زهرة ستراند.. عندما تفقد وسط البلد أكثر من مجرد مقهى

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمود عماد

القاهرة مدينة غير كل المدن، ليست مجرد بنايات وشوارع، إنما هي روح مصر، المعبرة عنها، وعن هويتها. قلب القاهرة هي شوارع وسط البلد، أو ما يعرف بالقاهرة الخديوية، لكن مسمى وسط البلد انتصر على انتساب المنطقة للخديوي الذي أراد باريسا مصرية، وحصل عليها، وكلفته حكمه.

في سياق آخر يمكننا الحديث عن الخديوي إسماعيل الذي حلم بجعل مصر قطعة من أوروبا، أرادها فرنسا التي رأها وهوسته عمارتها وأبنيتها.

حلم بأن يحول بلده التي صدق كونها درة هذا الشرق إلى الطراز الأوروبي، ولأن الأحلام تقتل أصحابها قتله حلمه، ولكنه بشكل ما حول قاهرته للشكل الأوروبي الذي أراد.

ما يهم الآن ليس الملوك والحكام، بل الإرث، رحل الخديوي، ورحلت أسرة محمد علي كلها، وبقيت وسط البلد درة إنتاجهم المعماري، لكن هذه ليست كل القصة، وسط البلد لم تكن يوما مجرد بنايات جميلة مبنية على طابع أوروبي مزخرف.

وسط البلد مليئة بالتاريخ، بالحكايات، بالبشر، هنا أصبحت الأماكن تراثا حيا لأن المعمار امتزج بالروح فأعطى هذا الطابع الوجداني للمكان.

من هنا يمكننا القول بأن أقل المباني التي تخطر على البال يمكنها أن تصير من معالم المدينة، لأنها تعبر عن هويتها؛ لذلك اكتسب خبر إغلاق مقهى زهرة ستراند هذا الزخم الكبير.

انتشرت الأخبار التي تقر بنهاية عصر المقهى الفريد، بيع زهرة ستراند إلى أحد تجار النظارات، في مفارقة تبدو غريبة، لكن المطلع على طبيعة المكان سيجد أن الوضع طبيعي بعض الشيء حيث يواجه المقهى العديد من محلات النظارات، والتي تعد منطقة الفلكي سوقا لها، حيث وعلى ما يبدو “بتكسب جامد” كما وصف أحد العاملين بستراند.

يرى البعض أن إغلاق زهرة ستراند أحد فصول الصراع بين الرأسمالية ونزعتها إلى المادة والمكسب، وبين الجمال الحقيقي البسيط، ويرى آخرون أنه تكملة للتغير المعماري الذي يصيب وسط البلد.

أيا كان وجه الصراع، فإن إغلاق المقهى الذي ظلت أبوابه مفتوحة لأكثر من نصف قرن هو خسارة كبيرة، الخسارة لرواده، وللمنطقة كلها.

منذ ثلاث سنوات تقريبا، وهو ما يمكن وصفه بأنه ليس بالوقت الكثير مقارنة بعمر المقهى، أصبحت من مرتادي المكان، لقاء مع أحد الكتاب الذين أحب، وهو طارق إمام كان هو لقاء تعارفي الأول مع زهرة ستراند.

اتفقنا على اللقاء هناك بعد رجاء مني، دعاني لمقهى يدعى زهرة ستراند، وهو العارف بوسط البلد منذ سنوات، وأنا لم أعرف المكان حتى أنني ذهبت مسترشدا بخرائط جوجل.

منذ اللحظة الأولى لي بين جدرانه جذبني المكان إليه، جلسنا في الجزء المطل على الممر، رغم البساطة لكن المكان به روح عجيبة تأسرك.

كراس خشبية، وطاولات رخامية بأرجل معدنية، وأكواب زجاجية تُسكب بها المشروبات، الشاي بالنعناع الذي يعد من معالم المكان يطغى برائحته الزكية على الأجواء.

العاملون بالمقهى يرتدون ملابس موحدة تقريبا تنم عن النظام، وصوت إذاعة الأغاني لا يكف عن ملء المكان بأغاني أم كلثوم، عبد الحليم، عبد الوهاب، عبد المطلب، وغيرهم الكثير من مطربين الزمن الجميل.

لوحات الخط العربي للفنان محمد العيسوي تزين الجدران لتعطي طابعا فنيا بجانب الزخارف المنقوشة. لا مكان للجلوس خارج المقهى نفسه مثل بقية المقاهي، فقط عند الممر، وتوجد أيضا الواجهة المطلة مثل الشرفة على الشارع الرئيسي، شارع التحرير حيث تبعد خطوات عن قصر عابدين.

