ريتشارد لو غاليين
ترجمة: غلاء سمير أنس*
حلَّ الربيع في العالم مجدداً، وبينما كانت تغني لنفسها وسط الغابات البعيدة، وقع صوتها على آذان المدينة، بعد أن أرهقها الشتاء الطويل، أزهر النرجس عند مدخل القطار الأرضي، وتجمعت عربات نقل الأثاث في الشوارع الجانبية حتى ملأتها، بينما تجمع الأطفال كالأزهار على عتبات الأبواب، تسير أمامهم السيارات المفتوحة، وسُمعت “السيولة النقدية” مجدداً بين الناس.
تبدى الربيع بعد أن تاقت المدينة إلى زهور الليلك والتغريد الندي للطيور وسط أشجار التفاح الكبيرة والمليئة بالعقد، وإلى شجر القرانيا يضيء بأزهاره الفضية الغابات الكثيفة، ونبات الماء بمظهره البراق وسط البِرك عند الصباح الندي والنضر.
في صباحات يوم الأحد، كانت القطارات تمتلئ بالحجيج المتشوقين، ممَّن خرجوا سريعاً من المدينة لمشاهدة أعجوبة الربيع القديمة من جديد، وفي الأمسيات، كانت محطات السكك الحديدية تُملاً بالزهور في أيدي الحجيج العائدين، والذين ما زالت عيونهم تتألق بسحر الربيع، وما تزال آذانهم تردد صدى موسيقى الجنيات.
عند رؤيتي للربيع الذي ساوى بين الليل والنهار، أدركتُ أن عليَّ اتباع الموسيقى بدوري، والتخلي عن المرأة المغوية والجميلة التي ندعوها بالمدينة، ففي الصمت الأخضر فقط أعود إلى عزلتي الحبيبة، وعندما خرج القطار من “غراند سنترال”، همستُ لنفسي: “إلى العذراء الأكثر نقاءً ونعومة، في الأرض الأكثر خضرة وصفاءً”، ودعتُ المدينة وخرجتُ منها بقلبٍ توَّاق لاحتضان الربيع.
أخبرني البعض بوجود بقعة شبه منسية على الساحل الجنوبي لولاية كونتيكيت، حيث يمكن أن أقيم والربيع في عزلة لا ينتهك أحد حرمتها، وحيث لا يقيم أحدٌ سوى الطيور والأزهار والغابات والعشب الكثيف، وربما بين الحين والآخر يتواجد مزارع هادئٌ وصامت، ولا يصدر من الأصوات سوى همهماتٌ وأنفاسٌ بعيدة.
صدُقت أقوالهم، فعندما أوصلني القطار إلى وجهتي، خرجتُ منه لأشهد الصمت الأخضر الأكثر نقاءً وروعة، كان صمتُ يوم السبت الذي لفته أوراق الشجر، حتى القطار الذي كان يبتعد على سكته، بدا وكأنه يمضي حابساً ضوضاءه خوفاً من خرق تعويذة المكان، وبعد شتاء المدينة، يطيب للمرء الهبوط فجأة إلى هدوء الريف العام، ليترك فيه انطباعاً بتواجد الأشباح على مقربة، لعموم ذلك الصمت الساحر الذي يستمع إلينا ويشاهدنا ولكنه لا يتفوه بكلمة، رافعاً إصبعه إلى شفتيه.
يُخيل للمرء أن ثمة طابعٌ شبحي حول كل شيء تسقط عليه عينه، كالغابة والغيوم الغضة العظيمة والزهور على جوانب الطريق ومنازل المزرعة الغارقة وسط أزهار البساتين، كل هذا يبدو وكأنه حُلم عابر، فالسكون يعُم كل ركن فيه، وكل ما يحيطني يتألق بالخضرة والنضارة التي تبدو وكأنها مقتبسة من عالم آخر، فلا شيء يتحرك في الجوار أو يتكلم، عدا النسائم الربيعية الناعمة التي تؤرجح البراعم الصغيرة وتجعلها تتمايل عالياً في الفضاء الهادئ، وتغريد أحد الطيور بين الفينة والأخرى، وخرير جدول صغير يبدو وكأنه يُسلي نفسه بالغناء في جريانه المندفع.
