سرد اسم المجتمع.. سرد اسم السجية.. عن “اسمي مصطفى محمود”

مصطفى محمود
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

أكرم محمد

يحتل الكاتب وائل لطفي في روايته “اسمي مصطفى محمود”، الصادرة حديثا عن دار “كلمة”، شخصية مصطفى محمود؛ ليسرقها ويحولها لصوت سردي يخلق به نصا أدبيا، تربض كتابته بين بحث الصحفي وإبداع الأديب؛ فيبني بنية فلسفية تقطن بين نظرة الباحث في التاريخ عن أسباب تحولات المجتمع، منطلقا من تحولات أحد أهم المؤثرين في المجتمع المصري في آخر سبعين عاما، وبين نظرة للإنسان وسجيته وعلاقته بالنشأة، والسلطة، والإله، والحيرة، وغيرهم، منطلقا من نقطة تخلق رمز فلسفي، وهو مصطفى محمود، محور النص وصاحب الصوت السردي الذي ينساب كلماته بلغة صادقة فنيا، تخرج من الجوانب النفسية للشخصية المعقدة، المركبة، ومن نشأتها وحتى طريقة كلامها المعتادة؛ حيث تتداخل العامية مع الفصحى، ويقدم الصوت السردي صوت للبطل، مثل طريقته في مخاطبة الجمهور، والتبسيط، والسجية البشرية المتمثلة في حب التقدير؛ بل التقديس، والتي تصل، أحيانا، إلى النرجسية، واستخدام ألفاظ علمية، لتقدم اللغة صدق فني يتمثل في لغة تبنى ببناء الشخصية، ومشاعرها وجوانبها النفسية، التي تقدم لوحة تأريخية وأخرى فلسفية، فتقوم النظرة الفلسفية للنص على علاقة التاريخ بالفلسفة، والتأريخ بالرمز..

والصدق الفني النابع من اللغة يقترن، أيضا، بالإبداع الأدبي والفني وليس فقط الدقة في التأريخ؛ فالتأثر بالحركة في كتابة ألفاظ معاصرة داخل النص تدل على مرونته، وعلى تأثره ببناء الشخصية..

الفلسفة في هذا النص تخرج من شخصية مصطفى محمود؛ فمحور النص هو بناء شخصية مصطفى محمود، والبحث عن هذا الاسم، والخروج من نقطته الفلسفة والمجتمع والمتغيرات السياسية والاجتماعية؛ فالفلسفة في هذا النص الأدبي هي نتيجة للبحث عن مصطفى محمود..

والبناء الروائي لهذا النص تقوم على التأريخ، والإبداع في التأريخ، والبحث عن تأثير هذا التاريخ، وعن رمزه العصري والفلسفي، واستخراج جذور قضية “ما بعد الإسلام السياسي”، وما حدث لثنائية الدين/العلم، وعلاقة المصريين برجال الدين..

ثنائية التاريخ/الإبداع تخلق نصا يبني حيوات للإنسان، والمصريين، حيوات تولد من اسم (مصطفى محمود)، وهو ما يخرج من ثنائية الصحافة/الأدب، التي يرتديها كاتب الرواية وائل لطفي، ليمسك بقلم يعبر به عما يقبع بالمصريين، والإنسان، والتاريخ..

ولذلك فإن ثنائية السرد الإبداعي/السرد التقريري تظهر بشدة في الرواية، وهو ما يلائم النص، ويعطيه لمحة المذكرات، القاطن بها اعترافات، مغلفة بحروف الإبداع، ودأب البحث، المسرودان من منظور الشخص الأول، واللذان يفتحان الباب للولوج في غياهب نفس (مصطفى محمود) وتأثيره وتأثير الدعاة النجوم ل”عصر السادات”؛ فإنها رواية تجمع بين البحث والإبداع، لخلق نظرة للإنسان والتاريخ والمجتمع.

تحولات الصحافة من منظور الشخص الأول

يشيد السرد من منظور الشخص الأول تأريخا للصحافة وتحولاتها، وعلاقتها بالمتغيرات السياسية من نظرة طبيب، صحفي، مفكر، كاتب، يرى أنه مهمل، وينتظر لحظة يبذخ فيها انتقامه، النابع من ثنايا نفسه ومشاعرها، وتأثير النشأة بها، ويؤكد على السجية البشرية تلك، التي تتأثر بالمشاعر والانطباعات الشخصية، كما ذكر الصوت السردي لبطل النص:

«لا أعرف حقيقة سبب تحولي وإن كنت أدرك أنه كوكتيل من عوامل مختلفة منها الذاتي ومنها الموضوعي.. منها الفكري ومنها الشخصي.. لا أنا ملاك ولا أنتم أيضا.. كلنا يتدخل في تحولاتنا عوامل شخصية وإلا ما كنا بشر.”

