زياد الرحباني.. الوداع لصديقي الذي لا يعرفني

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمود عماد

بشكل مفاجئ غيب الموت زياد الرحباني، عن عمر ناهز ال69 عاما، بعد رحلة طويلة من الفن الصادق، مسيرة تضمنت الكثير، لم يبدع زياد في ميدان واحد، بل تنوع إبداعه الصادق، وظهر في أشكال كثيرة. زياد الملحن والموسيقار العظيم، زياد شاعر الأغاني الفريدة، زياد المؤلف المسرحي، زياد الممثل، وحتى زياد المخرج، يمكننا القول بكل أريحية زياد الفنان متعدد الوجوه.

زياد ابن جارة القمر، والملحن الكبير عاصي الرحباني، ربما كان هو الأقل حضورا، نعم لم نشعر فنيا بوجود هذه الرابطة، لا يُذكر زياد الرحباني الفنان نسبة لأبيه أو أمه، فقط نسبة لنفسه، هو ليس الفتى الذي يقول هذا أبي أو هذه أمي، إنما هو الفتى الذي يقول هذا أنا.

ربما لست ناقدا فنيا لأنقد فن زياد أو لأتحدث عنه بشكل احترافي، ولكنني هنا أتحدث عن زياد الرحباني من منطلق المحب، والصديق، الصديق الذي لم ير صديقه أبدا، ولم يعرف عنه شيئا، سأتحدث عن صداقة من طرف واحد.

كما أنني لا أستطيع التحدث عن مسيرة زياد الفنية كاملة، لست أيضا الشخص الأفضل لهذه المهمة، لكن ما أريد الكتابة عنه هو تلك العلاقة الفنية الفريدة التي ربطت زياد الرحباني بجارة القمر فيروز.

قبل رحيل زياد بفترة قصيرة لفت نظري ذلك التعاون الفني البديع، والمشروع الغنائي الكبير، والذي كلل بعديد الأغاني البديعة، والتي تولى زياد تلحينها وتأليفها، وأضحت محطة شديدة الأهمية والمحورية في تاريخ الأغنية الفيروزية.

المفارقة أنني لم أكن من المتيمين بفيروز، لم تكن من مطربيني المفضلين، أستمع لصوتها باستحياء، وأهرب من أغانيها بخبث، يخترق صوتها العذب الذي لا مثيل له أذنيّ في طرقات مختلفة. أتحجج دائما بفكرة كليشيهية، وهي اللهجة اللبنانية التي كنت أقول أنها غير مفهومة بالنسبة لي، حجة واهية بالطبع، يمكنني القول؛ عذر أقبح من ذنب.

في المرة الأولى التي استمعت فيها لفيروز بشكل حقيقي، كانت مع الأخوين رحباني، أغاني مثل “رجعت الشتوية”، “آخر أيام الصيفية”، و”سهر الليالي” التي لحنها إلياس الرحباني الأخ الثالث لعاصي ومنصور الرحباني. كانت تلك بوابتي لجارة القمر، استمعت للأغنية الفيروزية الكلاسيكية عبر تلك الأغاني التي تأخذ من الفصول دورا محوريا، وتبقى فيها الضيعة والعائلة هي المرجعية.

أغاني تعالج الحنين، الحب، الفقد، وتتحسر على ضياع الحب والسعادة من بين أيدينا، ترسم الضيعة كرمز للبنان المثالية الجميلة، والتي لم تعد موجودة، تشدو فيروز بكلمات طابعها حزين، ولكن بلحن قوي راقص، وبصوت قوي يرسخ لتلك الأسطورية عن السيدة فيروز، الأسطورة التي صنعها الأخوان رحباني عن المرأة التي تحن إلى الماضي والمثالية، ولكنها تحتفظ بقوتها وجبروتها لأنها أسطورة.

لا أنكر بأي حال من الأحوال عشقي وحبي لتلك الأغاني، ولكنني في الوقت ذاته أقول إن سبب تحول فيروز من أحد المطربات التي أحب سماعهن من حين لآخر، إلى أحد أحب مطربيني المفضلين هو زياد الرحباني.

أتذكر ذلك الإحساس الأول لسماعي لأغنية “كيفك أنت؟”، حتى هذه اللحظة تأسرني تلك الكلمات والألحان مثل أول مرة، بل في كل مرة أكثر من ذي قبل. حول زياد صوت فيروز في تلك الأغنية إلى صوت ملائكي كأنه منزل من السماء، هنا فيروز أسطورة الأخوين رحباني قد تحطمت، وبنيت فيروز أسطورة زياد الرحباني.

المرأة القوية التي تغني للفراق والحزن بقوة وصوت جهوري قد ذابت لصالح امرأة عادية لا تغني الفلسفة الصريحة التي غنتها قبلا، بل تغني فلسفتها هي تشدو بالفلسفة المبطنة، هنا الغناء ليس عن الضيعة أو الفقد التراجيدي؛ هنا كل شيء بسيط، حتى الفقد. امرأة تسأل حبيبها بعد غياب وفراق طويل سؤالا يهشم كل التراجيديا المأساوية “كيفك أنت؟”.

أرى أسطورية زياد الرحباني أيضا في أغنية “صباح ومسا”، هي أغنية شديدة الشاعرية، وذلك رغم بساطتها وبساطة كلماتها، فقد حبيب وترك الحب، وأخذ الأسى، ولكنه بنفس الصوت الملائكي، التراجيديا تختفي أمام البساطة شديدة الفلسفية على أمل بعيد المنال في نهاية الأغنية، وهي تقول: “لعل وعسى أترك هالأسى، ويرجعلي حبي، صباح ومسا”.

