سؤال الفن والتاريخ في “جبل الزمرد”

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

 

إيهاب الملاح

"المعرفة سبيل التحرر.. ولا تحرر إلا بهتك أستار اللعنة وحلولها".. هذا هو الدرس الأهم لنص (ليالي ألف وليلة)، الذي استخلصته منصورة عز الدين واستوعبته جيدا عبر معايشتها لليالي في روايتها الجديدة «جبل الزمرد»، الصادرة عن دار التنوير بالقاهرة، مدركة أن "شهرزاد إنما كانت تقدم أمثولة المثقف الذكي في مواجهة السلطان الجائر، إلاّ أن قدرة المعرفة على التحرير لا تتوقف في ذلك النص الثري على شهرزاد وحدها، إنما تكاد تتكرر في كل حكاية من حكايات اللّيالي، إذ تتناسل "الشهرزادات" ويتعدد الرواة البارعون في سرد حكايات مخلِّصة".

تدور أحداث «جبل الزمرد» في فضاءات مكانية متعددة، من قلعة ألموت بإيران حيث جاءت حفيدة أحد الحكماء السبعة إلى القاهرة لتبحث عن “المنذورة” المعاصرة لاستكمال الحكاية الناقصة من الليالي، مرورا بالقاهرة وثاكاتيكاس بالمكسيك، التي ستلتقي فيها “كريم خان”، الحفيد الآخر لأحد الحكماء السبعة، وجبال الليالي الأسطورية، وممالكها السحرية، جبل قاف، وجبل المغناطيس، وما بينها تدور الدوائر وتتكشف الأسرار وتروى الحكايات وتتتابع الوقائع.

بحثت منصورة عن سؤالها وانشغلت به، وحفرت حوله للإمساك بجذوره العميقة، سؤالها المؤرق؛ سلطة المعرفة وقدرتها على التغيير. فالتدوين مفتاح الخلود، وثمرة المعرفة المحرمة، و”التذكر هو السبيل الوحيد لانبعاثها من الرماد”.. التذكّر حياة، والنسيان محو وفناء، هو الموت ذاته، ولا سبيل إلى استعادة ما نريد استعادته إلا عبر الذاكرة، عندما يفقد المرء ذاكرته يُنفى خارج مدار الزمن والتاريخ.

شخوص روايتها البديعة تحيا على الأعراف، بين الواقع والخيال تعيش، تكتب سيرتها في المنطقة المعلقة بين السماء والأرض، هكذا نتعرف على “بستان البحر” أو “كاهنة الأبيض والأسود” الراوية، وحفيدة أحد الحكماء السبعة لجبل قاف أو “مملكة الزمرد”، الكائنة إلى مصيرها باستعادة سيرة الأميرة زمردة، بنت الملك ياقوت، حاكم المملكة ومدبر شئونها، زمردة التي أعلنت قبل زوالها “الحكاية ستعيدني، وكاهنة الأبيض والأسود ستجمع شظاياي”، تلك النبوءة/ اللعنة التي تملك سر بعثها وبقائها إلى ما لا نهاية.

أما “هدير” حفيدة “شيرويت” المناضلة اليسارية العجوز التي لا تملك إلا اجترار ذكرياتها وحث حفيدتها الشابة على التحرر والسفر وخوض تجربتها الخاصة، فهي تلك الفتاة التي تحيا في قاهرة 2011، تحركت لعنتها وثارت بعد خمود، لترقب مصيرها المجهول، فالخلاص لا يكتمل إلا بحلول اللعنة ونزولها.. والثمن لا بد أن يسدد كاملا غير منقوص.

وبين هدير وشيرويت، هناك “نادية” الجميلة، أم هدير المفتونة بالزمرد وحاملة اللعنة ومُورِّثَتُها في آن، “رابونزل” المصرية، التي تضحك لها المرايا، باحثة عن خلاصها الذي وجدته في “الهجرة” والمغادرة إلى حين.

وأما “مروج” حفيدة كبير الحكماء، فهي كاتبة السيرة ومفجرة اللعنة، خارقة المحظور هاتكةالمحرم، صانعة الحكايات التي ستكتب بماء الذهب وتحفظ في خزائن الملوك كالجواهر، أو تدون في السجلات لأجل أن يطلع عليها الخلف فيعرف أخبار السلف، أو يسعى إليها الساعون في البلدان المختلفة، لينسخوها بأدق ما يستطيعون، كي يعودوا بها هدية إلى ملوكهم الذين يحفظونها في خزائنهم، ليطالعها من يبحث عن “الحكمة المتجددة” في الزمان والمكان.