تبدأ الرواية من مرحلة إيقاف مصطفى محمود عن الكتابة بأمر من الرئيس جمال عبد الناصر، ولقاءه بالصحفي الأهم في تاريخ مصر محمد حسنين هيكل، ثم تنطلق الرواية لإحساس مصطفى محمود بالتمرد، وانطلاقه من هذا الشعور لما فات من حياة..

“عدم تهذيب الذقن المصرية”

يظهر الكاتب وائل لطفي علاقة المجتمع المصري والعربي بالدين، وتأثير رجال الدين عليه، سواء عن طريق الأحداث التي أثرت على مصطفى محمود؛ بسبب جهل واستغلال شيخ الجامع، الذي صلى فيه في سن صغير، مسجد (سيدي عز)، وهو ما تحول بعدها على يد “دعاة عصر السادات” ومصطفى محمود، ومن خلفهم وسلفهم إلى واقع أنهى سعة الرحب، التي استقبل بها بعض الناس جمعية “الكفار”، التي أنشأها بطل الرواية مع صديقه، وأطلقت الذقون تسبح على الهاوية، وتعلن “عدم تهذيب الذقن المصرية”..

وهنا تظهر فكرة التأريخ للبحث عن جذور قضية علاقة المصريين بالدين، وتأثير رجال الدين؛ فيبحث الكاتب بعين مصطفى محمود في المتغيرات السياسية، وطباعة رجال الدين، وتحولات البطل نفسه..

مصطفى محمود يمثل جزء من المجتمع، كأحد أفراده، الذين تأثروا، ويظهر، أيضا، كالمؤثر؛ حيث يستكمل الكاتب والصحفي المصري وائل لطفي مشواره في البحث عن ظواهر ما بعد الإسلام السياسي، وعن علاقة الدين و”رجاله” بالمجتمع..

“رئيس يحاول محو زعيم”

الكتابة بتقنية السيرة الذاتية، والسرد من منظور الشخص الأول أعطى حرية للتعبير عن التاريخ من وجهة نظر أحد مخربين الأمة، وأحد أهم عناصر “عصر السادات”، الذي محي فيه آثار جمال عبد الناصر، الذي تحول لأن يكون شخصا كئيبا، من وجهة نظر بطل النص الأدبي؛ بسبب أنه كان يخطط ليل نهار، ويقرأ كل ما يكتب عنه، ويتابع كل المشروعات، والنتيجة أن مصطفى محمود، ورفقائه من محولين الأمة، ومطلقين ذقونها كرهوه، وحولوا القضية للشخصنة، حسب سجية إنسانية، وفكرة ولدتها النشأة والأحداث التاريخية المتتالية، المتوالية على البطل هذا، وعلى رفقائه..

شخص يبحث عن التقديس، ووجده أخيرا في عباءة صديقه محمد أنور السادات، الذي أطلق الذقون ودمر الاقتصاد ومحى آثار جمال عبد الناصر وأفكاره وتمرد عصره.

يذكر الكاتب والصحفي المصري عن طريق الصوت السردي، الذي يحكي ما كان وبان من تأثير في شعب:

«وأنا أصبحت صديقا للسادات ومن علامات السبعينيات الفكرية؛ بل لا أبالغ إذا قلت إنني وقليلين جدا بدلنا أفكار المصريين خلال سنوات قليلة جدا.. أنا والشيخ الشعراوي لا ثالث لنا جعلنا الشعب كله ينسى الناصرية..»

هذا هو التحول الأكثر تأثيرا في الشعب في تاريخ الشخصية المحورية للنص، والتي تم التمهيد لها، دون مباشرة، عن طريق سرد رغبة مصطفى محمود في نيل التقديس، وأن يكون النجم الأول، وينتقم من الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، ومن الأحب إليه محمد حسنين هيكل، والتفتيش عمل يعطيه هذا التقدير، بداية من التفكير في مبيعات عباس محمود العقاد، بعد أن كتب عن الإسلام، أو حتى بعد مكالمة ولقاء رفيق دربه، ومن أحياه محمد أنور السادات.

 عدم المباشرة في أحيان كثيرة هي سمة للنص، سمة ملتزمة بحدود سرد يحتل شخصية تعبر حينا عن الإنسان وفرد من أفراد المجتمع، وتعبر حينا عن ما أثر في الشعب، وكان إجابة من إجابات سؤال “ماذا حدث للمصريين؟”، وهو السؤال الذي يحلل به الكاتب ما طرأ بالمجتمع المصري، بداية من حسن البنا، وسيد قطب، مرورا بسيد قطب “الساداتي”، وهو مصطفى محمود، كما وصفه وائل لطفي في عنوان أحد فصول الرواية، وهو اللفظ المعبر؛ حيث أنكر كل منهم كل ما في العالم من مذاهب، ووضعوا من تبعهم في حالة من أثر الذات داخل رأي أحادي.. سيد قطب قال أنهم يجب أن يقتلوا أي مذهب بالسلاح، ومصطفى محمود قال ما قاله سيد قطب، لكن دون استخدام السلاح.. قاله بتسطيح العلم والدين، و”شخصنة” القضايا، حتى تحولت بعض المناهج التعليمية في مصر إلى تأييد آراءه، مثل ذكر أن “الشيوعية” و”الماركسية” هي مذهب يتعارض مع الإسلام؛ بسبب وجود إيمان ب”المادية” فيه، وأن أي مذهب دون الإسلام خاطئ، وهو ما يوجد الآن بمادة التربية الدينية الإسلامية في أحد صفوف المرحلة الإعدادية..

