رواية ”وراء الفردوس” – أسرار عائلة على ضفاف النيل

وراء الفردوس
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

أكسل فون إرنست

لأول مرة يُترجم إلى الألمانية عمل من أعمال الكاتبة المصرية منصورة عز الدين. في رواية "وراء الفردوس" تحكي الكاتبة الشابة حكاية الطفولة والصبا، وحكاية عائلة، وسيرة منطقة في دلتا النيل. فهل روايتها الصادرة عام 2009 ما زالت صالحة للقراءة في زمن الثورة؟ أكسل فون إرنست قرأ الرواية ويقدم في المقالة التالية إجابته عن هذا السؤال.

عندما يأتي كتّاب وكاتبات من المنطقة العربية إلى ألمانيا في الوقت الحالي فإنهم يكونون في المقام الأول شهوداً على الأحداث التي مرت بها بلادهم. سريعاً ما ينصرف الحديث في الندوات والحوارات الصحفية عن الأدب ليتحول إلى تقارير إخبارية وإلى تبادل للرأي عن التحولات التي تشهدها المنطقة العربية. الكاتبة المصرية منصورة عز الدين (مواليد 1976) هي بالتأكيد إحدى الممثلات الشابات للأدب العربي، وهي – عندما تأتي للمشاركة في الندوات التي تعقد للتعريف بروايتها في فرانكفورت وفيينا وإنسبروك وبازل – تُسأل دائماً عن أحداث الثورة في بلادها، لا سيما وأنها تشارك بنشاط كبير في الساحة السياسية، وتكتب المقالات عن الثورة المصرية لكبرى الصحف العالمية، مثل النيويورك تايمز ونويه تسرويشر تسايتونغ، وهي، كما قالت في إحدى الندوات، توقفت عن الكتابة الأدبية في الوقت الحالي مكتفيةً بكتابة مقالات عن الثورة.

​​منصورة عز الدين تعتبر منذ سنوات صوتاً من الأصوات الواعدة الشابة في الأدب المصري، وهي اُختيرت في عام 2010 في مهرجان بيروت الأدبي ضمن 39 كاتبة وكاتباً من أهم الأصوات الأدبية الشابة التي تكتب باللغة العربية، كما رُشحت روايتها “وراء الفردوس” في عام 2009 لجائزة بوكر العربية ووصلت إلى قائمتها القصيرة. “وراء الفردوس” تُرجمت حديثاً إلى اللغة الألمانية وصدرت لدى دار “أونيون” السويسرية ليكون العمل الأول للكاتبة الذي يصدر بالألمانية. وقد جاء نشر الرواية، على غير توقع، في الوقت الذي تغيرت فيه النظرة إلى الأدب العربية تغيراً كبيراً، والأمل أن يؤدي ذلك إلى نظرة ثاقبة أكثر دقة. على كل حال فإن هذه النظرة أضحت سياسية.

تحكي رواية “وراء الفردوس” حكاية طفولة وصبا، حكاية عائلة، وسيرة منطقة في دلتا النيل: “إذا قُدِر لأحدهم يوماً أن يسير بجوار النيل، في تلك البقعة النائية من وسط الدلتا، سوف يرى حتماً بقايا بستان برتقال ونخيل، كان يشغل حوالي خمسة أفدنة من الأراضي الملاصقة للنهر قبل أن يتحول فدانان منها إلى مصنع جديد للطوب الطفلي يغطي بضجيجه على كل ما حوله، لو دقق النظر سوف يبصر بيتا جميلاً أبيض اللون يجاوره ثلاثة أبراج حمام باللون نفسه. هذا هو البيت الذي بناه رشيد حين رغب في الاستقلال بحياته عن بيت العائلة الكبير.”

