زينب

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 45
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

حسين عبد الرحيم

:(أنا.

_من أنا؟

من هي تلك الفتاة،

 زينب.

 بنت الشهيد عبد التواب،لم تفارق حواسى،

تلهب جسدي، تشحذ همتي، أتسلل،

 أردد في نفسي:

_ هل رأتني زينب؟

 هل تعرفني زينب حقاً، هل شاهدتنى في أول العرب، هل أحست بوحدتي،

هل تعرف إسمي،

(هل تعلم  شيئا عن وحدتي، غربتي، حيرتي، تناقضاتي وجنونى، صمتي الذي يخفي جحيما وراء السكوت،

 أسأل نفسي،

هل عشقتها، أحببتها،

 هل ستتزوجها.

ماذا تريد منها إذن، وماذا تريد هي،

من سيذهب معك لهذا البيت الجميل.

عشها الدافيء السابح في زقزقات الطيور وحمامات تحط فوق أفرع السيسبان،  وسط الجذوع حتى منتهى الشراشف الحمراء

 – من هو أبي؟!

أقول في نفسي،

هطلت عيناي الزرقاويتان البارقتان، الزائغتان دوما في صمت وحيرة، لم تسكن الطلات ولا خمد الشرر إلا مع رؤيتها في شرفتها، خلف النافذة، قرب البلكونة،

 نعم إنتبهت الأن، دائما ما كنت أسمع النداء بهذا الإسم على لسان زوجة الشهيد عبتواب،

 أمها،

( مامه زينب.

 وكثيرا ما كانت تصرخ مرددة

🙁 الشباك يا زينب، العصافير، البلكونة يا زوزو.

 كنت وحدي وصرت الواقف أتطلع بغرابة لسماء عالية بلا حدود، سماء حبلي بالزراق ودموع سارحة في عيونى،  سواد وبياض قليل ينسل غائصا في لحم السماء الكابية، عضوي يتمدد حتى كاد أن يخترق بنطلوني، يجتاح رومانسية ما  تخرج من روحي بعداد سنين أو عقود مرت من عمري،

 سنوات لا تحصي  يكنسها الضباب والغمام الابيض،

وددت مفارقة الارض والصعود لأعلى وأمامي زينب، هي الدليل.

روحها تحلق وتهيم فأسأل نفسي من جديد،

وددت سحبها من كفها، لمس أناملها الشفيفة، تقبيل أصابعها العجينيةالمثيرة، قضم أظافرها لحسها، ادخلها في فمي، أستنطق الخبايا من نبرات صوتها، من بين ضلوعها.

 جانحا كنت، تخرج الغرابة من نفسي فأقول

من أنا، أين أنا؟!!

(أنا شيطان ولست ملاكا..

 ياربي،

 ولكنها زينب.

 حقيقة الحلم والجمال والخفة والغنج والطفولة والسلوى تمشي على قدمين، بخفة تمشي على ضلوعي تمشي، تدوس قلبي، تنفذ لحشاي، متجاهلة ملامحي وأنا الراشق بعينيي من خلف فروع السيسبان، أبغي مغادرة الارض، أكلم الله في رحلتي، جسدي يخف، دافئا، بعزم وقوى بعداد السنين الفائتة من عمري، بلا حصاد إلا الطلل في بيوت العرب، من أوله لآخره، ثكنات الهيئة،  هالة جيهان، قصة الكاريه، خطوة الرومانتيك، فى الصباح، بعد الغروب، في طولون؟!

هي هنا والآن،

 زينب،

جيهان؟!

وأنا أسبح في ملكوت الجمال، السكينة، الصمت، الخرس، زغب زينب الأصفر يبرق تحت شفتها السفلى، حول جنائن الإبط، ترفع ذراعها الأيمن لتسوي شعرها.