ورغم البيوت التي تتبدى لناظري في هذا المكان، والتي لا بد أنها تضم بشراً يسكنونها وينعمون بهذا الصمت الأخضر، فإنني لا أرى أياً منهم في الجوار، تساءلتُ مطولاً، أثناء تجوالي لساعات متجاوزاً المزرعة والبيت الصغير المجاور وساحات الأبواب الفارغة، عن المكان الذي اختبأ فيه الريفيون فجأة، فلم أشهد أي وجه بشري، وإن وددتَ سؤال مزارعٍ عن اتجاه ما، سيبدو لك خجولاً كسنجاب، وإن طرقتَ على باب مزرعة ما، فلن تجد سوى الصمت وكأنك في جحر للأرانب.
أثناء تجوالي وسط ذلك السكون الساحر للمكان، وصلتُ أخيراً إلى منزل مزرعة بدا لي قديماً وغريباً – بدا في معماره “كمستعمرة قديمة” – مزدان بأزهار الليلك البيضاء، يحيطه بستان من أشجار التفاح القديمة، ملقية ظلالها الوافرة على الأعشاب الربيعية الطويلة، كان كتلك البساتين القديمة المخصصة للعبادات الغريبة لآلهة سيلفان، والتي لا توجد اليوم إلا في هوراس أو كاتولوس، وفي قلوب الشعراء الشباب ممن يعتزون باللاتينية العتيقة والجميلة.
أما المنزل فبدا لي مسكناً للعزلة ذاتها، فعندما رفعتُ مزلاج البوابة البيضاء وعبرتُ العشب المُهمل وصعدتُ إلى حيث الشرفة المزدانة بالوستارية، ونظرتُ عبر النافذة، رأيتُ العزلة تجلس على البيانو القديم، حيث لم يتفوق أي مؤلف موسيقي بعدُ على باخ.
كان المنزل فارغاً تماماً، وعندما سرتُ إلى خلفه، حيث الحظائر القديمة والاسطبلات الساكنة تماماً، وجدتُ لوحاً مكسوراً، فتسلقته وسرتُ عبر الحجرات الفارغة التي رددت الصدى، كان المنزل خالياً تماماً وبدا لي أن أحداً لم يسكنه منذ فترة طويلة، ومع ذلك، كان كل شيء فيه جاهز لأحد النازلين، وكأنه ينتظر أحداً يقيم فيه، زيَّنت الأرائك القديمة والجميلة، ذات الأرجل الأربعة، ثلاثة غرف – بستائرها المعتمة وبياضها الخالي من البقع – إلى جانب الخزائن القديمة من خشب البلوط والماهوجني والأدراج في الخزائن الجانبية ذات التصميم التشيبيندالي[1]، وعثرتُ على خزانة قديمة فضية اللون، بدا عليها الاستخدام المتكرر، إلا أنني وجدتها رائعة، ذكَّرتني بجدتي الجميلة، والتي لطالما ازدانت بالدانتيل القديم والتجاعيد الضاحكة والعينين الزرقاوين المُحتالتين.
وجدتُ غرفة صغيرة أثارت اهتمامي بشكل خاص، كانت غرفة نوم صغير بيضاء اللون، في نافذتها ورود حمراء ما زالت في براعمها، وما أثار عاطفتي آنذاك، للغرابة، خزانة كتب صغيرة ضمَّت عشرين مجلدٍ أو ثلاثين، تحمل الطابع المَنسيَّ ذاته – ولكن المُعتنى به في آن – ما كان أشبه بالسحر التذكاري الذي حلَّ على مقتنيات المنزل القديم جميعاً، فبدا كل شيء منسياً وفي الوقت ذاته، وبدقة غريبة وحتى بلمسة دينية، مُتذكراً ومعتنى به، تناولتُ كتاباً تلو الآخر من الرفوف، وسقطت زهور من الصفحات مرة أو اثنتين، ورأيتُ خطوطاً دقيقة في أماكن مختلفة وعلامات بسيطة، علمتُ من ذلك أن المكتبة الحميمة تلك كانت ملكاً لفتاة صغيرة يوماً ما، وما أدهشني أن نصف الكتب كانت بالفرنسية، لشعراء ورومانسيين فرنسيين، فوجدتُ نسخة نادرة ورائعة لمؤلف رونسارد، ونسخة ممتازة الطباعة لألفريد دي موسيه، ونسخة من كتاب تيوفيل غوتيه “سيدة موبين”، فكيف ظلت تلك الكتب الغريبة دون مساس في منزلٍ وسط مزرعة مهجورة في نيو إنجلاند؟
