبي الألم وأبكي..

في فناء المدرسة بيدي جريدة من اليوم السابق.. والصيف يغرقنا.. كانت صورتها على صفحتين.. زوزو، صباح الخير.. أنت معها الآن، ربما لو الأحوال تمام فأنت هى الآن، كيف هى.. أثملت حتى انتشت ونست, أتنتهي الثمالة تحت الثرى ونعود نتذكر العذاب.. أم نصبح لا شيء.. أدارت الكاميرات والأضواء من جديد.. أتوهجت أم انطفئت أمام التجربة الجديدة، أقابلت وجهًا حميمًا أسقمها غيابه،  أحصارها الألم حتى الندم، أنها اختارت الغياب بهذه الطريقة. كل ما أخافه أن تصدق تلك الوجوه التي أكره.. أن يبقي الألم وحده، سجان وسيد..

كانت ترتدي زي الجامعة، أنيقة، خصلات شعرها الأسمر الكثيف خلف أذنيها، زينة وجهها بسيطة.. كموج  رائق يصل للشاطئ بعد رحلة طويلة، مرهق، بطئ، أملس. عطر البنفسج يفوح، يليق بحضرة الموت.. في عينيها بريق، مصممة على شيء ما.. وديعة وشرسة.. بما يليق بذلك العالم، وهولاء الناس.. لِما لم تطبق عليها الروح الغاربة، تُقبيها، حتى لا ينفلت الجموح.. لِما تمكنت الوداعة كالمخمل وانسابت على كل وجودها، واندثرت الشراسة تحت أقدام الزمن..  لم تتعلم منها أن لا تكبت الغضب طويلًا، ألا تتنازل عما هو لها كثيرًا. خسارة، كبت الغضب والتنازل ينذر بأشياء خطيرة، لكن لم يعد هناك دور للتنبؤات الآن..

زوزو.. أختي الكبيرة.. أنتِ هنا.. احتضنتها، كان الخصر يتألم، عظامه الرقيقة اللينة تطقطق تحت يدي.. إذا أنتِ أيضًا نال منكِ الارتطام.

 ستعلميني كل شيء، ما مضى سيعود.. ستحتجزين شبابي الأول.. غدًا سأذهب للجامعة.. اختاري لي ملابس مناسبة وزجاجة عطر، كي لا أبدو بهلوانهًا بدينًا تحت طبقات القماش الغير متناسقة. لا يستطيع الركض خلف أحلامه. يثير السخرية من فرط خجله، رقيقًا لا يستطيع رد الهجوم عليه، تصيبه الكلمات كرشق السهام ويصمت.. ستمسكين ذراعي في الصباح، ونحن بصحبة الطريق سنضحك كثيرًا، ستمحي عني الحياء حتى لا أتلعثم في الحديث.. تكشفين لي حيل الإناث، عندما يتوهم في رجل الجمال، ويقذف لي بوردة ألتقطتها، أصدق الوهم، ربما صار حقيقة.. أن لم يحدث، أغزل له شالًا صوفيًا  وأصنع له خبزًا في يوم ميلاده.. ربما عاش معنى الهدية في ذاكرته إن لم أعش أنا..

زوزو بكيت اليوم حتى اعتصرني الألم، وجفت روحي، وأنا بين فتاتين، غريبة. إحداهما كانت رفيقة عمري، مذهولة لا تفهم ما يحدث لي، وجهها كتمثال، بداخلها فراغ مخيف، يسخر من مشاعري.. من مات لتفعلي كل ذلك.. أكانت من بقية أهلك.. أم تمثلين رقة الفتيات البدينات وبلاهتهن.. والأخرى تنهرني، تؤنب بكائي.. أنت مع من تحب.. ولم أعرف كيف يكن سئ أن أبقى معكِ للأبد..

 تقول أن بكائي ذنب كبير، كغنائي في نهار رمضان. كانت تترصد أفعالي.. اقرئي بدلًا من الغناء.. قلت لها قرأت.. كم جزء.. لا تتوقف عن حصاري بالأسئلة، ولا أتوقف عن الرد.. إجابتي لها بمهادنة وشعور بالذنب تعذبني حتى الآن.. لِما لا أتركها تعوى كالذئب، تأكل نفسها كالنار..

قالت أحسن.. لقد تعرت وارتمت في أحضان الرجال، وفعلت كذا وكذا وكذا.. ربنا ينتقم منها الآن.. كنت أريد أن ألكمها حتى يتطاير فكها، ولكن كنت ضعيفة وصغيرة، كل ما قولته ولكن الجميع هنا يرقص ويغني الدنيا ربيع.. ضحكت بتوحش أيقظ سخرية من حولي، أحسست أني غبية، لكني لم أكن بالتأكيد.

زوزو لماذا أنت صامتة في هذه القرية الظالم أهلها.. الجميع آذانها في فمي، عقولهم في خواطري، عيونهم على خطواتي..

ألا تدافعي عنها. أنتِ صورة على الورق، أنتِ صفوة الجمال في خيالي، ولكن لن يلجم ذلك عنفوان قلبك، نظرتك على الجريدة تسحق القبح… لقينها درس، كما في الجامعة، علمتي الجميع درس، أنا لا أذكر الحوار، ربما كان ساذجًا، أقل من أن يغير أي شيء في هذه الحياة، لكنه خرج منكِ بإيمان وتحدي واثق.

قولي أنها كانت جميلة، أودع الله بها نقائص الكون. ذلك الضعف الذي جعلها تخطئ في أعينهم، كان نفحة من نفحات صدقٍ شديد مع النفس.. لم تحتضن الرجال، كانت تحتضن الأمل فيهم.. يدق قلبها رغمًا عنها، هل بعض دقات القلوب آثام..

 لم تترك للهواء والشمس جلدها، بل تسللوا إليها برغبة عاشقين، لم تكن ترقص كالأفاعي، بل انساب الإيقاع في خلاياها، في أفكارها كالنسيم, أتحاسب الزهرة إن مالت مع الهوى، أيحاسب القلب إن أفناه شوقه.. لم تكن خاوية بل كانت ممتلئة بالحياة، لم تقفز لتسقط،  بل حلقت نحو دفء لم تجده على الأرض.. ولكن أتعرفين، أنا أفهم الصمت فيكِ، كلامي هذا  ككلام الشعراء، لن يغير شيء، يتدافع في بلادة الأذهان، ولا يؤثر في القلوب المتحجرة..

ذات يوم كنت معها على حافة الشرفة ذاتها، وهى تنظر لي براحة.. تبادلنا الأدوار في اللعبة الخطرة.. أشارت لنقطة يتجمع فيها الغياب. تسألني أن أنساب كزجاجة تتخلص من كامن عطرها… كنت فارغة تمامًا.. وكل ما انسل منها إلي ضاع في الهواء.. أختنق في رحاب هذا الكون..

  

 

مقالات من نفس القسم

تشكيل
تراب الحكايات
موقع الكتابة

ثقوب