روح غاندي في جسد امرأة

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

د. سيد ضيف الله

في عالمٍ تفوح من كل جنباته رائحة الموت، وتثمر الكراهية بين البشر حقولاً باتساع المدى، ويتغنى الصبية بأناشيد العنصرية التي يؤلفها ويلحنها رجالٌ أقوياءٌ ونساء قويات أو مستقويات برجال، في عالمٍ مثل هذا لا مكان لمثل غاندي. هل كان ظهور غاندي يومًا بين البشر داعيًا لمقاومة سلمية ضد أعداء الحياة وأنصار الموت خطأ تاريخي لا مجال لإعادة إنتاجه سوى في القصص والروايات؟!

عزة رشاد قاصة وروائية مصرية تسعى من خلال مجموعتها القصصية (حائط غاندي) لإعادة إنتاج خطأ التاريخ في القصة القصيرة. لا تكتفي عزة بعدد من القصص التي يحضر فيها غاندى من التاريخ ليسكن السرد، إذ لا تفوت فرصة دون أن تبث روح غاندي في كل سطر تكتبه، إنها مجموعة قصصية مكتنزة بمشاعر وأحلام وآلام إنسانية يزيدها الوعي بآلاعيب التاريخ وحيل البشر قدرة على التأثير على القارئ ليجد نفسه متورطًا مع عزة في تفكيك التاريخ وتوزيع لحظات مفصلية فيه بحسب منطق السرد الذاتي لا منطق التاريخ الغيري. وبمجرد التورط في توزيع تلك اللحظات يتشكل نسيج بشري من شخصيات أتت من أزمنة مختلفة لتحاور راوية لا يمكنها أن تعيش في هذا العالم إلا بقلب غاندي؛ إنه القلب الذي يمثل حائط الصد الأخير ضد حقول الموت المترامية الأطراف والسريعة الانتشار والقادرة على حصد الحياة بسهولةٍ لم يعرف لها التاريخ الإنساني مثالاً من قبل!!

“حائط غاندي” مجموعة قصصية بها 22 قصة قصيرة بينها  سمات مشتركة لا يخطيء القارئ في التعرف عليها؛ ففضلاً عن وجود رؤية للعالم تستند لنزعة إنسانية ينطلق منها المؤلف الضمني والكاتبة عزة رشاد نفسها، نجد أن تلك النزعة الإنسانية تصحبها مساءلة للذات في مواجهتها للعالم الدامي مما ينعكس بوضوح على حضور ملحوظ لضمير(الأنتِ) ضميرًا للراوية، ويشاركه الحضور أحيانًا ضمير الأنا حين تكون المساءلة بين لحظة تتبدى فيها الأنا في مواجهة الأنتِ مثلما في قصة ( قطار)، حيث تُحاط الراوية الشابة بسياق لا أمان فيه لجسدها من التحرش الذي يدفعها لأن تستعيد حادث اغتصابها وهي طفلة على يد زوج أمها فتلتقي لحظة استدعاء الحادث من الذاكرة مع لحظة إعادة إنتاج الحادث نفسه مجددًا أمام عينيها حين تترك أمٌ طفلتها على المقعد وتذهب للحمام فيجلس رجل بجوارها ليعبث بها ثم يهرب فتنفجر الراوية في وجه الأم قائلة ما لم تقله لأمها التي ستذهب بعد قليل لمقابلتها ومواساتها في دفن زوجها الذي صار منقوشًا في ذاكرة الطفلة الراوية بالدم، وقد تكون المساءلة للعالم في شكل مواجهة بين ضمير المخاطبة (الأنتِ)  وضمير الغائبة (هي) اللتين تجمعها لحظة انكشاف للحقيقة، مثلما في قصة (قبعة وبدائل أخرى) والتي تعيد طرح سؤال مفهوم الأنوثة في مجتمع يسوده الفكر الرجعي الذي يصل لذروته مع وصول السلطة السياسية المستبدة لاكتشاف خطير؛ وهو أن شعر الأنثى أداة تعذيب للنساء الثاىرات في الميادين ومن ثم يعتمد شعر المرأة أنجع الوسائل لفض المظاهرات!! وهنا يكون قد حدث انفصال بين ماضي الراوية وحاضرها، فالميدان الذي كانت فيه امرأة ثاىرة ذات شعر صار ماضيًا مثلما صارت هي مجرد ضمير غاىب، أما الحاضر فصارت امرأة ذات قبعة/بديل الشعر، وصارت الحياة شاشة تشاهدها بالمستشفى!!”في حال حدوث ما يمنعك من المشاركة بالتظاهرة فستقوم قبعتك بتنبيهك لكي تفتحي عينيك وتتابعا(أنتِ وهي) سيرة التظاهرة من شاشة العرض الكبيرة بالمستشفى..الشاشة التي تشبه الحياة تمامًا”(ص21).