لاحقاً، سأتمكن من معرفة الإجابة بطريقة غريبة للغاية، أما آنذاك، فقد غرقتُ في حُب ذلك المكان الحزين والقديم الذي عمَّه الصمت، وعندما أغلقتُ البوابة البيضاء وشرعتُ أسير ثانية على الطريق، بحثتُ عمن يخبرني ما إن كان يمكن لرجل حَي نسبياً استئجار منزل الأشباح هذا خلال الصيف، فأُرسلت إلى منزل قديم وجميل وقع وسط مزرعة في نيو إنجلاند، راح يتلألأ ببياضه بين عتمة الأشجار، من على بُعد ربع ميل، وهناك، قابلتُ زوجاً عجوزاً، مزارعاً عادياً وزوجته، كان الرجل نحيفاً ذو لحية وعيون رمادية حادة، تومض أحياناً بمزاحه البارع، أما المرأة فكانت بوجهٍ عجوز سمح، متوردٍ وأقرب لهيئة تفاحة ذابلة، وقد اتضحت لي حياتهم الثرية، أما قراراتهما – ولسبب ما، لم تتبين لي طبائعهما سريعاً – فكانت مترددة، فتارة أظهرا براعة أهل نيو إنجلاند في عقد الصفقات الصعبة، وتارة عبَّرا عن انزعاجهما من فكرة التخلي عن المنزل، فتحدثا كثيراً عن العزلة التي يتسم بها ذلك المكان، وخشيا أن أجدها غير محتملة، أخبراني أنَّ من استأجروا المكان لم يعيشوا فيه طويلاً، وخلاف ذلك، ولكنني فهمتُ لاحقاً التردد الغريب الذي اعتراهما، وعددته طبعاً من طباع أهل نيو إنجلاند الملتوية في المساومة، وفي النهاية، استطعتُ الفوز بالمنزل بالمبلغ الذي عرضته عليهما لاستئجاره، وهكذا، وضعتُ يدي، لأربعة أشهر، على هذا المنزل القديم ذي الطابع الصامت وليلكه الأبيض وحظائره الخالية والناعسة والبيانو القديم فيه والبستان الغريب الذي يحيط به، وبحلول الصيف في يونيو، اعتدتُ الاستلقاء تحت أشجار التفاح بعد الظهيرة، لأقرأ، حالِماً، بعض الكتب القديمة، بجفوني نصف النائمة، مراقباً المشهد أمامي يتلألأ بأصواته الناعمة.
أقمتُ في المنزل القديم لشهرٍ تقريباً، ومن ثم، وبعد ظهر أحد الأيام، حدث أمر غريب، أذكر التاريخ جيداً، كان عصر يوم الثلاثاء، الثالث عشر من يونيو، كنتُ هناك أقرأ، أو بالأحرى أتصفح كتاب بورتون “تشريح الكآبة”، وعندها، سقطت على الصفحة الصفراء القديمة تفاحة صغيرة غير ناضجة، مع بتلة أو اثنتين من الزهر ظلت متشبثة بها، وعندما ظننتُ أنني بدأتُ أحلم، تبين لي أنَّ عيناي وأذناي مفتوحتين تماماً، فقد سمعتُ فجأة صوتاً غضاً وجميلاً يغني بهدوءٍ في مكان ما بين الأوراق، كان الصوت ضعيفاً وخافتاً ويكاد لا يكون مسموعاً، وكأنه تولد من الهواء، وكان متقطعاً يروح ويجيء مراراً، مثل عطر الزهر الياقوتي الاستثنائي، كما لو أن هناك فتاة تجول المكان، تغني لنفسها حالمة بعد الظهيرة، إلا أنني لم أرَ أحداً في الأفق، ولم يبدُ لي البستان أكثر خلواً وعزلة من تلك اللحظة.
وما أدهشني كذلك، أن الكلمات التي تناهت إلى مسامعي من تلك الموسيقى المتولدة من الهواء، كانت بالفرنسية القديمة، ذات طابع حزين في نصفه ومرح في نصفه الآخر، تعود لمُغنٍّ فرنسي قضى منذ زمن بعيد، فبحثتُ عن مصدر الأصوات العذبة عبثاً، أيمكن أن تُغني الطيور بالفرنسية وسط هذا البستان الغريب؟ إلا أن الأصوات كانت قريبة جداً مني لدرجة توهمتُ بوجود حورية تسكن الشجرة التي اتكأتُ إليها، وعندها، استمعتُ جيداً لكلمات الأغنية القصيرة والحزينة:
غنِّ، أيها العندليب، غنِّ
بقلبك المبتهج والضاحك
أما أنا، فأريد أن أبكي
ورغم اقتراب الصوت من كتفي، إلا أنني لم أرَ أحدهم، ثم توقف الغناء عند ما كان أشبه بالنشيج، وبعد هنيهة بدا وكأنني أسمع صوتاً يبكي بعيداً في البستان، تبعه صمتُ تام، وتُركتُ وحدي أتأمل ذلك الحادث الغريب، فخرجتُ بأنه كان مجرد حلم يقظة راودني بين النوم واليقظة وأنا أقرأ في تلك الصفحات القديمة، ومع ذلك، عندما سمعتُ ذلك الغناء ثانية وثالثة في الأيام التالية، لم أكتفِ بهذا التفسير المنطقي.
