أسامة كمال أبو زيد
لم تكن “سادة اسكتو” كتابًا يُقرأ، بل فنجانًا يُرتشف. قهوة داكنة تُسكب في الروح قبل الفم، يعلو بخارها من صفحاتٍ تتنفس بالحيرة، وتُذكّرك أن الحكي أحيانًا ليس إلا محاولةً لترويض الوجع.
منذ السطر الأول، تشعر أن شيئًا ما يتكوَّن في الظل: رجلٌ يطلّ من وراء الزجاج، لا يسعى إلى البطولة، ولا يريد خلاصًا، فقط يريد أن يرى — أن يُنصت — أن يتذكّر كيف كانت الأشياء يوم كانت جميلة. كأن الراوي هو آخر من تبقّى من زمنٍ كان فيه طعم القهوة يشبه طعم الصدق.
القهوة في هذه المجموعة ليست مشروبًا؛ إنها مقام الوعي. حضورها الخفيّ هو إيقاع الحياة نفسه: مرارة تفتح العين، وسكون يوقظ الذاكرة. حين يطلبها البطل، كأنه يستدعي نفسه من التيه، وحين تغيب، يتركها على الطاولة كرمزٍ لانتظارٍ لم يعد يعرف صاحبه ما ينتظر.
القصص تتنوع كوجوه المدينة، لكن الصوت واحد — ذلك الصوت الذي يكتب لا ليقول، بل ليحتمي من ضجيج العالم بالكتابة.
يراقب الناس من بعيد، كأنه يخشى أن يلمس ما يراه، ومع ذلك حين تنكسر أمامه إنسانيةُ أحدهم، تمتد يده خلسة — لا لتُصلح، بل لتتعاطف.
في “الهراشة” و”إكس ستة”، يتسلّل إليه هذا البريق النادر: شفقةٌ تمسّ الآخر وتمسّه في الوقت ذاته. كأننا نسمع قلبه للمرة الأولى وهو يخرج من تحت الركام.
كل قصة تُشبه شظيّة من مرآةٍ واحدة، تعكس وجهًا عاشقًا لجمالٍ تلاشى في الزحام. في خلفية المشهد دومًا ظلٌّ لماضٍ أنيق، لا يُستعاد بوصفه حنينًا، بل بوصفه ميزانًا نقيس به سقوطنا اليومي.
وحين يظهر في بعض النصوص صوتٌ خفيّ يحاوره — كأنه جزءٌ منه يتجلّى له من الداخل — ندرك أننا لسنا أمام حكايات عن الخارج، بل عن ذلك التيه الذي يسكن الداخل، عن الإنسان حين يفقد صوته فيبحث عنه داخل الصمت.
تبلغ الرحلة قمتها في “بين الجفن والروح” و”صفحة من مذكّرات لا أحد”، حيث يتجرّد الراوي من كل سخريةٍ احتمى بها، ويقف عاريًا أمام نفسه. يقترب من الموت في الأولى، ومن الحقيقة في الثانية، وكأن بين الجفنين مسافةُ حياةٍ كاملة. هناك، لا يعود السؤال “هيكمل إزاي؟” مجرد سؤال سردي، بل يتحول إلى سؤالٍ وجوديّ يخصّ كلّ من يقرأ:
كيف نكمل، ونحن نعرف أن العالم الذي حولنا لم يعد قادرًا على الإصغاء؟
في نهاية الرحلة، يلوّح الراوي بكلمةٍ واحدة: سلام. لكنها ليست تحية ولا وعدًا، بل نوع من الصُلح المتأخر مع الهزيمة. كأنّه يقول: حاولتُ أن أعيش بكرامة، ولم أفلح، فليكن إذًا هذا السلام هو شكل بقائي الأخير.
“سادة اسكتو” ليست مجموعة قصصية بقدر ما هي يوميات روحٍ مثقوبة تتعلم كيف تواصل الحياة بالكتابة.
لغة سراج محمود في هذا العمل تنبض بما يشبه اليقين الهادئ: لا استعراض، لا فخامة زائفة، فقط وعيٌ متألم وصدقٌ ناصع.
كأن الكاتب لا يكتب ليُدهش، بل ليُشفى.
وحين تُغلق الكتاب، تشمّ في أصابعك رائحة البنّ، وتشعر بأن شيئًا ما فيك تغيّر — شيئًا صغيرًا لكنه حقيقي.
تبتسم في مرارتك، وتهمس لنفسك:
ما أشبهنا بذلك الراوي الذي لم يعد ينتظر أحدًا، لكنه يظل يحكي، لأن الحكي هو طريقته الوحيدة في أن يبقى حيًّا.