هجرت أرض البيت في أول الأفرنج، خفت أن تراني، صارت معلقة بشفاف القلب،طلتها، ملامحها،  جسدها،  حضور لا يغيب، في عنقي، تدلت كقلادة من الماس، في عنقى،  فصوص خضراء، نبيذية،  من ياشب..قلب الفتى الغريب أخضر، أردت التحليق،نظرت السماء في الصباح،  في أول العرب، في محمد على، في أحمد  ماهر، في التلاتيني، داخل الكنيسة، بمسجد العباسي.

 وجدتني وقد صعدت، أفارق أرض البازلت، أنظر البشر من عل، أخيرا، نظرت لي زينب، صرخت في وله:

(خذني معك.

 روبها البرتقالي شف، عن جسد ملائكي، تكوينات لحمية مثيرة،  طازجة شهية، مستحبة مجرمة، محرمة، ملائكية…أمسكت  بساقي،  فارقت أرض الندى، جسدي دافئ أ صعد لأعلى، أحلق، أنظر السماء السابعة، أبحث عن ربي، في أعلى عليين، أرتحل.. تتقازم البيوت من تحتي،  تتعاظم جرأتي، أنفاسي،  رأيت السماء من تحتي،  تجلت في تكوينات هلامية، سمعت الهاتف في سطوع الضياء، قال اقترب، انها بيوت الله في أراض اخرى،عالية، بيضاء، بلا شمس حارقة،  دون بشر، بلا فقراء وجوعى، فضاءات تشبه صفاء القلوب الرحيمة التي قابلتنيفي الرحلة الطويلة،  نفذت لنهر السماء، رأيت سكك للرحيل،  للذوبان،  للتلاشي،  للسفر، للفراق، لتوديع الوجود،، حتمية العدم،  وبدايات الخلق، ذهاب الأحبة،

سمعت من يهتف بي في رهبة يأمرني:

_ إصعد.

(فإذا ولجت لنفذت وأعتليت واخترقت، وإذا دنوت لاحترقت؟

دعكت عيني لارأني آتيا من البعيد، في زمنا ما لا أعلمه، يجرني رجل أسمر ينادونه أبي ويصرخون عليه،  مرة بالحبشي، مرات بالصومالي، عينيه زرقاء،أسود غطيس، تبرق في  ليليالدائم،  جرني معه،  قلت له:

 لاعلم لي بالزمان،  ولا المكان،  لا أعي المواقيت،  أجهل تاريخي..  تكرر النداء،

(صومالي، يا حبشي،

 يا حسين؟!

 صار  قيده أدنى معصمي،  بقوة عصبه،  بعصابية المنطوق من الكلم،تجلت الملامح تشبهني، قوة مفرطة تقبض على يدى بكفي،  لاتفارق ذراعي، تقيد رسخي، تدهس أصابعي التي صارت ترتجف..  في نهاية ديسمبرلم أنتبه للنداء،

 من بعيد.

 كان طارق العجيزي يجري خلفي، ينظرنى في دهشة، فى رعب، في ريبة،  ناداني فلم أجب تجاهلت السمع،

قال لي

( معلم تعلب يبللغك بالعودة لتشاركنا الفطور.

**

خرجت من جربين المعلم ضاحي فجرا، أحمل بطانيتي الرمادية المهترئة، أتوجه لفرش البطيخ، رآني العم كامل شاهين من بعيد، ناداني،

 قال:

أحضر لك العشاء يا صومالي:

 قلت في كدر وجهامة،

: شكرا عم كامل تعيش.

 كدرا مرهقا نظرته فى أدب، نظرني في شفقة، سألني

 _ تنام؟

 قلت نعم.