سمعتُ الصوت يجيء ويروح بين أغصان البستان السميكة:
عند النبع النقي
ذهبتُ للتنزه
فوجدتُ الماء جميلاً جداً
واستحممتُ فيه
أحببتُك لزمان طويل
ولم أنسَك أبداً
وبالطبع كان غريباً أن أسمع هذا الصوت يتردد في البستان من مكان ما وسط الأغصان البراقة واللامعة، من دون أن أجد أي مخلوق بشري في الجوار، ولا حتى أي منزل على بُعد نصف ميل، ولذلك، لا يمكن للعقل البشري إلا أن يدرك أن هناك أمراً “لم تُعره فلسفاتنا اهتماماً”، فبدا لي التفسير الوحيد والأكثر معقولية هو التفسير غير المنطقي تماماً، أي أنَّ بستاني مسكونٌ بروح شابة جميلة أصابها الحزن من المتعة الزائلة والضائعة، فمنعها من الرقود بسلامٍ في قبرها.
وفي اليوم التالي، تأكدت لي نظريتي بطريقة غريبة، فعندما كنتُ مستلقياً تحت شجرتي التفاح المفضلة، أوزع انتباهي بين القراءة والبحث عن الصوت إياه، هادئاً في الحلم وسط طنين الحشرات والأفواه التي دفعتها حرارة الشمس للخروج من مخابئها في الأرض، انحنيتُ فوق الصفحة، فخالجني شعور قوي ومذهل على حين غرة، بأن شخصاً ما ينحني فوقي ويقرأ معي، وأن شعر الفتاة الطويل كان ينسدل على الصفحة من فوقي، ولم يكن ذلك سوى كتاب رونسارد الذي وجدته في غرفة النوم الصغيرة، استدرتُ ولم أرَ شيئاً، ولكنني أيقنتُ أنني لم أكن أحلم، فعلوتُ بصوتي: “أيتها الطفلة المسكينة! حدثيني عن معاناتكِ، لعلي أتمكن من التخفيف عن قلبك المتألم”.
وبالطبع، لم يُجبني أي صوت، ولكنني في تلك الليلة حلمتُ حلماً غريباً، ورأيتُ نفسي في البستان ثانية في فترة ما بعد الظهيرة، مستمعاً لذلك الغناء الغريب، وعندما نظرتُ فوقي رأيتُ مصدره، فوجدتُ شابة صغيرة بعيون زرقاء مفعمة ومليئة بالدموع وشعر ذهبي وصل حتى خصرها، تتجه إلي مباشرة، وقد ارتدت رداءً أبيض قديم غطى جسدها بالكامل، لعله كان كفناً أو فستان زفاف، بدت وكأنها لا تراني، رغم أنها توجهت إلى الشجرة حيث كنتُ جالساً، وهناك ركعت على ركبتيها ودفنت وجهها بين العشب وانتحبت في صوتٍ وكأن قلبها تحطم تماماً، انسدل شعرها الطويل فوقها كالعباءة، فربتُّ عليها متعاطفاً وتمتمتُ ببعض الكلمات المواسية لحزنٍ لم أفهمه، ثم استيقظتُ فجأة كما يستيقظ المرء من أحلامه.
وجدتُ القمر يلقي بظلاله في الغرفة، نهضتُ ونظرت إلى البستان الذي كان مضاءً وكأنه النهار، حيث تمكنتُ من رؤية الشجرة التي حلمتُ بها، ثم خطرت لي فكرة رائعة، وضعتُ عليَّ ملابسي سريعاً وخرجتُ إلى إحدى الحظائر القديمة وتناولتُ مجرفة، ثم توجهتُ إلى الشجرة التي انتحبت الفتاة أمامها في حلمي، وحفرتُ أسفل قدميها، وعند عمق قدم واحدة فقط اصطدمت المجرفة بشيء صلب، فاكتشفتُ وجود صندوق صغير أخرجته من مكانه، وتبين لي عند فحصه أنه من الصناديق التشيبندالية القديمة، والتي استخدمتها جداتنا للاحتفاظ بالكشتبانات وإبر الخياطة وبكرات القطن وخيوط الحرير، وبعد تسوية الحفرة الصغيرة التي حفرتها، حملتُ الصندوق إلى المنزل وتفحصتُ محتوياته تحت ضوء المصباح، وعندها، فهمتُ سبب توجه تلك الروح الحزينة إلى البستان، وغناءها تلك الأغاني الفرنسية القصيرة.