قبل موت زياد بيوم واحد، بل قبل ساعات فقط، كنت أستمع لمجموعة الأغاني التي لحنها وكتبها لفيروز أمام البحر وقت الغروب، واستمعت بالطبع لأول تعاون فني بينهما، أغنية “سألوني الناس”، والتي لحنها زياد، وعمره تقريبا 16 عاما فقط.

وذلك عندما مرض عاصي، وتدهورت حالته الصحية، ودخل المستشفى بينما كانت فيروز تقدم مسرحية “المحطة” فكتب منصور الرحباني كلمات الأغنية:  “سألوني الناس عنك يا حبيبي.. كتبوا المكاتيب وأخدها الهوا.. بيعز علي غني يا حبيبي.. ولأول مرة ما منكون سوا”.

أغنية “سألوني الناس” رغم لحنها القوي الذي من الممكن أن نقول إنه لا يشبه كثيرا ألحان زياد لفيروز بعد ذلك، ولكنه يملك نفس الروح التي تسيطر عليه منذ المراهقة، ألا وهي الذاتية التي تناقش موضوع شديد الذاتية، ولكنه يخرج من الذات إلى العالم، يناقش الفقد الشخصي، ولكنه يتشعب ليناقش الفقد بصفة عامة، كما أن اللحن رغم رصانته، ولكن اللمحة الشخصية لزياد تظهر بشكل كبير.

أول ما تبادر لذهني لحظة سماعي للأغنية في تلك اللحظة الشاعرية، هو أنه لا يمكن أن يلحن شاب مراهق مثل هذا اللحن، إلا فقط لو كان عبقري بالفطرة، وهذا ما يؤكد أن زياد الرحباني هو امتداد طبيعي للأسرة الرحبانية، ولكنه فرع جديد أكثر عصرية وتفرد.

زياد لم يسر على خطى والده أو عمه كتقليد، بل سار عليه كفنان، ولكنه فنان أكثر ثورية وتمردا وتفردا، تمرد على أبيه وعمه وأمه معا، وصنع أسطورته الخاصة، وجدد الأغنية الفيروزية بروح عصرية، ووضع فيروز في قالب أكثر عصرية وبساطة، وفي نفس الوقت فلسفية.

تميز زياد بأسلوب موسيقي متمرد يمزج بين الموسيقى الشرقية الكلاسيكية وأنماط الجاز، البلوز، الفانك، وحتى الروك. استعمل المقامات العربية في توليفات غير تقليدية، وجمع بين الأنغام اللبنانية والإيقاعات الغربية، ما شكل نهجا جديدا في الموسيقى العربية، وبالطبع شكل قالب غنائيا جديدا لشكل الأغنية الفيروزية، وساعد صوت فيروز المتكيف البديع على نجاح موسيقى زياد الجديدة بشكل ساحق.

يمكننا القول إن ذلك التجديد الموسيقي في مسيرة فيروز هو علامة فارقة في مسيرتها، فصلا رحباني جديد، ولكنه فصلا له خصوصيته، جاء لفيروز في وقت شديد الأهمية ليضفي الطابع الحداثي على المشروع الغنائي الفيروزي، وليكون مدخل للأجيال الجديدة في سماع فيروز، وحب أغانيها.

فترة ارتباطي بزياد الرحباني ليست طويلة، ولكنني شديد الإعجاب بتلك الموهبة الطاغية، لقد فرض علي زياد بشكل ما أن أستمع لصوت فيروز في كل صباحاتي الكئيبة، قبل بداية أحداث اليوم الذي أعلم أنه سيكون شاقا ومتعبا لروحي، يجب أن أشغل أغاني فيروز حتى لو كنت منشغل في الاستعداد للخروج لمواجهة العالم القاسي.

بدأت بقائمة أغاني زياد مع فيروز، ثم أعدني ذلك لسماع الأغنية الفيروزية الكلاسيكية بشكل موسع، إنني مدين بالفضل لزياد في تلك الحالة الوجدانية التي أصبح فيها بالنهار، وأمسي بها في الليل.

رحيل زياد الرحباني أخذ نفس روح التمرد الذي صاحبه طوال حياته، رحيل مفاجئ كأنه تمرد جديد على الحياة، زياد لا يريد العيش في ظل تلك الظروف المحيطة بعالمنا، فقرر التمرد حتى في موته، أو كما كتب زياد نفسه في أغنية “الوداع”، والتي غنتها فيروز ” دايما بالآخر في وقت فراق!”

الجميع حزين على رحيل زياد، فقد فقدنا قامة فنية كبيرة موسيقار لا يأتي الزمان بمثله كثيرا، ولكن مع الوقت سيعلم الجميع أن الذي مثل زياد لا يقدر الموت عليهم، زياد الرحباني لن يموت، ربما يرحل الجسد ويواري الثرى، ولكن فنه باق إلى الأبد، فكلما ذكرت الموسيقى العربية، والأغنية اللبنانية، والفن الصادق سيذكر زياد الرحباني، وسنظل نسأل عليه، ونقول له “كيفك أنت؟”.

 

مقالات من نفس القسم

ناجي العلي فلسطين
Uncategorized
موقع الكتابة

رسالة