 بدا المطر خفيفا في أول العرب، تمددت،  أرتديت طاقية صوفية شراقي فوق رأسي، كبستها في دماغي، تخطت أذنيي،  شعرت بدفء، تمددت، أتي عم كامل وبيده بطانية ثانية، رماها فوق جسدي المفرود على قش الأرز،  بين أكوام البطيخ المكومة على شكل هرمي،صنعت مرقدي، بطول مترين، تحسست جنبي الأيسر الذي صار يؤلمني على غير العادة، في العتمة، نهضت من جديد،  أشعل سيجارة، نظرت السماء الكابية، ركام السحب تلج  فضاءات الغمام،  تمددت على جانبي الايمن،  رحت في نوم عميق،

و رأيتني سائرا على جسر ترابي طويل، بلا نهاية، الجسر ممتلئ بالحصى، مشيت أرفل في بدلة كاوبوي، ببطء أنتعل حذاء بنيًاً قديم، أتطلع في اليمين،  لليسار، رأيت الديار،  منازل بالطوب الاحمر،  قفر، دخان يخرج من بيوت مهجورة،  الطريق يمتد،   نظرت أسفل الجسر، رأيت قناطر جافة، نهر طويل… زراعات، أشجار السرو والعبل تطول السماء، بزع النور في بصري، نظرت بيتا جديدا قديم الطراز،

 سألت نفسي في الطريق،

_أين أنت الان؟!

 أتمدد كالميت، أروح في بقاع مجهولة، في حلم متكرر،  تتجدد مفردات الحلم، نفس الجسر، يطول، وأنا السائر بلا إكتراث، لاأنوي على شيء ما بعينه، الوقت مغارب البيوت ساكنة وأنا أدقق النظر، أتفحص البيوت المهجورة في أسى، أسأل نفسي متأرجح الذاكرة مابين ماض بعيد وآني ملتبسس،،

أين رأيت تلك المنازل، هل سكنت هذه البيوت….

أتامل قناطر، قنوات مائية تخرج من تحت الجسر ترمي بالماء أسفل ربوة تمتد بمحاذاة الجسر، طالت خطاي، أتطلع للبيوت والقفر والبلد الغريب دقائق وبان على يمين الطريق وبمحاذاة أشجار السرو، سرادق كبير، يقف أمامه بعض ضباط الشرطة برداء أسود أحاول الدنو والهبوط تاركا الجسر المرتفع لأنسل بمحاذاته مدققا النظر بتلصص في السرادق الطويل بمقاعده الخالية إلا من بعض العسكر والضباط أتطلع في الواجهة  فارى ثلاث رايات خضراء وشعار ملكي، وعبارات مسطورة بمدخل السرادق.

 المغفور له حسين الصومالي الحبشي  24 يناير 1952،

نظرتني وجوه عدة لضباط بفئات عمرية مختلفة، كنت أنظر رجلا بعينه جالسا منزويا علي يسار مدخل السرادق، كان يتبعني، يرقبني، يتتبع خطاي وهو القعيد الجالس على كرسي متحرك مرتدياً عباءة من الجوخ بجسد نحيل، يلف رأسه بعمة تطوق رأسه المفلطحة، دخلت السرادق فلم يعترضني أحد، بدا صوت الصراخ يخترق أذني واضيئت أنوار فجأة بطول البراري، بإمتداد الممشي الترابي المحاذي للجسر الطويل، الصراخ يصل عنان السماء وأنا خائف، أسأل نفسي بلا جواب،

في أي زمنا ما أمشي وأرى،

 ولمن هذه الوجوه؟!!

يكاد صوتي أن يخرج بالصراخ لإستبيان مكاني، هذا الزمن الممتد بتكوينات غرائبية في البيوت والوجوه والطرز المعمارية، أشتم رائحة قمائن طوب في البعيد، أسال عن دليل يرشدني لثمة طريق يخرجني من هذه المتاهة.