عثرتُ في ذلك الكنز الذي وجدته تحت شجرة التفاح، والذي يعود لروح مضطربة وحزينة، على عدد من رسائل الحُب المكتوبة في معظمها بالفرنسية، بخط جميل جداً، كما وجدتُ بعض الخطابات التي تعود لحوالي خمس سنينٍ أو ستة، وربما لم يجدر بي قراءتها، ولكنني أنني مُحترماً ذلك الحب الجميل والعاطفي الذي فاض بها، وجعل لها “رائحة حُلوة ومنظراً مُزهراً بين الغبار”، لدرجة شعرتُ أنني حظيتُ بموافقة الموتى وبتُّ جديراً بثقتهم.
ومن بين الرسائل وجدتُ أغانٍ قصيرة، سمعتُ اثنتين منها تُغنى بصوت الشابة في البستان، وبالطبع كان ثمة العديد من الزهور الذابلة، والأشياء التي حملت ذكرى نشوة الحُب الماضية.
لم أتمكن في تلك الليلة من فهم القصة كاملة، رغم أن مأساتها الأساسية لم تكن صعبة التخمين، وقد أطلعتني ثرثرةٌ في الحي وشاهدٌ في باحة الكنيسة بالبقية، فتلك الروح الشابة والمضطربة، والتي تغني بحزن شديد في البستان، كانت ابنة صاحب المنزل، الطفلة الوحيدة لوالديها، جميلة وعنيدة ومختلفة عمَّن عاشت بينهم في أجواء المنفى المُزرية، وفي طفولتها، كانت مخلوقاً صغيراً من القصص الخيالية، وفي كبرها، اتضح لوالديها أن ابنتهما من عالم آخر تماماً، وكأنها خارجة من حكاية خرافية قديمة، وجدها الراعي في منزله بعد عودته من الحقل مساءً، واستقبل تلك الطفلة الصغيرة الملفوفة بالكتان الناعم، وبرفقتها صُرة من الذهب لم يُعرف مصدرها.
وسرعان ما كبرت وظهرت بعض الطباع الروحية والحساسة عليها، والتي حار والداها في التعامل معها، فكانت تعود إليهم بعد قضائها فترات طويلة في الغابة، محملة بالزهور الغامضة، وبدأت تطلب كتباً وصوراً وموسيقى معينة لم تسمع بها تلك الأرواح الفقيرة التي استقبلتها، وأخيراً، استطاعت شق طريقها والدراسة في كلية حديثة، لتبدأ حياتها الرومانسية القصيرة، حيث قابلت شاباً فرنسياً رومانسياً قرأ لها كتب رونسارد وكتب لها تلك الرسائل الرائعة التي وجدتُها في الصندوق الماهوجني القديم، وبعد فترة عاد الشاب إلى فرنسا وتوقف عن الكتابة لها، مرَّت أشهر عديدة، وأخيراً، في يوم ما، وفي جلوسها الحزين عند النافذة، ناظرة إلى الطريق التافه أمامها والمضاء بنور الشمس، وصلتها رسالة تُخبرها بوفاته.
أما شاهد القبر في باحة الكنيسة فيخبرنا بالتتمة، كانت صغيرة جداً على الموت، بالكاد وصلت التاسعة عشر من عمرها، ومثل هؤلاء الموتى، ممن يموتون صغاراً دون تحقيق أحلامهم وآمالهم التي ظلت كبراعم تريد النمو في قلوبهم، فلا يرقدون بسلام في القبور كمن يقضون أيامهم بطولها في الحقول ويسعدون بالنوم ليلاً.
في اليوم التالي، حملتُ الصندوق الصغير إلى ركن هادئ في البستان، وأحرقته وحوله بعض الأغصان العطرة – ذاك أنني خمنتُ أن تكون هذه رغبة تلك الروح الشابة والمضطربة – فغدت الكلمات الجميلة تلك في مأمنٍ، حيث ذابت ثانية في الأجواء التي صدرت منها أولاً.
ولكن، مذاك الحين، لم تعد العصافير تُغني تلك الأغاني الفرنسية القصيرة في بستاني القديم.
………………………………
[1] نسبة إلى توماس تشيبيندال.
*مترجمة فلسطينية