ولا تتوقف المساءلة عند حدود الخبرة الشخصية للراوية في الحياة الواقعية، وإنما تمتد إلى الموروث الثقافي والتاريخي الذي تربت عليه وتربى عليه غيرها من الرجال والنساء؛ ويتجلى ذلك في قصة “حكاية لوحة” عبر مساءلة الفن التشكيلي ونموذجه هنا لوحة العشاء الأخير لدافنشي التي تنتبه الراوية بذكاء لخلو اللوحة من امرأة رغم أن دافنشي جعل الحواريين من البسطاء!! كما تتم مساءلة الموروث الثقافي في قصة “مراوعات بسيطة” عبر الكشف التناقض بين حكايات الجدة للراوي الطفلة عن السفاح الذي يقتل النسوان لتخويفها من النزول للشارع ساردة لها حكايات تمتليء بدماء نساء عثروا عليها على أحذيتهن العالية، بينما تتواطأ الجدة مع “أبلة فايزة” التي تراها الراوية الطفلة من الشباك وهي مذعورة بين يدى “الواد زعيزع” وهي يخلعها ثيبابها قطعة قطعة ، فتظنه الطفلة سفاحًا، فتجري لتخبر جدتها، لكن الجدة تهدئها وتستر على فايزة لتستغلها في قضاء مشاويرها ليصبح الجنس عند الطفلة علاقة بين سفاحين وسفاحات!! إنه التناقض بين التربية بالحكايات والأقوال المأثورة الوعظية والتربية بالتواطؤ ضد ما هو إنساني!!

أما التاريخ فتتم مساءلته بوصفه موروثًا ثقافيًا عبر استحضار شخصية شجرة الدر من سياق الفضاء التاريخي إلى سياق الفضاء الافتراضي الموظف في إطار القصة للبحث عن كيفية تحقيقها للتمرد والخروج عن قضبان التاريخ المرسومة للمرأة حتى لا تحيد عنها، كما تكشف الراوية من خلال الحوار مع شجرة الدر عن دور النساء في قمع النساء وإرغام بعضهن بعضًا على السير على القضبان المرسومة لهن من قبل سلطة ذكورية مجتمعية ضاربة بجذورها في التاريخ، ولا يمكن الخروج عنها وإلا كان المصير مشافي المجانين!!

ترفض الراوية أن تكون امتدادًا لشهرزاد التي تؤجل عمرها يومًا بالحكي الخادع المسلي، وتحلم بأن تعيش حياتها كامتداد لشجرة الدر المتمردة لكنها تدرك صعوبة حلمها وكأنه ليس بمقدور الأنثى “ابنة الموت” أو “سيدة الهباء” أن تكون “سيدة القصر” فتختفي شجرة الدر لتسمو فتحتلط خيوط التاريخ وشخوصه في سماء ميدان الثورة لتتجلى مريم العذراء “سيدة العالمين”.”افسحوا لي يا أبناىي .أنا سيدة العالمين.أنا مريم العذراء”(ص30).

إن مساءلة المرأة/الراوية للعالم الدامي لا تغير من طبيعته الدموية ولا تجعله أكثر احتمالاً، لأنه عالم أصم لا يسمع سوى صوت مطلقي الرصاص على الأطفال، لكن دموية العالم لا تحيل الأنثى التي يسكن جسدها روح غاندي إلى إصبع يطلق الزناد أو يعزف الموت بأي صورة من الصور، وإنما بقت الأنثى /الراوية رغم ترهل جسدها بفعل الزواج وتوقف عقلها عن التفكير بفعل الروتين والنمطية هي الأنثى التي أورثها غاندي قلبه لتتعاطف مع الطفل الذي خطف حقيبتها وجرى لتصدمه سيارة. إنها الأنثى التي تشعر بالخوف على المجرمين في حقها، فترى معها في قصة “سويتر جلد بني” أن مجرد ظهوره على الشاشة ضمن أحراز قضية قُتل المتهم فيها، قاسمًا إنسانيًا مشتركًا بين العديد من الناس الذين يرتدون مثل هذا  الجاكت الجلد البني ومنهم ابنها! إنه التعاطف مع الإنسان الذي يمكن أن يراه الجميع في التلفاز مجرمًا وتراه هي إنسانًا، ابنًا كان أو أبًا أو أخًا، فهي لا تعادي بشرًا وإن أجرموا في حقها، وإنما تعادي الموت لأنها قرينة الحياة والخصوبة، ومن هنا كانت الفانتازيا هي الوسيلة المثلى للكشف عن مدى قدرة الأنثى على بعث الحياة في عالم يحتضر، وهو ما يظهر بوضوح في قصة “حرير منزلي” التي تظهر فيها المواجهة بين عالم رأسمالي متوحش يضع أسرة في سياق التفكك، ويدفع الأبناء للتململ من علاج شعر الأم المتساقط، ثم العاجزة عن الحركة، ثم تبرز المفارقة المؤلمة أن يصبح الشعر المتساقط قابلاً للاستزراع والنمو في رءوس نساء أخريات معطرًا برائحة النعناع لتغدو الأم المحرومة من شعرها مصدر ثراء الأبناء المتاجرين بها، وعندما ينفد شعر رأسها وتستطيع تحريك ذراعها تكشف لهن عن شعر إبطها ليستأنفوا استغلالها كمصدر للثراء!!

 

مقالات من نفس القسم