“زوربا” مترجماً عن اليونانية .. ذلك الذى لم يهزمه إلا الموت

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمود عبد الشكور

تستحق الترجمة الجديدة لكتاب "إليسكيس زوربا.. سيرته وحياته" للشاعر والكاتب الفذ نيكوس كازنتزاكيس، حفاوة خاصة، صدرت عن المركز القومى للترجمة لخالد رءوف الذى نقلها مباشرة عن اليونانية. باستثناء بعض الأخطاء المطبعية واللغوية ، وبعضا من التضحية بجمال وإيقاع العبارة الأدبية فى سبيل دقة المعنى، ستكتشف أهمية الترجمة عن الأصل، وسيدهشك أن بعض الترجمات السابقة عن الإنجليزية أو الفرنسية كانت مبتسرة، حتى الفيلم الأشهر الرائع الذى أخرجه يانيس كاكويانيس، وقام ببطولته أنتونى كوين، لم يبرز كل جوانب شخصية زوربا الفلسفية الثرية، وابتعد تقريبا عن حواراته الهامة للغاية عن الدين والسماء والآلهة والشياطين، كما بدت شخصية الشاب  فى الفيلم (الذى يمثل كازنتزاكيس نفسه) أقرب الى المتفرج، بينما يغوص الكتاب فى تحليل شخصيته وأزمته الروحية والعقلية، إنه نقيض زوربا على طول الخط، زوربا (وهو شخصية واقعية قابلها كازنتزاكيس) ليس مجرد رجل يرقص، ولكنه فلسفة حياة كاملة، إنه الإنسان البدائى الذى يعتمد على تجاربه هو وليس على ما كتبه الآخرون عن تجاربهم، بينما الشاب هو الإنسان المثقف الذى أثقله العقل وأرهقه التحضر، فتحولت الأفكار من وسيلة الى الحرية، الى أصفاد وأغلال، زوربا هو إنسان ماقبل الدين والمنطق، الإنسان الذى كان لا يفرّق بين الروح والجسد، الأكثر اتصالا بالحياة وبالطبيعة وبالأرض، الكائن المتمرد عن الآلهة والشياطين معا، هو (كما وصفه كازنتزاكيس عن حق) : "أكثر الأرواح إتساعا، أكثر الأجساد يقينا، وأكثر الصرخات حريّة".

تعيد هذه الترجمة الإعتبار الى خطورة النموذج الذى يمثله زوربا، وتكشف عن سر هذا التأثير الخارق لتلك الشخصية، السبب فى رأيى هو أن داخل كل منا زوربا صغير، يحاول أن يتخفف من أثقاله التى تكبّل إرادته، ولكن معظم الناس لا تمتلك شجاعة هذا العجوز، خمس وستون عاما كان عُمر زوربا عندما التقاه المؤلف الذى لم يكن يتجاوز عُمره الخامسة والثلاثين، زوربا يكتب بصعوبة، والكتاب الوحيد الذى قرأه هو قصة السندباد، ولم يعرف له بالضبط أى فائدة على حد قوله، أما المؤلف، الذى وافق على أن يصبح زوربا رئيسا لعماله لاكتشاف منجم للفحم فى كريت، فهو دودة كتب، حمل معه الى الجزيرة كتب وترانيم بوذا، وأشعار مالارميه، روعة ما كتبه كازنتزاكيس عن زوربا فى تلك التفرقة الحادة بين أن تعرف الحياة، وبين أن تقرأ أو تسمع عنها، سنعرف أن زوربا شبه الأمّى قرر أن يكون سندبادا بدلا من أن يقرأ عن السندباد، طاف مدن اليونان، ذهب الى روسيا وصربيا، كانت له عشيقات فى كل مكان، قاتل ضد البلغاريين والأتراك، فقد طفلا عمره 3 سنوات، صنع أسطورته وفلسفته الخاصة، تحوّل عامل المنجم الى منجم إنسانى لإعادة تعريف كل المسلمات التى قرأ عنها كازنتزاكيس فى الكتب، تحولت الألفاظ الميتة  فوق السطور الى حياة حقيقية، زوربا ابن الطبيعة والغريزة والحدس المباشر، إنه الإنسان المتمرد الذى لا يمكن ترويضه، ولا يهزمه إلا الموت، يمكن أن تعتبر التجربة بأكملها  إعلانا لهزيمة المنطق العقلى الخارج عن الحياة، أمام قوة منطق الحياة نفسها، قد لايكون زوربا هو الإنسان الكامل كما يراه المتزمتون ولكنه الإنسان الأقرب الى طبيعة البشر، والأقرب الى روح الحياة والعالم، ولذلك لم أستغرب أن يعتبره كازنتزاكيس فى مقدمة الكتاب الأكثر تأثيرا فى حياته جنبا الى جنب مع هوميروس وبرجسون ونيتشة.

