حاوره: محيي الدين جرمة
– صدرت لك مختارات شعرية عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، هل ضمت هذه المختارات شذرات من مجموعاتك السابقة، أم أنك اخترت ان تقدم نصوصا جديدة ؟
لا يمكنني تحديد الوقت الذي بدأت فيه الكتابة، لا توجد لدي فكرة دقيقة عن حدود البدايات، لكنني بدأت في يوم ما، وما كنت أظنه شعرا لم يكن كذلك بالتأكيد، احتفلت بنفسي رغم ذلك على النحو الذي بدوت فيه أمام المرآة ممسكا بجمرة الأبداع. بطلا حقيقيا. هناك اشارات تختفي وتظهر في الضباب، لا يمكن الاعتماد عليها اذا توخيت الدقة، لكني أتذكر العام الذي نشرت فيه شيئا افترضته في ذلك الوقت شعرا على صفحات جريدة اسبوعية غير رسمية، اقصد أنها خارج التصنيف الحكومي، اصدار خفيف لا يقترب من حساسية الخطاب السياسي و لا يخوض في القضايا الكبرى، لكنه في الوقت نفسه يكسر صرامة النشر و طبيعة اللغة والقضايا في الكتابات التي تظهر الصحف الحكومية. إدارة الصحيفة خصصت صفحة لاستقبال تلك الاوهام الصغيرة التي يرسلها مراهقون يظهرون بكامل الثقة والجدية والحماسة لقول شيء، حصل ذلك قبل اربعين عاما، ربما أكثر، في أثناء ذلك واصلت ممارسة الوهم، تحيط بي مجموعة من الأوغاد الصغار الذين امتلأت افواههم بالكلمات التي تنطوي على افراط بالتبجيل لما نكتب، نقرأ لبعض ونمتدح النصوص كما لو أننا قبضنا بالفعل على سر الشعر، رافعين شعلته في ايادينا بل في قلوبنا، ننتقد كذلك كأننا غواصون عرفوا مباهج التحليل وانكشفت لهم تضاريس التأويل. ثم غادرت العراق، انقطعت عن الكتابة وعدت اليها، حدث ذلك لمرات عديدة بسبب السفر الدائم، التوقف عن الكتابة هو معادل للبقاء، ومقاومة للموت جوعا او ضياعا، لكن الشعر كان رفيقا دائما رغم ذلك، لم يغادرني قط، شعرت في بعض الأحيان أني أكتب شعرا بالفعل، تتضخم الأنا حتى تحولت في داخلي الى نوع من الغطرسة، في احيان اخرى أواجه نوعا من الريبة فأرى الأشياء تسيل كما لو أنها اطياف او خيالات او أوهام، وكان السؤال المثير للقلق دائما، هل ما أكتبه شعرا، ام انه مجرد سطور على شكل فقاعات؟ ما هو الشعر أساسا، واين حدوده، كيف اصل للضفاف؟ وجدت نفسي محتفظا بعدد كبير من تلك الأشياء التي اسميها قصائد، الغريب أني لم افكر يوما بنشر كتاب، لماذا؟ لا أعرف، ربما لعدم ثقتي بما أكتب، او بسبب ارتيابي من جدوى منطقة الكتابة التي اقف عليها، ثم دخلتُ منطقة أخرى، الرواية، وجدت نفسي في عام 2008 اكتب نصا طويلا مرهقا، جاءني صوت من بعيد، صديق يعيش في المانيا، قال: أعجبتني الرواية، متى ترسلها للناشر؟ كان سؤالا مباغتا، صلبا، غامضا وغير مفهوم لي في ذلك الوقت، طباعة؟ لم افكر من قبل بطباعة كتاب، لا شعر ولا رواية ولا أي شيء، لقد سألت نفسي فيما بعد كيف لشخص يشتغل في الكتابة ولا يفكر بنشر كتاب؟ ثم عاد وطرح عليّ فكرة النشر، قال إنه سوف يتكفل بدفع تكلفة الاصدار. في هذه الحالة كان قد قدم لي نوعين من الإغراء، ان يكون لي كتاب، وأن يتحمل هو التكلفة، ارسلت المخطوط الى دار فضاءات الاردنية، قلت لهم: هذه روايتي الاولى، بعد شهر جاءني الرد، وافقوا على المخطوط، وهو نص جيد كما قالوا، عام 2010 صدرت (قلب اللقلق) كان الحدث اكبر مما اتخيل، غامضا، غير قابل للتصديق، اسمي على غلاف كتاب انيق، رواية من 170 صفحة، لم اصدق حينما ذهبنا انا وابنتي الصغيرة الى مكتب البريد القريب من منزلي، استلمت 200 نسخة، كارتون حملته كما لو أنه ريشة، فيما بعد وصلتني ردود افعال جيدة من العراق ومن أماكن اخرى، كتب بعض الاشخاص عن الرواية، مثل هذه الاشياء وضعتني في تكليف جديد، المضحك أن البعض أطلقوا عليّ صفة روائي!! روائي مرة واحدة، هكذا فتح لي هذه العمل مسارا آخر، حاولت أن اصدق بوجودي في هذا الموضع المربك، انشغلت بكتابة رواية أخرى، فازت بجائزة، فتراكم الشعور بالتصديق لدي، ثم فجأة وجدت نفسي اكتب القصة القصيرة، شيء غريب، غريب جدا لأن معظم كتاب الرواية بدأوا