يفسر الصحفي والكاتب وائل لطفي الإجابة. مصطفى محمود إجابة لهذا السؤال، هو الذي حول جزء كبير من المصريين لأن يروا أنهم ملوك الأرض، ومعهم العلم في القرآن، ولا يحتاجون للبحث والعلم، فكل شيء موجود في القرآن، وهو ما أنتجه أهداف بطل النص، وهم هدفان، أولهم النجومية وثانيهم الانتقام من الشيوعية واليسارية والناصرية، فاستخدم بطل الرواية الآيات القرآنية وحول معناها إلى أنه حقيقة علمية، رغم أنه له معنى آخر وهو يكون مجرد تشابه لفظي، كما ذكرت عائشة عبد الرحمن بعد إصدار كتاب “القرآن.. محاولة لفهم عصري”:

«ففي ضجيج هذه الكلمات الطنانة الرنانة، وخلابة ما يقدمه التفسير العصري من عجائب وغرائب، تبهر البصر فتتعذر الرؤية الثاقبة التي تميز حقاً من باطل، وعلماً من دجل، وإيماناً من زخرف قول وبهرج بدعة، ويفوتها أن تفصل بين منطق تفكير علمي وجرأة ادعاء وطبول إعلان».

محاولة نجوم عصر الرئيس الراحل محمد أنور السادات لهدم ما صنعه الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، وما كان من فكر وسطي يجمع بين المذاهب السياسية اليسارية والدين، ومحاولة إطلاق الذقون؛ بهدف “الشخصنة”، ومحو كل ما خلقه زعيم مات بقدم نكسة أفضت به لهلاك، كما ذكر بطل النص، هي ما ذكره الصحفي الراحل محمد حسنين هيكل في كتابه “بين الصحافة والسياسة”، الصادر عام ١٩٨٤:

« وربما كان التساؤل الأعماق في حياة أجيال جديدة من شعب مصر وشعوب الأمة العربية هو التساؤل عن التجربة الثورية المصرية ودور جمال عبد الناصر وماذا جرى فعلت وماذا كان؟

والواقع أن السؤال في مصر قديم جدا، فكل تجربة للتحرر والتقدم في مصر جرى تشويهها بعد محاولة ضربها وبعد ((التعامل)) مع أبطالها بأسلحة العصر السائد أيامها ووسائله.»

وهي النقطة التي ينطلق منها الصحفي والكاتب وائل لطفي للسؤال الأهم “ماذا حدث للمصريين”؟

وهذه الإجابة عن السؤال هي تمهيد ل”دعاة السوبر ماركت”، أو “الدعاة الجدد”، الذين اهتم الكاتب والصحفي بتأثيرهم، ورآه في كتابه “دعاة السوبر ماركت..الجذور الأمريكية للدعاة الجدد”، الصادر عن دار العين، وأعاد التفتيش بعين الأديب والفنان والباحث عن جذوره في عمله الأحدث؛ فكان مصطفى محمود هو البداية، والابن البار ل”بيلي جراهام”، الذي استغله ملياردير أمريكي، فجعله نجم تلفزيوني يحارب الشيوعية لمصالح شخصية، كما حدث في مصر من قبل “الدعاة الجدد”، ومحركيهم من الرأسمالية الأمريكية، ورجال الأعمال، ومحبين القضاء على الناصرية..

يطرح، أيضا، الكاتب بروح الباحث، ولسان المبدع علاقة محمد أنور السادات بدعاة عصره، وأهمهم محمد متولي الشعراوي ومحمد الغزالي وصاحب الصوت السردي، ومنشئ “الدعاة الجدد” مصطفى محمود.

يبحث عما حدا بالرئيس لاستخدامهم لمحو آثار الناصرية، وعما جعلهم يتمسكون به؛ لنيل التقدير والتقديس والثروة، وهو ما يفسر جزء من تناقض بطل العمل، ولا يفسره كله؛ فالتناقض هي ما نعت به البطل، ونعت به نفسه قائلا عن طريق قلم الكاتب والصحفي المصري، تعليقا على ما سبب من أسباب ما ذبح شهرته ونجوميته، وأسدل عليه ستائر الوحدة المضنية؛ بسبب إنكاره لل«شفاعة»:

«هل كنت فيها معتدلا أم متطرفا؟ من أنصار العقل أم من أنصار النقل، أبشر الناس بالرحمة أم أتوعدهم بالعذاب؟»

 

 

مقالات من نفس القسم