رشيد هو والد البطلة سلمى التي تعود بعد عام من وفاته إلى مسقط رأسها في دلتا النيل، وهناك تتذكر – وكأنها تعيش أحلام يقظة – شذرات من طفولتها وشبابها، كما تتذكر ما كانوا يحكونه لها، أو ما لم يُحك أبداً، غير أنه تسلل إلى وعيها بالرغم من ذلك. في الوقت نفسه تحاول البطلة كتابة رواية عن عائلتها وهو ما يسير بالرواية إلى مناطق غامضة ملغزة: إذ تقوم البطلة بإكمال الذكريات المتشظية والمتناثرة، كما تضع تلك الذكريات موضع تساؤل. وهكذا تنشأ بانوراما فنية متعددة الأشكال لمصر الريفية في تلك الفترة، ولتاريخ التصنيع فيها، وهي بانوراما متعددة الألوان نجحت في إحياء ذلك العالم، وخصوصاً بفضل الشخصيات النسائية المتنوعة كل التنوع – بدءاً بالجدة القوية التي تدير بنجاح شؤون التجارة وتحرك زوجها كدمية، مثله مثل كافة الرجال في البيت، مروراً بـ”بدر” المتخلفة عقلياً ومارجو التي تأتي بانتظام في الإجازات الصيفية حاملة معها من القاهرة عبق العالم البعيد والمدنية الزائفة، وصولاً إلى شقيقة البطلة التي تصبح مع الأيام امرأة ضيقة الأفق راضية عن ضيق أفقها. أما الشخصية التي تنعكس عليها معظم ملامح صورة سلمى فهي جميلة، ابنة زوجة العم وصديقة سلمى في الماضي.

وراء الفردوس” هي إذاً رواية عائلة ورواية أجيال، كما أنها دراسة نفسية للمحررة الأدبية الشابة التي تعمل في القاهرة مثل المؤلفة أيضاً. هل القارئ بحاجة إلى رواية كهذه في زمن الثورة؟ هل يُنصح بقراءتها؟ الإجابة هي بالقطع نعم! إن رواية منصورة عز الدين تغوص بالقارئ الغربي تحديداً في التربة المصرية على نحو أعمق مما تستطيعه أية مقالات صحفية. الكاتبة هنا تقوم بعملية تشريح هادئة لشخصيات الرواية جميعاً.

منصورة عز الدين ترسم شخصيات الرواية بدفء وتعاطف إنساني، غير أنها تعري أبطالها أيضاً بصدق بالغ. إن قوة الرواية وأهميتها إنما تنبعان من هذه البرودة المترفقة والتعاطف في التحليل النفسي، وهكذا تنجح الروائية في هذا العدد المحدود من الصفحات في تكثيف ذلك التجاور الاجتماعي المتفجر في مصر. هناك بعض السمات في الرواية تبدو وكأنها من القرن التاسع عشر، مثل الإيمان بالخرافات والأساطير المنتشر في الأرياف بشأن الأضاحي البشرية وأشباح العفاريت، أو مثل شخصية ناظلة، عمة سلمي الأقرب إلى قلبها، التي تُصاب بالتشنجات العصبية في ليلة زواجها وتظل عذراء، ثم تنفصل سريعاً عن زوجها. هناك أيضاً الشباب الموسر الذي يستمع إلى أغاني مايكل جاكسون ويعقد صداقات مع الغرب ويقرأ ماركيز وفرويد.

إن العلاقة المتشنجة مع الجسد – التي كانت سائدة في أوروبا في العصر الفيكتورياني – تمثل موضوعاً يطرح نفسه بقوة في الرواية كلها، وقد كان – إلى جانب اللغة المكشوفة – سبباً في إثارة عاصفة من الانتقادات لدى صدور الرواية. غير أن هذا النقد هو بالضبط جزء مما تصفه الكاتبة في الرواية: ردة فعل سببها الخوف، وهي تقود في الرواية إلى كشف النقاب عن الأسرار العائلية المظلمة، مثل سر العمة التي حملت على غير إرادتها ثم انتحرت. وهذا أيضاً من الموضوعات التي تناولها الأدب في القرن التاسع عشر، لكنه هنا جزء من أحداث السبعينات من القرن العشرين.

لقد صدرت “وراء الفردوس” في الوقت المناسب. إننا نسمع هنا صوتاً شاباً يكشف النقاب عن أشياء كثيرة تحدث في مصر الآن، وذلك عبر حدث عائلي يتم تحليله نفسياً. كما يمكن اعتبار الرواية بحيادها تجاه كل الشخصيات نموذجاً أدبياً للتسامح الديمقراطي. غير أن “وراء الفردوس” رواية صغيرة، وقارئ الرواية يأمل ويتوقع من هذه الكاتبة أن تقدم له – عندما يسمح الوقت بذلك – صورة أكثر عمقاً واتساعاً عن المجتمع المصري.

 

ترجمة: سمير جريس

مراجعة: هشام العدم

نقلاً عن موقع قنطرة  

عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم