حاورته: عائشة المراغي
«الابتسامة هى حياة». ليس مجرد سطر فى قصيدته النثرية «مفتوحة مثل الكف». هو عهد يبدو أنه قطعه على نفسه؛ أن يبتسم فى وجوه الآخرين على الدوام بوجه هادئ. ورغم ذلك؛ لم تستطع ابتسامته مواراة ما يكتنف عينيه من غموض، تفرضه شخصية الباحث الدؤوب، التى تطغى فى أحيان كثيرة على شخصية الشاعر «سبيروس كوكيناكيس».
يجعله الباحث حريصًا تجاه كل خطوة جديدة؛ يحسب لها كثيرًا ويبذل من أجلها الجهود لتخرج فى أفضل صورة ممكنة. يفكر مرارًا قبل أن يضع اسمه على كتاب ويدفع به إلى المطبعة، خاصة لو كان ديوانًا، فالدراسات العلمية وما تفرضه متطلبات عمله – كأستاذ أكاديمى فى العلوم الاجتماعية – تسير بشكل منهجى وتجد طريقها سريعًا، إذ يشتغل على الفكرة بمجرد طرحها ولا ينام أكثر من 4 ساعات، أما الإبداع؛ فتختلف حسبته بعض الشىء، يقول: «أكتب منذ كنت فى الرابعة عشرة من عمرى، ومن حينها لم أترك القلم أبدًا، حتى لو كان إقدامى على النشر عزيزًا. الكتابة تكون تلبية لنداء داخلى، تخرج من الأعماق، بينما النشر يلزمه اكتمال مشروع كتاب يصلح لأن يكون بين يدى القارئ».
نشر «كوكيناكيس» لأول مرة عام 1974، كان فى عامه العشرين آنذاك، ولفت إليه انتباه شعراء كبار؛ احتضنوه وأفضوا عليه من علمهم، وكانت نصيحتهم الأهم بالنسبة له، أن الإنسان يظهر ويقدِّم نفسه – فقط – من خلال إنجازه وعمله. وبالتالى؛ لا عجب ألا نجد له حسابات على مواقع التواصل الاجتماعى، أو تواجد مفرط فى فعاليات الأوساط الأدبية، فعمله لا يتيح له الكثير من الوقت؛ ما يفيض يكفى فقط لممارسة موهبته.
ماذا سيحدث عندما
نتوقف عن الكلام
ينسى أولادنا الكلمات
تتوقف الأغانى أن تُسمَع
تغطى همهمة الأسد على صوت ضحكك
سنسير نحن قضاة ومحكمين.
أصدر «سبيروس كوكيناكيس» 15 مجموعة شعرية، على مدار ما يقرب من نصف قرن، منها: «جنازة للطغاة»، «شرخ فى الأرضية»، «وداع الصمت»، «أمواج بحر إيجة.. شكل التضحية»، «فى عصر الشك»، «ذاكرة متدفقة»، «صورة وأشياء أخرى» وغيرها؛ نُشِرت غالبيتها خلال السنوات العشرين الأولى، فمنذ منتصف التسعينيات حتى 2017 صارت السطوة للنظريات العلمية؛ ومناصبه السياسية كأمين عام لوزارة الصحة، ومدير عام للرعاية الاجتماعية لوزارات الصحة والعمل والتضامن الاجتماعى، ومركز ميشالينيو لحماية الأطفال، ونائب رئيس الجمعية الوطنية للكتاب اليونانيين، وغيرها، وفى السنوات الخمس الأخيرة كان مسئولًا عن ملف البيئة بإقليم أتيكا فى أثينا. عن تلك المسيرة العملية يقول: «كل تلك المسئوليات اعتمدت فقط على خبراتى ودراساتى، لم أكن تابعًا لحزب ما أو محسوبًا على جماعة سياسية، وإنما تقدمتُ لكل منها بعد اطلاعى على الإعلان الخاص بها، لذلك كان وقتى مزدحمًا على الدوام».
الآن؛ قبض «كوكيناكيس» على وقته، بعدما خرج للمعاش، وينصب جل اهتمامه على إيصال مؤلفاته للآخر، ليعوّضها سنوات الانشغال. وجد ضالته فى الترجمة، فاستعان بشخصية الباحث ليتوصل إلى أفضل المترجمين فى كل لغة، لأن غايته ليست الوصول فحسب، وإنما الوصول بأفضل وأقرب صورة للأصل، ومن هنا كانت استعانته بالمترجم التشيلى «ميجيل ديديير» مترجم كفافيس إلى الإسبانية، ومثله فى الفرنسية والرومانية والإيطالية والإنجليزية… وهكذا، فهو يبحث عن مترجم ومبدع فى آن واحد، ويبذلان معًا جهدًا كبيرًا، يوضحه: «يستمر التواصل بينى وبين المترجمين حتى تصدر الترجمات فى أفضل شكل، من جانبهم يستفسرون طوال الوقت ويحرصون على معرفتى للتعبير عنى جيدًا، ومن جانبى أهتم باختيار دور النشر وتصميم الغلاف. ومما استقبلته من ردود أفعال الناس؛ أنا راضٍ تمامًا عن الترجمات الصادرة حتى الآن».
ليس هناك أى مكسب بعد كل هذه المعرفة.
فقط حساسية كبيرة. كبيرة لدرجة الغرق
فى دموع نظرة صبى
خلف المرايا.
من المواقف الطريفة التى صنعتها معه الترجمة؛ أن أحد المترجمين ممن تولوا عمل مختارات للغة أخرى؛ اختار قصيدة تعود إلى عام 1976، لم يكن «كوكيناكيس» يتذكرها كثيرًا. تواصل معه وأخذ يتناقش معه حول تأويلاتها، حينها اكتشف أنها تعبِّر عن المترجم نفسه، فقد عاش تجربة مشابهة، مع فتاة بنفس الاسم الذى تضمنته القصيدة «يوانا»، بل وفى نفس المرحلة العمرية كذلك. تلك المواقف هى التى تجعله يكرر دائمًا: «لولا الكتابة ما كنت استطعت أن أحيا، فهى المتنفس».
فى المساء ستضع يوانا تحت وسادتها
صورته، وهى تعلم أن كل القيم
تعيش فى الصمت الذى يخلقه الدعاء
والشىء الآخر.
حين فكَّر أن يتجه للغة العربية؛ وقع اختياره على المترجم الدكتور خالد رؤوف، بعد فترة تقصى وقراءة لعدد من حواراته فى صحف أدبية يونانية، وعن طريق أحد الأصدقاء تواصل معه. تفاصيل هذا التعاون يرويها د. خالد فى ثنايا هذا الحوار قائلًا: «اليونان بها غزارة فى الشعراء، وكثيرون يطلبون منى ترجمتهم إلى العربية، بمقابل مادى مجز، لكن الأمر عندى يتوقف على مدى اقتناعى وإعجابى بالكاتب، ولذلك طلبت منه فترة أطالع فيها كتاباته قبل اتخاذ القرار، فأرسل لى ست مجموعات شعرية لعمل مختارات منها. شعرت حينها أننى أمام شاعر حقيقى، لا يدعى أو ينشد شيئاً سوى فن الشعر، فأخذتُ على عاتقى اختيار القصائد لتقدِّم صورة بانورامية على مشواره الشعرى، من البداية للنهاية».
فى العام 2019؛ كرمته أكاديمية أثينا عن ديوانه «حدود الشفق»، كما كرمته مؤسسة وإلينى أورانى التابعة للأكاديمية ذاتها عام 2021 عن مجمل أعماله. وفى نهاية 2022 اكتملت المختارات بالعربية وصدرت عن دار صفصافة للنشر، فكانت الأساس للقاء الذى جمعنى بـ «كوكيناكيس» فى حضور د. خالد رؤوف.
أول ما انتبهتُ له حين أمسكتُ بكتاب المختارات هو اشتماله على قصائد من ديوان عنوانه «السكندرى» يتضمن 14 قصيدة لـ «قسطنطين كفافيس»، فسألته عن السبب وأجابنى: «خلال قراءاتى الأولى؛ تأثرتُ بالكثير من شعراء اليونان، وكان فى مقدمتهم كفافيس. لطالما حلمتُ بذلك الديوان منذ زمن بعيد، لذلك حاولتُ أن أتناوله بشكل مختلف تمامًا عمن سبقونى إليه».
كان صوته يُسمع من بعيد
يرفرف رائقًا من النافذة للباب
جاء
نسيم واقترب من وجهه
بقى التأمل كزهرة شتاء
نظر إلى وردته مباشرة
تذوق حلاوة شفتيه
بخجل
فيما يمسك بحدود الخيال
والمستحيل.
لماذا بلغ تأثره بكفافيس هذا الحد؟ لم يكن السبب فقط إعجابه بأشعاره، بل يتعلق الأمر بأزمة كبرى تخص اللغة، يحكى: «عاش جيلى أزمة لغة استمرت حتى تم توحيدها فى السبعينيات، فحين بدأتُ كتابة الشعر وجدتُ أن السائد هو الشكل القديم؛ المقفى والموزون. كم كنت أكرهه! بعدها اكتشفت الشعر الحر، بدون تكلف، وعشقتُ كفافيس. وتدريجيًا اختلف الأمر فى المدرسة -كذلك- بعدما توحدت اللغة المكتوبة مع المستخدمة فى الشارع».