مروج” هي حاملة الحكمة المتجددة؛ “حكمة الكتابة” التي تصل الماضي بالحاضر بالمستقبل، فتهدم حواجز العرق والجنس واللسان والعقيدة، وتجمع من التدابير العجيبة والعلوم الغريبة والتجارب الحكيمة ما يصل القرون الماضية والأمم البائدة بالقرون الحالية والأمم الآتية، مؤصلة في الإنسان انتماءه إلى المعمورة الإنسانية كلها في أحلامها وأشواقها، مؤكدة أن حاجة الغائب موصولة بحاجة الشاهد، لاحتياج الأدنى إلى معرفة الأقصى، واحتياج الأقصى إلى معرفة الأدنى، فذلك هو طبع البشرية وفطرة الإنسانية التي تؤكدها “أمثولة شهرزاد”، وموازياتها الأخريات “زمردة” و”مروج” و”هدير” فيما تؤكده من دلالات أو تومئ إليه.

هكذا تبدو رواية «جبل الزمرد» (أو الحكاية الناقصة من الليالي)، سردية رمزية كبري، تترك قارئها، أو بالأحرى أسيرها المسحور، لاهثاً يتمرى فيها لاستخلاص ليس المتعة فقط، وإنما بالأساس “الحكمة والعظة”، كما حملتها الجملة المفتاحية المتكررة في الليالي “حكاية لو كُتِبت بالإبر على آماق البصر لكانت عبرة لمن يعتبر”، وهي الجملة التي صدرت بها منصورة نصها الروائي الجميل، باعتبارها “جملة مفصلية” توصف بها الحكايات العجيبة والمهمة.

فالعبرة/ السؤال/ والاشتباك الوجودي والمعرفي مع الموروث ومع الحاضر، هدف أساسي للحكي جنباً إلى جنب مع الإمتاع.. من هنا تؤسس منصورة لنص موازٍ لليالي، يستلهمه، ويشتبك معه، يناوشه ويحاوره يجاذبه من حيث هو “النص الأكبر” المكرس بكامله لمديح فن الحكي، والاحتفاء به بوصفه الفعل الأكثر إمتاعاً وجلباً للتسلية والعِبرة.

تتفحص منصورة في نصها متاهة الحدود الملتبسة بين التاريخ والفن، فما يواريه التاريخ ويسكت عنه، ينطق به الفن متحررا من أسر أي سلطة زمنية أو أي حدود ينبغي أن تحد، ذلك ما تبحث عنه منصورة جاهدة “عما يشبه تلك الحكايات الشفاهية الآسرة، عن كتابة لا تعترف بالحدود الفاصلة بين الواقع والخيال”، من خلال ثنائية “الشفاهي والكتابي”، فالحكي عند منصورة كما فهمته عن جدتها الأسطورية شهرزاد “يمنحها سلطة هائلة، سلطة خالق يتحكم في المصائر، ويسيطر على آذان مستمعيه جاعلاً قلوبهم تخفق على إيقاعات صوته المتماوج بين الهمس والصياح، بين العلو والانخفاض، بين تصدير الأمل والحماسة أو الخيبة والشجن“.

الرواية تجسد ببراعة فائقة ذلك الخوف اللا شعوري من القوة الكامنة في عملية الكتابة “التدوين”، وهو خوف يوازي سوء الظن المتأصل بالأنثى، وكما لو كانت “الكتابة/ الشر” هي الفعل الذي إذا أطلق سراحه أحال الكبير إلى صغير والصغير إلى كبير، والمقموع إلى متمرد، والسادر في ظلمات الجهل والخرافة إلى حائر متشكك في محيطات المعرفة، واستبدل الأدوار وعبث بالمواضعات والأعراف وفتح من أبواب الوعي ما ينقض كل قمع ويزرع بذرة التمرد في أعماق كل مقموع.ويبدو أن “الكتابة” التي أصبحت العلم المحيط للكون اكتست المعنى الرمزي لشجرة المعرفة المحرمة التي كان على الإنسان أن يقطف ثمارها  مقترفا فعل الخيانة الذي اقترفه بروموثيوس حينما سرق نار المعرفة من الأرباب التي حرمتها عليه فاستحق العقاب الذي خرج به من جنة الطبيعة إلى جحيم الثقافة/ المعرفة.

إنها رواية “بديعة” حقا وصدقا، جديرة بأن تجذبك إلى عالمها دفعة واحدة، ولك أن تطلق ما شئت عليها من أوصاف دون تحفظ أو رصانة مصطنعة، وكذلك على كاتبتها حفيدة شهرزاد ووريثتها المقتدرة الحكاءة البارعة، الساردة المتدفقة، المهجوسة بسؤالها الوجودي والمعرفي وطارحته في الآن ذاته في سرد خلاب، ساحر، يمتح من معين الليالي دون أن ينزلق إلى شبهة محاكاة أو تقليد أو الاستسلام لغواية “التماهي” في النص السردي الأكبر.

في ظني ستكون «جبل الزمرد» واحدة من الروايات التي ستملأ الدنيا وتشغل الناس طويلا، وهي جديرة بأن تشغلهم وتمتعهم وتخلب ألبابهم.. فلتحيا مملكة الرواية!

ــــــــــــــــــــــــ

خاص الكتابة

 

  

مقالات من نفس القسم