بالقصة القصيرة، اما انا فبدأت بالعكس، المجموعة القصصية وصلت الى القائمة الطويلة لجائزة الملتقى بدورتها الثانية، وحصل الكتاب على اهتمام واسع من القراء والاصدقاء، لكن رغبتي بإصدار كتاب شعري لم تفارقني، في كل عام أقول سوف أفعلها هذه المرة، لكني أصدر كتابا سرديا، رواية او مجموعة قصصية حتى تراكمت الاصدارات، ثم قلت: خلاص، سوف أترك أمر الشعر إلى الصدفة، لكني لن اتنازل عن طباعة كتاب واحد، واحد فقط، هو الاول والآخر. أجرى معي صديق يعمل في مجلة الشارقة حوارا، أحد الاسئلة يتعلق بالشعر، بإصدار كتاب، قلت لا أعرف، ربما لأن الناشرين اداروا ظهرهم للشعر، او أن لعنة ما هي المسؤولة هي التي تضع جدارا أمام رغبتي بإصدار كتاب شعري، بعد نشر الحوار، كتب لي الصديق الشاعر سمير درويش، قال: ارسل لي كتابك الشعري: جمعت نصوصا كتبتها خلال عشر سنوات، اعتبرت الأمر محاولة أولى وأخيرة، سيكون لي كتاب شعري، فرحت كما لو أني نشرت قصيدتي الاولى في جريدة الراصد قبل اكثر من اربعين عاما، هذا ما حصل بالضبط، صدر ( مخلص للريح) عن الهيئة المصرية للكتاب، كنت هناك في القاهرة، قلبته، فرحت به للحظات، ثم سحبت نفسا عميقا، قلت لنفسي أنه الكتاب الشعري الأول والأخير. لكن هذا التصريح لا يعني شيئا محددا، ما زلت اكتب الشعر، ومازالت النصوص تتراكم، ربما، اقول ربما افكر بإصدار كتاب آخر، اقول ربما ولا اعرف سيحدث مثل هذا الأمر أم لا!
– ما تكتبه في – رهان قصيدة النثر- هل يشذ عن تجارب عراقية وعربية مماثلة، وما كان معيار وحكم ذائقة اختيار منتخبات من اشعارك صدرت كمبادرة من هيئة عربية وليس من داخل العراق تحديدا؟
اصدار الكتاب الشعري، لاعلاقة له بمقاربة عراقية عربية في الاختيار، لقد اوضحت طبيعة الحدث الذي قاد الكتاب الى المطبعة لم يكن الأمر خاضعا لمعيار ما، في النهاية نحن نكتب، هناك الآلاف من الذين يكتبون قصيدة النثر، المصطلح نفسه منذ سوزان برنار، ومجلة شعر وتنظيرات أدونيس، مفهوم غامض، سائل، لا يمكن الامساك به، تنوعت خلال سبعين عاما طرق القول، حدثت معارك ومازالت من اجل الشرعية، لكن المصطلح نفسه لم يعد له الأهمية ذاتها، الانفتاح الكبير بظهور وسائل التواصل، المنصات المتنوعة، اختفاء مؤسسات الرقابة والوفرة في المطبوعات، جعل النص سهل وسريع الوصول الى القارئ، لم يعد يقف أمامه حاجز، الجميع يكتب بالطريقة التي يراها تناسب تصوراته عن جماليات الشعر في الشكل والمعنى، حتى لو كانت هذه التصورات خارج التاريخ المعماري والفلسفي لقصيدة النثر كما وضع مقاييسها الأوائل، بالنسبة لي ارتاب، اتردد بالتعامل مع صفة شاعر، قلت ذلك لمرات عديدة، افضّل دائما القول إني اكتب الشعر، انه تعبير مخفف ومريح، الشعر يبدو لي بلا ضفاف، بعيد على النحو الذي لا يمكن الوصول اليه وقريب في الوقت نفسه الى الحد الذي يمكن ان تجده في كل كلمة تكتبها، مازلت اكتب واحاول في كل مرة قول شيء ما، طريقة اخرى اتوهم انها هاربة من القفص، حسنا، الكتابة كما اعتقد هروب دائم نحو مناطق اخرى، ربما كانت وهمية، لكن هذه الحركة المتواصلة هي تعبير عن حيوية الاشتغال بالأدب بشكل عام، والشعر على وجه الخصوص، في النهاية لست منفصلا عن المساحة التي يتحرك فيها القول الشعري عربيا، احيانا ابدو يائسا، انقطع عن الكتابة لأني لا أجد نفسي في منطقة ذات اهمية من جانب ما، دعني اسميه التميز، الاخرون، اصدقاء يهتمون بما اكتب، لكن السيولة شملت كل حياتنا الآن، الاشياء تمر خطفا، لا شيء يستقر لفترة طويلة، تغيّر العالم، الكتابة بالطبع والتلقي، والنقد، لكن الشعر باق، مازال الكائن البشري يحتاج لصياغة المحيط بطريقة أخرى، صورة موازية لكنها تنفتح في داخله ليصدرها الى الخارج، الواقع ضاغط وثقيل ونحتاج الى معمار فيه خفة الخلق والخيال، أما هذه النزهة التي نسميها حياتنا اصبحت معقدة، نحن نحتاج الى الشعر كي نعود إلى طفولة العالم، الى البدايات، نوع من الحنين الدائم، او التطهر من رائحة الغرفة المغلقة، علينا ان نهرب لأن الطفل كبر كثيرا، صار غامضا، وتائها عن نفسه، هذا كل شيء
