د. محمد المسعودي
بعدما أصدر الأستاذ عبد الهادي المهادي كتابيه: سؤال المعرفة والنقد، وشرف التلمذة، وهما كتابان يجمعان بين الكتابة النقدية، وصياغة بعض الرؤى والانطباعات الشخصية من أفق معرفي متشعب وواسع يشمل الفكر والأدب والتاريخ والتصوف والسياسة وغيرها من المجالات التي يخوض فيها عبد الهادي عن معرفة ودراية وجدارة واستحقاق، ها هو يجمع شمل نصوصه القصصية المتفرقة في باكورة أسماها “حريق في القلب” (دار الإحياء، طنجة، 2023) وهي قصص تخوض بدورها غمار الحياة، وفي جوهر الإنسان وكنهه من أفق فني إبداعي خالص.
ولا شك أن المطلع على هذه المجموعة سيلفي الاشتغال السردي يتسع لموضوعات كثيرة وخصبة، كما تتوسل بصيغ فنية قصصية غنية ومتنوعة، غير أن قراءتنا هذه ستركز على بعد واحد أوحد يجمع المحتوى والصياغة في سياق مفرد من خلال النظر في كيفية إسهام سردية البوح في بناء متخيل النص القصصي وعوالمه الحكائية، ومن ثم كيف تعمل هذه السردية على تشكيل الدلالات والأبعاد الرمزية في النصوص.
احتوت مجموعة “حريق في القلب” على خمس وثلاثين قصة تتفاوت طولا وقصرا، لكن ما يشغلها جميعا هو البوح والتعبير عن تأملات كاتبها، ورؤاه حول الحياة والموت، ومفارقة السلوكات الإنسانية، وغرابة الواقع والوقائع.. وهذا غيض من فيض الهواجس القصصية لدى عبد الهادي المهادي. وللإمساك بهذه العناصر المكونة للنص الإبداعي وكيفية اشتغالها في صلب المتخيل كان لا بد من الانطلاق من تحديد سمات سردية البوح وكيفية إسهامها في بناء المتخيل القصصي في نصوص الكتاب.
أول ما يُلفت نظر القارئ من ملامح البوح وصيغه السردية اشتمال المجموعة على نصوص كثيرة تتصل بمحكي الطفولة وتنطلق منها لتشييد متخيلها، إلى جانب نصوص أخرى تغوص في حالات وجدانية ونفسية لشخصيات قصصية متعددة تكشف من خلال بوحها عن معاناتها وآمالها.
في قصة “حريق في القلب” تتداخل أصوات ثلاثة: صوت السارد، وصوت البطل، وصوت البطلة، ويتم الحكي في هذا النص بضميري الغائب والمتكلم، ليصير النص قطعة بوح خالصة تتناوب فيها الأصوات الثلاثة لتروي قصة حب ربطت بين طالبين جامعيين كانت أعراف انتمائهما الحزبي/الحركي تحول دون تواصلهما المباشر، كما أن اختلاف سبل الحياة فرقت بينهما. وقد كادت قصة الحب الجميلة والعشق الثاوي بين جوانح البطلين أن ينتهيا إلى طريق مسدود لولا أن الأقدار جمعت بين الشتيتين بعد أن ظنا أن لا تلاقيا، كما يقول الشاعر. وكان البوح لبعضهما عبر الهاتف الخيط الذي أعاد دفء المشاعر وجدد أواصر القربى. وبهذه الكيفية أدى البوح دورا جوهريا في القصة، وكان سببا في كسر الأعراف الحزبية، ومن ثم تجديد الشغف والهوى. كما أن البوح الشفيف كان وسما أساس منح للحدث قيمة وتمكن من بناء متخيل القصة، كما أن تناوب الحكي بين السارد والبطلين كان سمة بنائية جوهرية في النص ميزته بالحيوية والحركية والقدرة على شد انتباه القارئ وتحقيق التشويق المطلوب في الكتابة القصصية.
ويتخذ البوح في قصة “زوجة في الجحيم” شكلا تعبيريا آخر إذ ينبني على رسالة تكتبها زوجة إلى زوجها، وعبر هذه الأداة الفنية تشكل القصة عوالمها المتخيلة، وتمكن البطلة من البوح بمعاناتها، وما يعتمل في دواخلها. وبذلك كان البوح أساس هذه القصة ومحور سرديتها الشفيفة. وقد مكن شكل الرسالة الذي اتخذه النص إطارا فنيا للساردة البطلة من كشف عمق مشاعرها وتصوير عنف أحاسيسها، وهي تعيش حياة مضطربة قلقة، مما جعل البوح يتخذ منحى سرديا بينا، ويمنح النص قدرة حكائية لا تخلو من إمتاع على الرغم من الظلال الحزينة التي تكتنفها.
وانطلاقا من الأفق نفسه تشتغل قصة “رسالة إلى إلياس” إذ تتخذ من شكل الرسالة أساسا لصياغتها السردية. وهي صياغة تتخذ من البوح جوهرا لتشكيل متخيلها القصصي الذي يتمحور حول تيمة الموت. وبذلك فإن النص عبارة عن رسالة مرسلة من خال إلى ابن أخته يبوح فيها بلواعج فقدان الأب وأثره على الأسرة، وعلى السارد (الخال) الذي رضي أن يكشف عن مشاعره الحزينة وآلامه المبرحة لابن أخته. ولم تكتف القصة بهذا المستوى فحسب، بل إنها ركزت على تصوير معاناة الأب المحتضر مع المرض، وتصوير لحظات وداعه؛ وإن كان المرتكز هو تصوير مشاعر البطل السارد وأحاسيسه التي جعلت الكتابة القصصية ترقى إلى ذرى إبداعية راقية عبر بلاغة البوح التي تحرك وجدان المتلقي وتثير ذهنه ومشاعره. وبهذه الشاكلة كانت سردية البوح عنصرا فعالا في تشكيل متخيل القصة وعوالمها الحكائية.
وفي عدد كثير من نصوص المجموعة يتخذ عبد الهادي المهادي من الحكي عن تجاربه مع القراءة والكتابة، ومن شغفه بالكتاب واقتنائه منطلقا لتشكيل سردية حميمة ومغرية بالنسبة إلى المتلقي، هذا فضلا عن نصوص أخرى استوحت ذاكرة الطفولة وعوالمها لتكون أساسا في بناء متخيل النص وتبليغ دلالات يرومها الكاتب. ووقوفا عند نماذج من هذه النصوص التي تبوح بما يفيض في دواخل المبدع من أفراح أو أشجان، ومن مواقف مؤلمة أو ممتعة سنعمل على تحليل بعض هذه النصوص الطريفة.
تتخذ قصة “يوم عاد” من الحديث عن تجربة يوم من الأيام زمن كورونا محورا لتشكيل الأحداث وبناء متخيل النص، إذ تبدأ الوقائع ببوح شفيف عن القراءة والشغف بها، إذ يبوح السارد بطقوسه في القراءة وتعاطيه مع هذا الفعل الجاد والممتع. كما تحكي القصة عن مجريات يوم من أيام الشخصية وهي تعيش بين المسجد والمدرسة ومنتزه الرميلات، وعبر هذه المراحل نجد البوح بمشاعر الشخصية وإحساساتها ومواقفها المعلنة والخفية تعد بؤرة النص ومداره، وقد استعمل السارد ضمير المتكلم في رواية الأحداث، وكانت الرؤية تتساوق مع مجريات الوقائع بما يخدم سردية البوح ومتخيله. وتشبه هذه القصة في بنائها الفني اليوميات التي يكتبها صاحبها ساردا تفاصيل ما يعيش في أيامه وحياته، واليوميات كنوع أدبي تعد أهم مجال للبوح والتعبير عن الذات، وعن حميمية اليومي ومفارقاته.
وعلى نفس المنوال تسير قصة “اعترافات” التي تتشكل من بوح خالص عن اقتناء الكتاب وملابسات ذلك، وعن مواقف طريفة حدثت للشخصية مع الكتبيين، ومع الزوجة التي يتحايل السارد عليها حتى لا تتفطن لإهداره مال الأبناء على “بلية” شراء الكتب. ولا يخلو هذا البوح القصصي من لمحات ساخرة، ومن لمزات ناقدة لتعاطي الناس مع الكتاب ومحبي الكتب. وقد اتخذ هذا البوح في النص إهاب سرد سلس ينتقل بالقارئ بين لحظات زمنية متداخلة سيقت في حلقة متماسكة مشوقة، مما يجعل المتعة شرطا من شروط الكتابة وأساسا من أسسها في هذا النص، وفي سائر نصوص الكتاب.
وبالرجوع إلى محكي الطفولة وبوح هذه اللحظة الزمنية الهامة والفارقة في حياة الإنسان نلفي عبد الهادي المهادي يسيح بنا بين أمكنة عدة: البيت والحي والمدرسة والسينما وملعب الكرة والسوق والمدينة والبادية، كما يحيلنا على أزمنة بهية من أزمنة طنجة وباديتها في فترات ممتدة من الثمانينات فما بعدها، ولذلك يجد متلقي هذه النصوص بعضا من طفولته فيما يبوح به الكاتب ويشكله متخيله القصصي.
نص “ثروة صغيرة” يبوح بلحظة طفولية قوامها البراءة والكرم والإيثار، وتصور جوانب من تقارب الأطفال وارتباطهم العفوي الفطري. إنها حكاية أطفال ينبشون في حصى الوادي بحثا عن “البومبات”/ زجاجات البلي التي تجرفها المياه العادمة، وإذا بإدريس بطل القصة يعثر على عشرة دراهم لم يخفيها عن رفاقه الصغار، بل عبر عن فرحته الغامرة بعثوره عليها، بل اتفقوا أن يشتروا بها “ساندويشات”، ورغم تحايل المستخدم عليهم إلا أنهم حصلوا على ساندويشين اقتسموهما فيما بينهم، وبعدما تمتعوا بما أكلوه، عادوا إلى بيوتهم. في المساء تعرض إدريس لقرصة شديدة في أذنه وسمع توبيخا من والدته لأنه ضيع ثروته الصغيرة، ولكنها في الآن نفسه أكبرت فيه كرمه وإيثاره. هكذا تتشكل القصة استنادا إلى بوح شفيف وتبني عوالمها السردية عبر هذه الآلية الفنية لتصور عوالم الطفولة التي تتميز بالتقارب والبراءة والسذاجة، كما تقف في الآن نفسه على أوضاع اجتماعية عديدة من مثل إخلاص الجيران وتحايل بعض المستخدمين على الأطفال ومواثيق الطفولة وأعرافها الخفية. وعلى العموم حققت هذه القصة سرديتها الممتعة عبر لغة سردية قوامها التشويق وإثارة مخيلة المتلقي وذاكرته.
وإمعانا في تصوير البراءة والسذاجة التي اتسم بها بطل القصة السابقة تحكي قصة “شكلاط” هذه المرة بضمير المتكلم لا ضمير الغائب -كما كان الأمر في النص السابق- عن السارد الذي حسب أن “الصابون البلدي” الذي رآه لدى بائع في سوق “الفندق” أنه شكلاط، وظل يلح على والده أن يشتري له منه، وعلى الرغم من أن الأب أتحفه بحلويات كثيرة إلا أن الطفل الصغير لم يستطع نسيان ذلك “الشكلاط” الذي رآه وتاقت إليه نفسه. يسترجع السارد هذا الحدث ويرويه فيما بعد لابن البائع الذي يضحك من حكايته ويترحمان معا على والديهما: والد الراوي الذي صبر على إلحاح ابنه وسذاجته، ووالد البائع الذي شاهد حماقة الصغير وإلحاحه. وبهذه النقلة من الطفولة إلى زمن لاحق يتخذ البوح حيزه الكامل ليشكل أفقا للكتابة القصصية في هذا النص، تماما كما نجد في نصوص أخرى كثيرة في مجموعة “حريق في القلب”.
في ضوء كل ما سلف نتبين أن سردية البوح كانت سمة مكونة لجل نصوص “حريق في القلب”، وأنها كانت عنصرا فاعلا في تشكيل متخيل النصوص وعوالمها الإبداعية، وأن هذه السردية تكتنف مختلف النصوص سواء تلك التي اتخذت إهابا حزينا شجيا كقصص الفقدان والموت والفراق وغيرها، أو تلك التي اتخذت سمتا ساخرا لاهيا يرصد المفارقة وغرابة الوقائع والأحداث. وفي جميع الأحوال فقد أبانت هذه النصوص جميعها عن مقدرة سردية رفيعة القدر لدى عبد الهادي المهادي لا بد أنها ستتعزز وتتطور في تجارب قصصية لاحقة.