حتى التلفاز لا وجود له، فلا متابعة مباريات كرة القدم، ولا مسلسلات أو أفلام، فقط المقهى، وأجوائه. رواد المقهى كانوا مختلفين، لكنهم بشكل ما تشاركوا حب المكان، وتشاركوا حسا مختلفا لتقدير الذوق الراقي.

في زيارتي الأولى حصلت على توقيع خيالي من طارق إمام على روايته الآسرة “ماكيت القاهرة” كانت هي أول تعارفي بكتابته، وزهرة ستراند أول تعارفي بشخصه.

نشأت بيننا علاقة صداقة، وربما تلمذة أعتز بها، ودار بيننا حوار طويل عن كل شيء يخص الكتابة والأدب والفن بشكل عام، شاركنا فيه أحد الأصدقاء الذي لم أعد أعرف أين أراضيه الآن.

ارتبط المكان في ذلك الوقت بالنسبة لي بطارق إمام، التقينا فيه بعد ذلك، وظللت كلما مررت به أو جلست فيه لوحدي أبحث عن إمام، الذي كان من أوائل الذين علموني حب وسط البلد، وأخبرني بأسرارها وأماكنها.

لم أكن من مرتادي المقاهي بكثرة، أجلس فيها، لكن دون ارتباط بأي منها، وعند ستراند تغيرت المعادلة، وعلى مدار السنوات الماضية أحببت المكان والعاملين به وأجواءه كلها، وصرت زائرا دائما كلما سنحت الفرصة لي.

آتي مشيا على الأقدام ممارسا رياضتي المفضلة، وهي المشي في شوارع وسط البلد متمتعا بجمالها، ومحاولا الإمساك بروحها العصية على السيطرة، أترك جميع المقاهي في طريقي التي لا تألفها روحي إلى زهرة ستراند.

في ليال كثيرة يزورني الأرق حتى يغادرني النوم بلا رجعة، عندها كنت أذهب لوسط البلد مع بداية طلوع أشعة شمس الصباح أتمشى في شوارعها الهادئة الفارغة من كل حياة، لعلها تعزيني قليلا عن قسوة الحياة.

بالطبع كنت أذهب لستراند، أشتري الجرائد أقرأها هناك، وأتذكر عندما كنت أشتري الصحف التي أكتب فيها، وأذهب للاطلاع عليها بداخله، كما كانت القراءة بشكل عام رفيقة لي في جلساتي بالمقهى، وعندما استعصت الكتابة علي في وقت ما فتح لي ستراند أذرعه.

في الفترة الأخيرة منعتني بعض الظروف من التردد على المقهى، ثم عرفت بالخبر الذي أدخل عليّ حزنا كبيرا لم أتوقعه، كان الخبر مفاجأة غير سعيدة، ورحت أقول لنفسي: هل حقا سيغلق؟

ذهبت في اليوم التالي لأودعه، وتأكدت من الخبر من العاملين به، المقهى سيغلق للأبد، المكان الذي قضيت فيه أوقاتي قرأت، وكتبت، وقابلت الأصدقاء فيه سيذهب، الجدران التي احتوتني في أحوالي السيئة لن تعود لذلك مجددا.

التقطت لنفسي بعض الصور، وللمقهى أيضا، اعتدت أن التقط صورا لي هنالك في أوقات كثيرة بوجه جامد، وفي بعضها الآخر بوجه يحاول الابتسام، والتغلب على النفس الكئيبة. هذه المرة كان وجهي نصف مبتسم، ونصف جامد كأني أردت أن تكون صورتي الأخيرة في ستراند مزيجا من ذكريات جميلة، ووداع حزين.

ستتحول تلك الصور وسابقتها إلى ذكريات مجرد مشاهد في ذاكرتي عن أيام جميلة رغم ثقلها، وعن مكان يشبهني لم يستطع المقاومة أكثر من ذلك، ليذكرني أنا وكل من ارتاد وأحب المكان أننا عشنا يوما ما.

زهرة ستراند ليس مجرد مقهى، بل هو شاهد على العصر، جزء من تاريخ وسط البلد، هنا اجتمع أناس على مدار عقود، وهنا جلس فنانون ومثقفون كبار، وهنا جلست، احتفلت بمقالاتي الأولى، وكتبت جزءا مهما في أولى رواياتي.

إغلاق المقهى هو نهاية فصل جميل وشاعري من تاريخ منطقة وسط البلد، التي كان زهرة ستراند مرآة لها بشكل ما، وهو أيضا طي لصفحة جميلة من ذاكرة رواده ومحبيه، الذين سيرون جزءا من ذكرياتهم يمحى أمام أعينهم.

 

مقالات من نفس القسم