– تحتفي فضاءات غير محلية بنشر تنويعات من كتاباتك بين القصة والنقد والرواية، واسهاماتك كثيرة في النشر، والملتقيات الجادة، كيف ترى الى افق التجاور بين فعل الابداع و النشر والترجمة، ومدى تحقق جودة المعطى المكتوب؟
قد أبدو واهما، غير دقيق وغير واقعي، عندما اصرح في أن النصوص الجيدة، ومهما طال الوقت، سوف تجد لها متنفسا في النهاية، تخرج الى الضوء، تستجيب لها فئة من القراء، فتلقى الاهتمام، لقد حدث مع كتاب كثيرين أن لا أحد يعرفهم، لم يصل نصهم الى القارئ، لكن الصدفة، او الفرصة، او الحظ، او لا أدري ربما اصالة الكتابة وجديتها فتحت الطريق لهم، سواء محليا او على نطاق واسع، أما الملتقيات لن تضيف_ وهذا كلام مستهلك، بل وبديهيّ ربما_ لتجربة الكاتب، لكنها في الوقت نفسه لا تفتقر الى عنصر الفائدة، التواصل مع آخرين، التعرف عن قرب على تجارب جديدة، وقضاء وقتا ممتعا في اجواء احتفالية، ثم تسألني عن العلاقة بين الناشر والكاتب، كيف اصف شيئا معقدا وشائكا لا ينقصه سوء الفهم دائما، عربيا يبدو الأمر وكانه يحمل الكثير من الاسئلة الصعبة، هناك عدم ثقة، أو عدم فهم، هناك خطابان او تصوران لم يقتربا بالقدر الكافي لتبدو هذه العلاقة صحية وواضحة، الكاتب يطالب باحترام نصه وحقوقه والالتزام بعقد الشراكة، الناشر يقدم دائما التفسيرات، لكن الكاتب وبتحريض من عدم ثقة راسخ لن يصدقه، هكذا تجري الامور على الاغلب، لكن الأمر في اعتقادي مرتبط بسوء فهم من جميع الاطراف لثنائية التاجر والمثقف.
هناك نصوص عربية حلت ضيفا على لغات اخرى، نصوص قليلة على كل حال، معظمها فاز بجوائز، وجزء مما تقدمه الجائزة هي ان تكلف ادارتها مترجمين، و عقد شراكات مع دور نشر اوربية لنشر العمل، السؤال المهم هنا، ما أهمية ترجمة كتاب الى لغة اخرى، انكليزية او فرنسية او اسبانية على الخصوص، دون ان تجد هذه الترجمة قارئا؟ دعني اكون صريحا، الكتاب العربي المترجم لا يجد قارئا بهذا المعنى الواسع للتداول، ربما بعض المختصين، زرت خلال سنوات كثيرة معارض الكتاب في اوربا، بلجيكا وهولندا وفرنسا، الكاتب العربي لا يحظى باهتمام، الكتاب الاجانب بالحقيقة، ضيوف الفرنسية او الانكليزية، الأفارقة والاسيويين، ايضا، باستثناء بعض الاسماء المعروقة والتي حصلت على جوائز كبيرة، وعرفهم القارئ الاوربي، رغم ذلك لست ضد الترجمة، يفرحني جدا هذا النشاط الكبير للمترجمين الذين ينقلون الآداب العربية الى العالم، لست غاضبا، اعرف ان المركزية الاوربية طاردة للآخر، اخلاقيات المركزيات تعتمد على ثنائية المُنتِج والمُستهلِك، لقد تغير العالم حقا، لكن أثر هذه الاخلاقيات موجود، فنادرا ما يحصل ان يهتم القارئ الاوربي بكتاب خارج هذه القارة، يهتمون احيانا بالخطاب الادبي الذي يرضي تصوراتهم عن الآخر المصاب بالأمراض، امراض السياسة والجهل والعنف، يهتمون بالمأساة، يشعرهم هذا بتفوقهم ربما، الادب في النهاية، انتاجا وتلقيا خاضع لهذه المعايير، السياسة بالطبع، والاستشراق، وروحية التفوق، لكن للنصوص التي تفوز بجوائز ايضا، والتي تحصل على اهتمام اعلامي بلغتها الأم بدافع الفضول على الاغلب. هل ابدو هنا شخصا يبالغ، لا ادري لكني اعرف الكثير عن الكتاب العربي في أوروبا، حتى أن القارئ هنا لا يعرف إلا أسماء محدودة من الكتاب، القارئ بالمعنى الضيق وليس منطقة القراءة التي يتم فيها تداول الادب بشكل واسع.
– كثرت ورش الابداع، وغرف الحوار وتنشيط الكتابة عن بعد، هل يحتاج برأيك الادب الى كل ذلك، أم تراه كنتيجة طبيعية لتأثير وسائط الميديا في تيسير وتسيير الثقافي والكتابي كفعل قائم على الحضور و التنافس على الارجح؟ أعني ان ورش الكتابة باتت اشبه بمستودعات صيانة، ومحال ” كهرباء وميكانيك سيارات” لترميم بعض التشوهات، اوما قد يحدث نتيجة انقلابات وصدامات حوادث الطرق؟!