بعيدًا عن تلك الأزمة؛ تبقى لغة الشعر فى حد ذاتها عصية على الترجمة فى أحيان كثيرة، لأنها مركبة ومكثفة، تحمل معانى مشفرة، وتختلف فى نسقها عن الكتابة السردية. وربما هذا هو سبب اختياره للشعر من البداية، حسبما يحكى: «فى المرحلة الإعدادية لاحظت معلمتى أننى أكتب جيدًا، فأخذت تشجعنى وتحملّنى بمهام ثقيلة، ومن ثم جعلتنى أتورط وأعتاد كتابة الموضوعات السردية، التى صارت تُنشَر فى المدرسة وفى الصحف المحلية، لكنها كانت كلها طويلة؛ تصل إلى 11 أو 12 صفحة. ففكرتُ؛ ماذا لو استطعتُ التعبير ع ن كل ذلك بكلمات أقل. كان تحدياً بالنسبة لى، جعلنى أقع أسيرًا فى غرام الشعر».
خلف الكلمات تتوارى
أنفاس
وجوه لم تختَر التضحية
شباب يضيعون دون أن يعرفوا
خلف الكلمات تختبئ
قرارات عظيمة تقتل على طرق معبدة.
مع تطوره العمرى والفكرى؛ أخذ «كوكيناكيس» يخرج من عباءة الذات إلى هموم الإنسان وآلامه، وصارت كلماته تعبِّر عن الشعب اليونانى وتحكى تجاربه القاسية، وهو ما أفصح عنه فى مقدمة كتابه السادس قبل أكثر من أربعين عامًا، وأعاده فى مقدمة مختاراته بالعربية، قائلًا: «الشاعر يرفع ثقل الفرد والجميع فى الوقت نفسه، معبرًا وعائشًا فى مناطق مشتركة. فالأبيات التى يكتبها وإن بدت شخصية، هى ليست إلا أبيات الفرد والجميع، إذ أن زمنه هو زمنهم، وفى المرآة التى يرى فيها وجهه يظهر وجه العالم كله».
يشعر «كوكيناكيس» بأنه محظوظ، لأن مجال عمله، رغم بُعده عن إبداع الكتابة، لكنه لم ينفصل عن الإنسان، فكل مسئولياته كانت على علاقة مباشرة بالناس؛ أى متماسة مع اهتماماته، وهو ما يجعله ممتنًا لمسيرته الوظيفية، ويوضح: «لم أشعر للحظة أن عملى يعوق إبداعى. على العكس؛ جعلنى أتعرف على أشياء جديدة، وأسافر كثيرًا. كان مصدر إلهام فى كثير من الأحيان، يفتح لى زوايا غير مرئية أو مطروقة من قبل. أما الشعر فكان يفرض نفسه حين أحتاجه أو يطلبنى، لأن الفكرة إن لم تُنفَذ وقت ظهورها؛ لن تتم فيما بعد. فى لحظة الإلهام؛ أفضِّل ألا أتعاطى مع أى شىء، لا أقرأ أو أسمع شيئًا آخر، أنعزل تمامًا مع الكتابة، حتى تخرج الفكرة كما جاءتنى بدون أى مؤثرات خارجية».
فى ليالى الشيخوخة المضيئة
قليل من النقود
أجر للجباه المتعرقة
لولا هذه الجباه لكانت أجسادنا بقيت بلا عظام.
يظهر الإنسان فى قصائد «كوكيناكيس» من خلال همومه اليومية، وكفاحه من أجل العيش، ويرصد بدقة مفردات الحياة العادية وتفاصيل لا تختلف من بلد لآخر، كالضوء والساعات والخطوات والبحر والسفن وطواحين الهواء، والحكايات والثورات والحروب، والموت والحياة. وهو ما جعل أحد كبار الفلاسفة المعاصرين، لأول مرة، يطلب كتابة مقدمة لديوانه، حين اطلع عليه مصادفة فى المطبعة. يقول «كوكيناكيس»: «كلما مرت السنوات؛ أكتشف كتاباتى القديمة من جديد، وأرى أننى مازلت أسير على نفس الوتيرة، فأطمئن. وكذلك حين يعيد النقاد والمحللون الاشتغال على أشعارى ويتوصلون لزوايا جديدة يضيفونها لقراءاتهم القديمة؛ إنها حيوية الفن».
غسلوا الجسد وألبسوه
وقَطَّروا عليه العطور.
بعد ذلك ناحت عليه
كائنات حدباء
تنضح بياضًا
تحمل أوعية الزيتون
مشاهد من مطاردات العشق.