أسوأ ما فعلته القراءة والمعرفة المكتوبة أنها أفقدت الشاب كازنتزاكيس القدرة على الدهشة، أما هذا العجوز، عاشق النبيذ والنساء، فقد كانت لديه ” البساطة المتجددة كل صباح بأن يرى كل شئ لأول مرة، ويمنح العناصر اليومية الأبدية عذرية خاصة، الهواء، والبحر، والنور، والمرأة، والخبز …. كان لديه قوة أخرى أقوى من الروح .. بل كان يهدم كل عائق: الأخلاق، والدين، والوطن .. هذه الأشياء التى كان الإنسان الجبان يمارسها بدأب كى يعبر دروب حياته الآمنة كالأعرج”، زوربا فى معناه الأعمق هو صدمة الحياة المباشرة، الإنسان على طبيعته بغرائزه وجنونه وطيشه، لم يكن لدي زوربا وقت بأن “يكتب” لأنه ببساطة كان “يعيش”، قال يوما للشاب : ” الذين يعيشون أسرار العالم ليس لديهم وقت لكى يكتبوا، والذين لديهم وقت،  لا يعيشون أسرار العالم”، كل القضايا التى احتار فيها الشاب، حلّها زوربا بضربة واحدة، تستطيع القول أن ابتعاد الشاب عن كتاب بوذا فى نهاية رحلته مع زوربا، ليس إلا تسليم واضح بأن نيرفانا زوربا الواقعية، أكثر اقترابا من معنى الحياة من نيرفانا بوذا التى تقهر الجسد، يقول كازنتزاكيس ملخصا لحظة التنوير التى نتجت عن تجربته مع زوربا:” تأكدت أن الروح هى الجسد، ربما الروح أسرع وأكثر شفافية وحرية، وكذلك الجسد هو الروح، ناعس قليلا، منهك من كثرة الترحال، يحمل عبء إرث ثقيل يحمله، لكنه يستيقظ فى اللحظات العظيمة، ينطلق، يستفيق، وتتحول مخالبه الى أجنحة”.

فشل زوربا فى أن يعثر على الفحم بكميات إقتصادية، وفشل فى أن يصنع مصعدا هوائيا معلّقا لنقل الأخشاب من الجبل، ولكن كازنتزاكيس اكتشف ما هو أهم من الفحم والخشب، عرف نفسه والحياة عبر زوربا، أدرك أن الحياة تحتاج دوما الى بعض الجنون، وأن الرقص ليس مجرد تعبير عن رفض الحزن ومقاومته، ولكنه إعلان على التمرد، ضربة القدم فوق التراب إعلان إرادة وثبات فى مواجهة الموت، تعلم كازنتزاكيس عن طريق زوربا أن الإنسان يصدق عليه أن تصفه بأنه روح عظيمة، مثلما يصدق عليه أنه مجنون، يصدق عليه أنه متوحش، مثلما يصدق عليه أن أكثر المخلوقات إثارة للرثاء، هكذا تحدث زوربا :” “هناك شيطان بداخلى يصرخ، وأنا أفعل كل ما يقوله لى، كلما انتابنى الحزن ينادينى:” أرقص” فأرقص، فينزاح عنى الحزن، فى إحدى المرات مات لى ابن، ذيمتريوس الصغير، فى خالقيذونيا، فإذا بى هكذا أقوم وأرقص، عندما رآنى أقاربى أرقص أمام رفاته، هرولوا نحوى وحاولوا منعى، “لقد جُنّ زوربا، راحوا يصيحون، لقد جُنّ زوربا”، لكن أنا، فى هذه اللحظة، لو لم أرقص، لأصابنى الجنون من فرط الألم”، وراء الرقص ألم وجودى هائل، يقول العجوز الذى طحنته الحياة:” هل رأيت أشرعة المراكب المرقعة بالأسود والأبيض وقد خيطت بخيط سميك فلا تنشق أو تقطع أبدا حتى فى العواصف العاتية ؟ هذا هو قلبى، له ألف ثقب وألف رُقعة، لكنه لا يُهزم أبدا ”