ينطوي سؤالك على اجابة واضحة، او انها نمطية على وجه الدقة. لكني رغم ذلك سوف احاول هنا معالجة القضية بشكل عادل، هناك انفتاح ليس له تخوم على كل شيء، مسارات لا يمكن السيطرة عليها، بمعنى عدم القدرة على تحديد النقطة التي ستصل اليها، الثورة الاعلامية التكنولوجية، افرزت_ وهذا طبيعي_ حزمة من الصلاحيات، والقدرات التي تنطوي في حركتها على تشوهات مثلما تحوي في صيرورتها على تحرير للكتابة بشكل عام من الاقفاص، بالطبع سيجد الكثيرون انفسهم في ما يشبه الفورة فيستجيبون لها، ينفعون للدخول الى ميدان الكتابة، هناك اغراءات كثيرة ومتنوعة، الشهرة، التجريب مثلا، كسر الملل، او حتى من اجل قول شيء ما داخل هذه الحلبة، او تحرير افكار وعاطفة لتظهر بطريقة لائقة. شكل يقترب من الفن اكثر من مجرد كلام عادي ، هكذا تبدو في بعض الاحيان الامور، ورش الكتابة مغرية من هذا الجانب، استجابة لهذه الرغبة والحماسة، وهي في ذاتها ليست امرا سيئا بالمجمل، غير الجيد في الامر هو الوفرة في العروض، سوء استخدام الفكرة على النحو الذي تبدو فيه وكأن المسؤولين عن تنفيذها، اصحاب دكاكين في سوق يبيع الاوهام، في النهاية لا تصنع مثل هذه المساحات التعليمية الوعظية أدبا، ربما تساعد على فتح ممرات لمن يجد في نفسه قوة ما، وهمية او حقيقية للقول، نحن البشر، وهذه طبيعة او جوهرا، نسعى للإفصاح وبطرق مختلفة عن اسرارنا وشكوكنا، نوع من الحيوية، او المشاركة، أو اثبات الذات داخل عرض وجودي يبدو غامضا ومحيرا، أحيانا توفر ورش الكتابة نوع من الطمأنينة المزيفة لمعظم المتحمسين للانخراط في فضاءاتها، سوف يكتشفون بعد فترة بسيطة أن القدرة على الكتابة بشكل عام لا تمنحها المدرسة، الورشة، ما تفعله هذه المناطق التعليمية، هو تقديم نصائح وحسب، وافكار لا يمكن تطبيقها بسهولة، لا تمش من هنا، اسلك هذا الطريق، افعل ولا تفعل، لكن الأدب هو مسيرة طويلة من التمارين المجهدة، القراءة المتنوعة في عملية من التجوال في حقول المعرفة تحتاج الى زمن، وهي قبل كل هذا اخلاص، ولا يمكن ان نستبعد كذلك الموهبة، على الرغم من اني لا أستطيع الاجابة على سؤال: ماذا تعني الموهبة؟ استطيع ان اقول بشكل بسيط، لا أعرف لكنها موجودة، دون احدد طبيعة هذا الوجود.
– في احايين قد يغدو التهور في السرعة، مغامرة غير محسوبة، والسير على طرقات توصف بالمتهرئة، تحيل غالبا الى مطبات كثيرة وتهدم لمسالكها، الا تشبه الكتابة اليوم حالا كهذه من التهدمات والتغيرات العكسية؟
يكتب لي اصدقاء شبان، شابات، في منح كتبهم، كتابهم الاول، شرعية كما لو اني قاض، ابتسم واقرأ بمحبة فلا اريد أن اخيب ظنهم، اعتذر غالبا عن تصدير المواعظ، لست سوى قارئ، اقول هذا بصرامة، ولا تتوفر لدي حزمة من الشروط او المعايير لتركيب النص باستخدام مقاييس أو مساطر، ما افعله عادة، هو ان اقترح على مؤلف الكتاب الاول ان يصبر قليلا، يراجع نصه، مرات عديدة، يمنح نفسه فرصة اخرى قبل الطباعة، الكتاب الاول هو الانطباع الاول للقارئ عنك، اقول لا تستعجل، اجد في كتابك اشياء جميلة، لكن تحتاج ايضا الى بعض التريث، على كل حال لا أحد يأخذ باقتراحي، هذا طبيعي انا اتفهم رغبة كل شخص في إصدار كتابه، سوف يحصل كما يظن على فرصة ليضع قدمه على السكة لكي ينطلق، يريد أن يقبض على صك الشرعية ليكون عضوا رسميا في المحفل، يريد ان يكون داخل السباق وليس مع الجمهور، في الميدان وليس خارجه، ينظر الى الجمهور بانتظار ردود افعالهم، ويحلم في اثناء ذلك بالتصفيق، بالنسبة لي لم أمر بهذه التجربة، لم اكن افكر أصلا قبل طباعة كتابي الأول بالنشر، لم اتحدث قط عن اصدار كتاب، في اجابتي السابقة وضحت هذا الأمر، لكني اعود لأقول ان العالم تغير بالفعل، وفرصة ان يكون أحدنا كاتبا اصبح امرا سهلا للغاية، اقصد أن يكون له كتاب مطبوع، أو نص في مجلة، او أن يدعى لمهرجان، بالنتيجة اتفق معك على المطبات التي ستحصل خلال الرحلة، لكننا نتعلم كذلك من تلك الفخاخ، والصعوبات، سوف يفهم الجميع أن السرعة لا تعني الوصولـ بل التأخير ربما. هناك استثناءات بالطبع، انها استثناءات في النهاية وليست قاعدة.
– كيف تنظر الى موقع الثقافة العربية اليوم، في ما تشي ملامح بعضها بتدفق حيزي واستهلاكي، تبدو من عناوينه كظواهر “صوتية” ومهرجانية،تحتويها فضاءات وتحليقات تصل بعض اجنحتها حتى “اسطنبول تركيا”،وغيرها من اراضي الشتات والنزوح؟
– في السياق،تميل كثير من الفعاليات الى اعتماد لافتات ممطوطة كبازار؛ باسم الشعر العربي و”جوائز”بلا قيمة،قد يعتورها الزيف الثقافي و الاعلامي بقصد الدعاية لجهات تعد متسابقيها في آخر المطاف ب” شهادات تقدير ودروع تذكارية” فحسب.؟!!