كان الرجل القعيد يشير  لي بهمس والضباط في سكون لا ينظروونني،  كأنني شخص معروف، مألوف لديهم، أتقدم بحذر وبطء، أنظر في الداخل، في نهاية السرادق كان التابوت مغلق وحوله سياج من سلاسل ذهبيية وبعض الانفار يجلسون على المقاعد ينظرون للتابوت إلا الرجل القعيد  الذي كرر إشاراته لي بالتقدم نحوه،

 عادت أصوات الصراخ من جهات غير معلومة ولكنها قريبة، عدت للتلصص والتدقيق في ملامح الجالسين في السرادق كان هناك من يشبه المعلم ضاحي الكبير، يتحرك ويترك المقد وبيده عصاه الأبنوس، رمي بفص الأفيون تحت ضرسه وقال للساقي

 لا تتحرك من هنا حتى اناديك، تابع خدمة المتوافدبن حتى تأتي التشريفة، وددت الصراخ استفسر عن الحاصل،

( لمن هذا التابوت؟،

 زحف الظلام فتلونت الدنيا من حولي وسكت الصراخ ورأيت من يناولني كوب ماء، شربته ونظرت الوجوه فلا مجيب وولا تواصل مع أحد إلا الرجل القعيد الذي ألح في طلبي، اقتربت دانيا من كرسيه فسألني في ثقة،

_( لماذا تأخرت كل هذا الوقت.

أنتظر حتى يأتي عمك؟!

لم أجد ما أجيب به،

 سألته،

 من أنت؟!

 فقال لي.

_(وحدك أ نت من البداية،

لا تخف، أنت من اخترت الطريق وتركت أبيك وعمك، وذهبت لناس البحر،

 زادت دهشتي وبت أرتعش، ترتج ذاكرتي بلا جدوى دون فائدة،

 سألته في غضب وقد هاجمتنا تيارات هوائية كاسحة تأتي من غرب السرادق، دققت في ملامحه من جديد متطلعا للجنود والضباط بمدخل السرادق التي ضوت فيه مشكاوات ومصابيح تسطع بأضواء مبهرة مع صوت نقيق ضفادع وخرير ماء من جداول أو قناطر قريبة، تأملت الرجل، هززت كتفه النحيل قائلا:

_من أنت،

( أين أبي،

 فقالها في عبارة واحدة،

اخرج من هذه المدينة وعد للإسكندرية؟!

سافر يا بنى.

إبحث عن أبيك،

رافق تعلب، صاحبه، اسمع له،

هو من يعرف كل شيء.

 اذهب للنبي دانيال، فمن الممكن أن تكون فرصتك الأخيرة للعثور على أبيك الصومالي؟!! إلتفت بغته كانت أصوات الصراخ تدوي من جديد من نسوة لا ترى إلا أن الصوت أفزعني، أحس برهبة تجتاح جسدي كله، خلا السرادق من المعزين وبقى التابوت كما هو وألتفت يمنه ويسره كان الضباط يمتطون خيول عفية ويستعدون للرمح فوق الجسر الطويل المرتفع عبر قناطر وجداول مائية ترمي بالماء العذب من تحت الجسر لمجاري البراري المؤدية للحقول.

زرعات عنب وتين ورمان أينعت فجأة وضوت بل سطعت من خلف الكهارب والمشكاوات التي بقت سارجة وكأنها نازلة من السماء،المكان يسبح في نور وأضواء وأنا أتلمس خطاي منصتاً لثمة هسهسة ووشيش وصوت شيخ يرتل مابين البراري والقفر، أسفل الجسر الطويل، بكرسي عال مذهب وعمامة حمراء وعباء سوداء، يتلوا.

” يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه…

فررت وتركته دون أدني إكتراث، كان صوت التلاوة يتعالي في أذني،في عقلي في نفسي وروحي، يهزني، يرج كياني ويخلخل ذاكرتي، لأعاود إجترار ما قاله الرجل القعيد،

 سافر للاسكندرية،

(اذهب للنبي دانيال،

رافق تعلب إبن فاطمة الضاحي، صاحبه، واحترس من عربي الضاحي.

 راقبه في صمت حتى تأمن شره

(لعلها الفرصة الاخيرة لملاقاة أبيك والوقوف على مصيره..

***

 

مقالات من نفس القسم