كل الشخصيات حول زوربا مقيدة إلا هو: العجوز الفرنسية ذات الجمال الغارب أورتانس مكبلة بماض لن يعود، عندما كانت فاتنة الملاهى فى الإسكندرية وإسطنبول وبيروت، وعندما كانت الجميلة التى يتنافس على قلبها قباطنة أعظم أساطيل العالم، والأرملة الحسناء مكبلة بجمالها المتوحش الذى دفع الجزيرة الى قتلها، وسكان الجزيرة مكبلون بعادات وتقاليد بالية عن الشرف والرجولة، والشاب صاحب المنجم مكبل بأفكار نظرية لم يختبرها بنفسه، وقام آخرون نيابة عنه باختبارها، ربما يكون الوحيد الأكثر قربا من زوربا، هو صديق الشاب الذى ذهب الى القوقاز لينقذ آلاف اليونانيين من الموت جوعا فمات هو بسبب الإلتهاب الرئوى، لقد منح نفسه للآخرين، ولكن مفهومه منحصر فى فكرة الوطن التى هجرها زوربا بعد أن حوّلته الى سفاح، وبعد أن جعلته وحشا يقتل ويحرق ويدمر، هذا الصديق لم يجرؤ أيضا على طرح أسئلة زوربا الوجودية الكبرى، لم يجرؤ أن يتحدث عن الآلهة والشياطين باعتبارهما وجهان لنفس العملة، لم يتسأءل عن معنى الموت، لم يواجهه مثلما فعل زوربا بشجاعة، ترك زوربا اليونان بأكملهابعد أن ودّع كازنتزاكيس، مقدونى هو مثل الإسكندر، ذهب ليعمل فى رومانيا وروسيا وصربيا، تزوج وهو يقترب من السبعين من فتاة صربية فى سن الخامسة والعشرين، أنجب زوربا طفلا صغيرا، أصبح العجوز أخيرا مالكا لمنجم، عندما حضره الموت قفز نجو النافذة ليلتهم الحياة مثل حصان جامح، تشبث بالنافذة وكأنه لايريد أن يموت، قال فى لحظاته الأخيرة:” لقد فعلت الكثير والكثير فى حياتى ولكننى أشعر أننى لم أفعل شيئا، بشرٌ مثلى كان يجب أن يعيش ألف سنة”. ترك لصديقه الشاب آلة السانتورى التى كان يعزف عليها، وترك له حلما لم يتحقق أبدا بأن يبنيا ديرا من نوع خاص، مكان بلا آلهة وشياطين، ولكن به فقط بشر أحرار.

كتاب زوربا هو فى جوهره رحلة بحث فلسفية من طراز رفيع، محورها الإنسان، وغايتها طرح السؤال، ومغزاها هو ألا تصبح أفكارنا عن الحياة بديلا عن أن نعيش الحياة نفسها، أن نكون أكثر تحررا، وألا نتوقف عن الحوار مع الكون ومع أنفسنا، أن نتواءم مع تناقضاتنا، كان زوربا يذوب فى دمعة امرأة، لايخلط أبدا بين العمل والمرح، عمل خزافا فأمن بقدرته على تشكيل العالم كله، إعادة صياغته وفق رؤيته هو، آمن باللحظة لا بما قبلها ولا بما بعدها، اكتشف آله هائلة مثل آلة العرض السينمائى اسمها الإنسان، تضع فيها خبزا ونبيذا ولفتاً، فتخرج لك تأوهات وتنهدات وضحك وأحلام، زوربا ليس شخصية بسيطة أبدا، إنه التلخيص الهائل لأسئلة الفلاسفة، والتجسيد الحى لنزق زيوس، وحكمة أثينا، تعلّم كازنتزاكيس من زوربا أن الحياة أكثر تعقيدا مما تبدو فى الكتب، وأن فيها من العبث ما يستحق أن نواجهه بالرقص والغناء والضحك والجنون المضاد، وفيها من القسوة ما يستحق أن نواجهه بروح إنسانية عابرة للقوميات وللأديان، يقول كازنتزاكيس فى كتابه الخالد: ” شعرت فى أعماقى أن السمو الذى يمكن أن يصل إليه الإنسان ليس هو المعرفة و الفضيلة، ولا الخير أو النصر، لكنه شئ آخر اسمى، أكثر بطولة ويأساً: الرغبة والرهبة المقدسة”.

زوربا ليس فى حقيقته إلا نحن وقد اخترنا وتحررنا واندمجنا مع الطبيعة وروح العالم، ليس إلا الإنسان وقد أصبح عالما موازيا مستقلا، لا يمكن أن يقضى عليه إلا الموت.

 

 

مقالات من نفس القسم