سوف اتعامل مع السؤالين بوصفها شقين لسؤال واحد يتعلق بالاستهلاك، حسنا، تبدو فكرة السيلان واضحة في كل شيء، الثقافة بالطبع والتي تحدث سيجمونت باومان بشأنها في كتابة المعروف، اسئلته الشائكة عن ماهية الثقافة ، عن شكل المثقف ووظيفته، عن النخبة ومشاريع التنوير، التي اصبحت ذا طبيعة سائلة في عصر ما بعد الحداثة، وهي قضايا يتم التعبير عنها واقعيا بصراحة ، نحن في مهرجان كبير، تتداخل فيه القيم، على النحو الذي فقدنا فيه القدرة على العثور على ماهو جيد وفصله عن المستنقع الذي يعوم فيه السيء، ولكن ما هو السيء، وما هو الجيد في النهاية، بأي مسطرة سوف نقيس، الشيء المهم هو ادراكنا ان الوقوف بوجه هذا التيار المتدفق لن ينفع شيئا، ربما يجعلنا راضين عن لنفسنا، لكننا لن نغير شيئا، الاستهلاك وتسليع كل شيء يسير بجنون وحماسة، الادوات متطورة وخبيثة، نحن نتفرج تقريبا على ما يحصل بأدوات قديمة، بمعايير لن تجلب للآخر سوى السخرية، الصورة السريعة، الكتابة الصحفية المثيرة، ( الخرابيط) المسماة شعرا، اللغة الفقيرة، وسطحية القول، ثم اخيرا (الشات جي بي في) هذا التدفق سوف يزداد ضراوة، بالتالي علينا النظر بواقعية لما يحصل، لقد تعرضنا نحن البشر الى اختراق وجودي واخلاقي، الماكينة المنتجة تنفخ بدون رحمة في وجوهنا كل شيء، الضروري ربما حسب شروط الاستهلاك وغير الضروري الذي لا يحمل معه معنى محددا للاستهلاك، الماكينة تضعنا في منطقة لا خيار لنا في الخروج منها. نستهلك بشهية فنكون داخل الحفلة، أو نقاوم فنبدو وكأننا مطرودون من الضوء، الفعاليات، المهرجانات، الجوائز التافهة هي جزء طبيعي من فكرة الاستهلاك، والثقافة العربية لن تذهب بعيدا عما تمر به الثقافة في العالم كله، نحن الذين نسكن هذه الارض باستثناءات بسيطة نتعرض لنفس القدر من الارتباك او اليأس او العجز، لست متشائما، لكني واقعي على ما اظن، أنظر للأشياء كما هي في الواقع، واعرف تماما قوة الماكينة، على الرغم من أني استطيع بدرجة ما عزل ما هو ضروري عن ما هو نفايات استهلاكية، لكني في النهاية لست في نقطة بعيدة عن موضع المتفرجين، وعن هؤلاء الذين يتمسكون بأليات وطرق يبدو أن فرصتها قد تضاءلت في فهم العالم.
– برزت في الآونة الأخيرة،شواهد ملتبسة في الثقافة، تقول انها تعنى بالادب، والنقد،هل يتعين برأيك اختزال النقد كرؤى كاشفة ومسابر للابداع بتجاربه وفنونه المختلفة الى ما يشبه” غرف عناية متخصصة في الرياضة البدنيةاو ” كمال الاجسام”؟
– عنيت ان استعراضا يتم بيافطات : (خبراء استراتيجيات الكتابة)،وتزعم تقديم وجبات شهية للمبتدئين،وهنا: ما حجم ما يقدم من معرفة في اساسيات الكتابة اليوم، وغير ذلك من رفع مستوى الجودة في الابداع،والادب بصورة عامة؟
– يعدك كثيرون ناقدا ادبيا نشيطا،وعينا على تجربتك اولا في جوانيتها: كيف ينظر زهير كريم، الى جدوى ورش الكتابة من عدمها،؟
أثارني توصيفك المتعلق بالرياضة البدنية، لا اعتقد ان النقد، تاريخيا استطاع ان يقوم بالمهمة على هذا النحو، لا يمكن في الأصل للأدب ان يكون في قاعة مثل هذه، وأمام مدرب معتد بخبرته في توجيه الجسم الى حالة الكمال، السياق في الاساس خاطئ، الادب سابق لخبرة المدرب، لقد قلت أن النقد رؤى كاشفة، نعم يليق به هذا الدور لأنه واقعي، وهو اكثر قبولا من كونه مدربا لبناء الاجسام، حسنا نتحدث عن النقد باعتباره شيئا محددا، الاكاديمي مثلا؟ لا بالطبع، لا يمكننا معالجة الأمر بهذه الطريقة، معظم التصورات في نظرية الادب، بقت محبوسة خلف اسوار الجامعات، والمؤسسات الأكاديمية والكتب التي لا يقلبها احد، هناك تجارب نقدية لأكاديميين لها اهمية كبيرة حتى الآن، لكن الامر ذهب الى منطقة اخرى، نحن نتحدث الآن عن النقد الثقافي ونظريات التلقي لكننا ايضا في مواجهة النقد الصحفي، وهو قديم كذلك، بل بديل منافس، وايضا الكتابة النقدية التي تعتمد الانطباع وفحص النص بشكل يعتمد على مرجعيات ثقافية محددة. عندما يتعلق الامر بي، سوف اجيب على سؤالك على الرغم من كوني بعيد جدا عن النقد او صفة الناقد، لي رغبة بالضحك، لست ناقدا، اقرأ الكتب وغير منشغل بوظيفة الناقد، روايات وشعر ومعارف اخرى، لا اريد ان اوجه القارئ الى منطقة تأويلي للنص، ليس هناك نص واحد، كل قارئ يحصل على نصه الشخصي من قراءته، هل احاول هنا هدم فكرة النقد من الأساس، لا، هناك تنوع في الرؤى النقدية، الاكاديمية هي جزء، لكن وجود تصورات اخرى بديلة ومنافسة وجديدة، هو أمر لا يمكن نكرانه، اما الظواهر هي امر طبيعي، منها ما يترك اثرا ومنها ما يختفي، نحن نركض يا صديقي، نلهث، لم نعد قادرين لا على التوقف ولا الاستمرار الذي يرافقه الفهم، لقد قلتها (ظواهر) وما لعالم سوى سلسلة طويلة من هذه الظواهر. اما استراتيجيات الكتابة التي تقترحها الورش، فهي خاضعة كما قل سابقا لهذه التحولات الحادة، القاسية وغير المفهومة لعصر السرعة، السيولة والاستهلاك، لكنها ليست سيئة بالمجمل، هي توافق مع التيار، اما المقاومون، لا ادعي انهم في وضع جيد، حتى مفردة مقاومة لا تبدو جدية، حماسية ربما وشعرية، لكنها ضرورية ايضا، على الاقل لتقوم بوظيفة المكابح في عربة العالم المتجهة للجنون.