مثلما يعبّر الشعر عن الهمّ العام المحيط بالشاعر، فهو أيضًا ينبع لديه- فى بعضه- من جانب شخصى، وحديثنا هنا تحديدًا عن بداية تعارف «كوكيناكيس» وزوجته، يقول: «الشعر عمومًا يتطلب أن يكون صاحبه واقعًا فى حب الحياة بشكل عام، وياحبذا لو كان بشكل خاص أيضًا. أتذكر أننى حين التقيتُ بزوجتى لأول مرة أُعجبت بها جدًا، لكنى كنت بالنسبة لها شخصاً مرعباً فى العمل؛ جاداً جدًا ولا أملك الكثير من الوقت، فأهديتها ديوانى. بعد سنوات أخبرتنى بأن هذا الديوان هو ما أوقع بها، لم تكن تتخيل أن شخصاً مثلى يمكنه الكتابة بهذه الرهافة».
رأسها، يعزف عواصف،
هجران متكرر غير متوقع
صار مثل جزر نجاة
تُذكر برهافة العشق.
يعانى الشعر كثيرًا فى سوق النشر العربية، بحجة أنه غير مقروء، فينحصر الأمر بين النشر الحكومى أو على نفقة الشاعر، وهو ما لا يختلف كثيرًا عن الوضع فى اليونان، يقول: «الشعر لا يُباع ولا يُشترى. الأمر قد يكون أكثر يُسرًا بالنسبة لى لأننى أكتب منذ زمن، لكن ذلك لا ينفى أننى أنشر أحيانًا على نفقتى الخاصة. ما يجعلنى أتابع فى هذا الطريق هو رد فعل من لا أعرفهم، سواء الجمهور أو الشعراء، إذ كتب الكثيرون عن شعرى فى أبحاث مهمة دون أن يكونوا مضطرين لفعل ذلك، فأنا لا أنتمى لشلة أدبية. هذا ما جعلنى أصدِّق موهبتى».
واستكمالًا للتواصل مع الجمهور؛ يستأجر «كوكيناكيس» قاعة مع إصدار كل مجموعة شعرية، يدعو إليها ما يزيد على 200 أو 300 من الجمهور والمهتمين بتذوق الشعر بشكل عام، ليلمس رد الفعل مباشرة، فجمهور الشعر فى رأيه لا يمكن تحديده: «جمهور الشعر عام، يمكن أن يكون أى شخص أثرت فيه كلمة، ليس شرطًا أن يكون فقط من يشترى الديوان. طالما أن الشعر موجود؛ فعاجلًا أو آجلًا سيصل. هناك شاعرة مهمة جدًا هى كيكى ديمولا؛ رحلت قبل فترة قصيرة، من أهم إنجازاتها أن جمهورها من الشعر ضمَّ كل الناس، من الطبقة الكادحة جدًا لطبقة النخبة. لكن ذلك لا ينفى بالطبع أن تذوق الشعر يحتاج قدرًا من المعرفة والتعليم؛ فحينما يؤمِّن الناس احتياجاتهم الأساسية يبدأون فى الالتفات للجمال. وفى رأيى؛ لا أعترف بالشاعر الذى يكتب فقط، لابد أن ينتج شيئًا، فالنجار أو العامل الذى ينتج شيئًا جيدًا أعتبره شاعراً أيضًا».
تحت ضوء قمر وليد
اقتُرِفت الجريمة
وكل ما بقى هو
زوج من الحمام الأبيض
وهم!
من المناصب الأخيرة التى تولاها «كوكيناكيس» ملف البيئة فى إقليم أتيكا، ورغم أن الحفاظ عليها يتطلب الاستغناء عن الورق من أجل الأشجار، لكن الأمر بالنسبة له مختلف: «لا أمانع فكرة الكتاب الإلكترونى، لكن العلاقة مع الكتاب الورقى شىء آخر؛ هو ما يحبب الأطفال فى القراءة من الأساس ويربطهم بها، لذلك نرى أن الجيل الجديد الذى تعود على القراءة الإلكترونية لا يملك أى تقدير للكتاب؛ كفكرة وليس كمادة. حين يكبر الطفل على حب الكتاب وعلاقته به؛ فإنه يحترم الكينونة كلها».
وأنهى حديثه مؤكدًا: «المعرفة فى الهواء، مثلما يقول اليونانيون القدامى، لكن الخلاصة؛ كيف نستخدمها ونوظفها».
صبحنا فى أرض غريبة
كدحنا من أجل أرض غريبة
أولادنا وُلدوا فى أرض غريبة
وهنا لا يسرى قول قدمائنا: «أينما تعيش تستوطن».