– ككاتب متعدد الاهتمامات، وشخص لاتعوزه الموهبة في سبر نصوص وتجارب غيره، قارئ شغوف بانتقاء ونوعية ما يسبر او يطالع، اين تضع الكِتاب العربي اليوم، اذا ما اخذ برأيك في ضوء: التلقي والانتشار عالميا؟
اعتقد ان هذا النوع من الاسئلة، يخفي بالضرورة سؤالا يتعلق بالمقارنة، وضع كتابين في كفتي الميزان، غالبا ما تكون الكفة الاخرى هي الكتاب الاوربي، والامريكي بدرجة اقل، ولا نذهب بعيدا في ادب امريكا الجنوبية، اذاُ نحن امام مقارنة، لا اريد ان اقدم مرافعة هنا، لكن المقارنة غير عادلة لأسباب كثيرة جدا، دعني هنا استبعد الشعر، لان الشعر العربي بشكله الجديد متطور فعلا، لكن سوف اخصص الاجابة للسرد، الرواية بشكل خاص، تاريخيا، عمر الرواية الاوربية اكثر من 400 عام تقريبا، الرواية الحديثة، بينما الرواية العربية في مرحلة الطفولة. نحن لا يمكن في الكتابة استبعاد الخبرة والتراكم والتنظير والمنجز الفلسفي في كل الاحوال، الرواية الاوربية ابنة العصر الصناعي، وابنة عصر النهضة قبل ذلك، ابنة المدينة الصناعية ذات العلاقات المعقدة، وهذه البيئة هي التي شكلت الرواية ثقافيا واجتماعيا وسياسيا، انت تسأل عن التلقي والانتشار، تقصد وصول الرواية الى العالمية من خلال الترجمة، لقد قرأنا ادب الاوربيين، لكنهم لن يحاولوا قراءة الادب العربي، لقد حصلت زحزحة بسيطة في فكرة التلقي والانتشار، لكنها مناسبة وطبيعية للأسباب التي اوردتها هنا، هناك تجارب سردية مهمة بشكل فردي، لكن الانتشار يخضع لشروط اخرى، ما هو مهم في رأيي هو تشكل هوية سردية عربية، نحن نعرف ان رواية امريكا الجنوبية لها هوية، الرواية اليابانية، اعتقد أن المرجعيات الثقافية لكلا المنطقتين قريبة من التحولات الاوربية، بسبب الدين، السياسة، والتجارة، نحن لم نخرج من العصر الاستعماري إلا قبل نصف قرن، لم تتشكل لنا هوية ثقافية بشروط الحداثة لحد الآن، وعلى الرغم من وجودنا في قلب التقنية، استخداما وربما انتاجا بشكل بسيط، مازلنا نفتقر الى العقل الحداثوي، والذي يمكننا من خلاله عقد المقارنات، في المنتج الثقافي، الادب والذي يعيش مرحلة الاستهلاك، التقليد، لا اتحدث من قوقعة، لقد قرأت الادب العالمي، الاوربي، ادب رصين لغة وتقنية وافكارا، لكن الرواية العربية مازالت في البدايات، كتشكل سردي له خصوصيته، وملامحه.
– هل ينمو الابداع، بالنقد كأثر ايجابي ورؤيوي ومًعلِم، ام ب” بالطبطبة” كما قد يحدث غالبا، وكيف ترى جوهر العلاقة هنا من وجهة منصفة؟
الاجابة هنا تبدو واضحة، لكن الأمر ليس كذلك بشكل قاطع، انت تفترض مرة اخرى ان النقد الادبي مدرب لكمال الاجسام، وهو نفسه الذي يراقب الحركات والوقت، مازلنا على المستوى العام غير قادرين على تبني الخطاب النقدي بشكل عام كطريق للتغير نحو الأفضل، لن نستطيع بدون عقلية نقدية جريئة معالجة الاخطاء، لا يتعلق الامر بالأدب فقط، بل في كل السياقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وحتى على مستوى العلاقات متنوعة المصادر الثقافية، ومن المؤكد ان النقد بكل طروحاته وتشكلاته والذي يعتمد على مديح النص، لن يقدم شيئا، لكني ايضا مرتاب من الجهة التي تملك المعايير الدقيقة والصارمة لتحدد الخطأ، مرتاب من الصرامة بوصفها قالبا، افكر احيانا ان النقد قليل الحركة، ثقيل، صلب في الوقت الذي يجب ان يعالج هذا الضعف لكي يفهم ما يحدث من تحولات في النص الشعري او السردي، هناك قيم نقدية، تشبه المثل العليا، التمسك بها يجعل العلاقة بين النص النقدي والنص الآخر الذي يشتغل عليه، علاقة متوترة، فيها سوء فهم وعدم ارتياح، المشكلة في اعتقادي، ان يخفف النقد من ثقله، ان يفحص في كل مرة ادواته، لكي يعرف مدى صلاحياتها للاستخدام، ليس من المقبول قطعا، ان نشرح نصا بأداة صنعت قبل مائة عام، في الوقت الذي حدث تطور في الشكل والوظيفة على هذه الأداة لمرات عديدة. خاصة بعد الحضور المكثف للدراسات الثقافية بوصفها بديلا للنقد الادبي كما يبشر بها الكثيرون.
– تتوزع لحظات اشتغالك في الكتابة للتتجاور بين: القصة والرواية والقصيدة،حد الاندماج، لا التنافر البنائي،كما في مزيج بعينه يجده قارئ اعمالك مبثوثا هنا وهناك وبالخصوص في توظيف جملتك الشعرية في كتابة السرود؟
دعني اتخيل الامر على شكل ينبوع، يفور الماء منه ثم يتسرب باتجاهات مختلفة، ومع الحياة الجديدة لتلك الخيوط السائلة، تتشكل طبائع اخرى، لون اخر، هناك التربة الحمراء او السوداء، تنوع الحصى والنباتات، السرعة والبطء، لكن الماء هو نفسه، هو جوهر هذه الطبائع، هكذا تأخذ الاشكال في الكتابة طبيعتها، لكنها تحتفظ بسر الينبوع، الشعر هو ذلك الينبوع، عندما اكتب بالقصة لابد للشعر الذي رافقني زمنا طويلا ان يفصح عن طبيعته، في الرواية، المسرح وادب الرحلات، والسيناريو حتى، ربما لأني اكتب اكثر من نوع ادبي، وفي وقت واحد، لكني غير منزعج من الامر، عندما صدرت روايتي الاولى، قبل لي، لابد ان تتخلص من الشعر، من البناء، قلت نعم ، كنت تلميذا، ثم تعلمت، وعرفت خلال خمسة عشر عاما، كيف اخبئ الشعر في الرواية او القصة، أنها حكاية عن النهر المخفي فوق طبقة من الثلج، القدم التي تسير على السطح وحدها من تشعر بخريره، الشعر هو النهر حتى لو كان مخفيا، والذي لا ينقطع خريره في كل شكل ادبي، هناك جملة شديدة الابتذال، الشعر هو الكون، عالمنا مبني في الاساس من حجر الشعر
– ثمة ما يبدو انه تصالح اجناسي متناغم، تؤثثه تجربتك واسلوبك في الادب بانواعه،اذ تبدو شغوفا بخيارات التلقي ، والكتابة النقدية الكاشفة والمحبة لجنس ما تقرأ،؟
لست ناقدا بالتأكيد، اكثر اكثر من اربعين عاما، ربما، اقول ربما تمنح القارئ قدرة على الغوص بعيدا في النصوص، ما أفعله ببساطة هو أني احاور الكتب التي اقرأها، ابحث غي طبقاتها المخفية عن شيء ما، هناك سطح للنص يستطيع أي قارئ ان يسير عليه ويتفاعل معه بانسيابية، لكن النصوص تتشكل من طبقات عديدة، القضية تتعلق باللغة، وباللاشعور، بالإسقاطات النفسية، بالأنساق المضمرة ربما، القارئ الجيد كما أظن هو غواص وليس شخصا يعوم على وجه الماء، لست ضد السباحة، فهي متعة، لكن الغوص عملية كشف لا تخلو من متعة مضاعفة، هكذا ابدو امام نفسي وانا اقرأ، احيانا يعجبني ان اشارك اصدقائي ما اكتشفته، لست مفسرا، وبالتالي لا تعني القراءة، اية قراءة الوصول لمعنى النص الحقيقي، لا حقيقة في أي نص، كل نص له العديد من الوجوه، او العديد من التأويلات بعدد مرات القراءة، وبعدد القراء، إذًا هي كتابة نص على نص، حوار، شراكة، ونحن هنا تماما في منطقة تتحرك فيها طروحات التلقي، القارئ هو الشريك، ولا يوجد نص بدون قارئ.
– التنوع الاجناسي برصيدك التراكمي في الأدب،يمتد لبضعة عقود،ويميز تجربتك بالتعدد والحيوية كسمة ديمقراطية في الكتابة،هل تتقصد مثل هذا الفعل لأجل المغايرة والاختلاف؟
في حوارات عديدة، قلت ان وجودي في منطقة السرد جاءت بالصدفة، او ربما الحاجة الغامضة لطريقة قول مغايرة للهروب من النمطية او الابتذال، اكتب الشعر لسنوات عديدة، لم افكر في ان اخوض تجربة مغايرة، ان اقترب من الانواع المجاورة، ثم جاء الوقت الذي شعرت بحاجة حقيقية وضاغطة للتعبير عن تجربة ما ولكن باسلوب آخر، بلغة مختلفة وبناء يمحو جزءا من القديم، او عمارة بواجهة جديدة على الاقل، ثم خضت تجربة الرواية، لن ادعي ان الأر حدث بقرار ينطوي على شجاعة، لا، بخوف كبير، هذا الخوف سوف يلازمني دائما، يرافقني مع كل منطقة جديدة اجد نفسي بحاجة لدخولها، ثم استهوتني في ظروف غامضة، او ربما بتحريض من تجربتين روائيتين، ان اكتب القصة القصيرة، هل تعرف أني لم اشعر بشغف الكتابة إلا في حقل القصة القصيرة، لقد غمرني شعور بأني هنا، المكان الذي كان يجب أن اكون فيه من زمن طويل، لكني لم اترك الشعر بالطبع، واصلت الكتابة بشكل متجاور، الرواية والقصة القصيرة والشعر، ثم دخلت بالصدفة حقلا آخر، أدب الرحلات فأصدرت (اغاني الرمل والمانجو) تجربة شخصية مليئة بالغرابة والدهشة والحب والشجن، لكن الخوف في كل مرة كان رفيق الرحلة، كتبت سيناريو مثلا لفلم (أنميشن) ثم بشجاعة كتبت النص المسرحي، نص واحد سوف ينفذ على المسرح في بلجيكا، مغامرة احببتها جدا، لكن التجربة الاكثر إثارة هو الكوميكس، لدي صديق فنان يعيش في سويسرا، طرح الفكرة فوجدت نفسي متحمسا لإنجاز سيناريو بيوغرافي ليكون رواية مصورة، الكتاب سوف يصدر بالألمانية واتمنى ان يصدر بالعربية، اشتغال مبهج وجميل، اذن، لا أعتقد ان الامر هو رغبة بالمغايرة والاختلاف، لكنها حاجة لتنويع طرق القول، وهذا التنوع كما اختلف، سوف يمنح فيما بعد تجربة الكاتب الكثير من الثراء، اقول دائما ان الامر يشبه البستان، اشجار كثيرة متجاورة، ومتنوعة، ما عليك سوى الاقتراب من الشجرة الجارة، وسوف تكتشف طعما اخر، وتحصل على كشف جديد واسرار جديدة تمنح تجربتك السابقة عمقا وحيوية
– في نصوصك تتنافذ حدوس القراءة لغة واسلوبا وبصورة زاهدة،اشبه بهدوء عزلتها،ولعله هدوء قد لا يتوافر نسبيا في لتجارب اخرى الا قليلا ؟
من الطبيعي ان ينطوي النص، أي نص عن مرجعيات القراءة، نحن نعالج في محتبر الكتابة ما تناولناه من زاد معرفي منحه لنا الآخرون، ولابد ان تتشكل نسيجة كل نص من خيوط بالوان ومواد متنوعة، حين تكتمل النسيجة النصية، لن يصعب على القارئ الجيد الكشف عن ينابيع النص القريبة والبعيدة، عن الآباء الذين تعاضدت خبراتهم وتصوراتهم وتقنياتهم لكي يمنحوا النص الجديد ما يجعله مائدة عامرة، في البداية كنت اقرأ كل شيء يقع بين يدي، هذا ما يحصل عادة عند المبتدئين، فترة الصبا والمراهقة والشباب الأولى، قرأت الفلسفة ولم يكن بمقدوري فك شفرات النصوص المغلقة، أحصل على القليل لكني واصلت الرحلة رغم ذلك، قرأت في علم النفس، التاريخ، وحتى علم الانسجة والفيزياء والادب طبعا بكل حقوله، ثم التصوف والعقائد، والاحكام الشرعية، اعتقد ان الكتابة عملية معقدة، لا ادري، هل يبدو هذا الكلام حماسيا ومبالغا فيه، لكن التعقيد بالفعل يجيء من الكيفية التي تمتزج فيها الاخلاط المعرفية كي تشكل تصورا جماليا للكاتب، فيكتسب بعد التجانس الثراء والعمق، في النهاية، توجد نصوص تبدو بسيطة، لكنها لذيذة ومبهجة، مرجعياتها الوجدان، والتجارب العاطفية العميقة، هي معارف انسانية ايضا، اساسها اللاشعور والحواس، الانتصارات والخسائر.
لكن المعارف العميقة ليست شرطا بالضرورة لصنع نص جيد، ولا التجارب الوجدانية الشخصية التي تبدو عادية او مبتذلة لا تمنحنا النصوص تتوفر فيها ابعاد جمالية مؤثرة، في النهاية نحن نسعى جميعا لاختبار مهاراتنا وتجاربنا ومشاعرنا وتصوراتنا عن العالم، نبحث عن شريك في نشر النصوص، ولا يمكن لنا ان نعطي اكثر مما لدينا. العزلة ليست خيارا مترفا، بل هو تحريض لما زرعته فينا تلك التجارب العميقة عن الوجود، الزهد كذلك سوف يرافق اشتغالي بالكتابة لأنه انا، لا أريد أن ابدو من النوع الذي يستعرض أناه بإفراط، لكن تجربتي في الحياة بشكل عام فيها شيء كثير من الزهد، اقصد أني غير متطلب، يتعلق الامر بالطعام واللباس والنزهات، ليس لدي شعور بالأسى لما يملكه الآخرون، ولست شغوفا بالملكية بشكل عام، لا اسعى لمقام يمنحني فرصة للهيمنة او اصدار الاوامر، ما هو مختلف وشاذ عن طبائع الزهد، هو الكتابة، اشعر بعدم الرضا، وافكر بطريقة المتطلب جدا، افكر بالوصول لشيء آخر طوال الوقت.