أحمد المديني
إذا جئت اليوم في فرنسا على ذكر اسم ميشيل هويلبك (1956)، فتحصيل حاصل أنه من كبار روائييها، إن لم يعد الأكبر في جيله بعد حصاد عقدين ونصف عقد من كتابة سردية ظهرت دفعة واحدة مغايرةً ومتمردةً، بدءًا من Extention du domaine de la lutte (1994)، تلتها ست روايات لا مفاضلة بينها خطّت نهجَه ورسمت عوالمَ وتيماتٍ هي مزيجٌ بين مسار فردي وتأملات نفاذة إلى الكائنات والحياة، من منظور خلخلة بنيات قائمة وتعويضها بأخرى تؤسّس بالمشرط والتفكيك والشرح العلمي التقني للمجتمع باعتبار المؤلف مهندسًا زراعيًا وخبيرًا في المعلومات، تجلت ثقافته وخبرته في الرواية التي أشهرته Les particules élémentaires (1998) وأقواها la carte et le territoire” (2020)، حاز عنها الغونكور، ونقفز رأسًا إلى عمله الأخير Anéantir (2022)، الحدث الأدب الأبرز اليوم في الساحة الأدبية الفرنسية في الموسم الثاني.
مؤكّد أنّ طرح رواية جديدة في الغرب، إضافة الى القيمة الأدبية المحتملة، أضحى عملية تجارية إعلامية، هنا عمل مؤسسات المؤلف أداة في آلتها الضخمة، فكيف مع كاتب ارتبط صدور كل عمل له بضجة سابقة أو لاحقة، تنذر بكارثة أو تتوقع هزة هي في صميم المجتمع واستشراف أزمات العصر.
هكذا هي روايات هويلبك تتنبأ بعملية إرهابية مريعة في تايلاند؛ وتستشرف جريمة صحيفة شارلي إيبدو الإرهابية في باريس رواية Soumission (2015).
ويرتبط اسم مؤلفها بمواقف سياسية وقضايا إيديولوجية وعقيدية، منها الإسلام والهجرة والأمن وأبعد مما وضعه في قلب سجالات حادة ضمن نهج يميني متشدد، يسعى لاسترجاع “مجد” فرنسا الضائع زعمًا وجذورها الهوياتية.
لذلك، بحسب المختصين بهويلبك، وقد أمسى مناط دراسات، كلّ أعماله هي ذات بعد سياسي وتخترق القشرة الخارجية للمجتمع لتقلب تضاريسها وفق أيديولوجية متراوحة بين التصريح والإضمار، يمينية حتمًا، لنقل إنها تنبذ المسلّمات وتفجر التناقضات وتمشي على الحافة، لا تخاف ما دامت تلعب في الهاوية وتُنذر بالأفول.
تصدر رواية Anéantir (نترجمها مؤقتًا: إبادة، إفناء)، التي تدشّن ناشرتها دار فلاماريون طباعة مجلدة فاخرة، خاصة بكتب صاحبها، في قلب الزوبعة السياسية الفرنسية الراهنة ممثلة في انطلاق منافسة الانتخابات الرئاسية المقبلة، والصراع الدائر بين القوى اليمينية من فيها الأعتى والأقدر كما تقول على “إنقاذ” فرنسا.
ومن هنا ظاهرة إريك زمور الذي يطرح نفسه المنقذ الأول أبعد من حركة ممثلة اليمين المتطرف مارين لوبين، مروِّعًا ببعبع الإسلام وداعيًا إلى طرد المهاجرين الذين عنده يرومون الحلول بدل السكان الأصليين بشعار “الإحلال الكبير” le grand remplacement، ولا تبتعد عنه أغصان الشجرة اليمينية الباقية إلا في تفاصيل.
تصدر رواية هويلبك، إذاً، ويجري تلقّيها أولًا كأنّها مرافعة أساس في ملف الحياة السياسية والوضع المأزوم في فرنسا وأطراف السباق لرئاسيات الغد، بل وأكثر تستقبل وتُقرأ متنًا يعرض فيه الكاتب رؤية شمولية أيديولوجية ودينية ووجودية، وإنها لكذلك بأداة سارد محترف.
أجل، وهذا هو مدخلنا إلى أدبيتها التي تحتاج إلى قراءة متأنية وصبر متابعة 740 صفحة من القطع الكبير جمعت بين دفتيها مثل ثنايا أوكورديون عديد روايات، لو شئنا، ومحكيات، وتنقلت بين عديد سِجلات واستثمرت تيماتٍ وقضايا لا حصر لها إلى حدّ أنها غدت عملًا بانوراميًا لصورة الحاضر في السياسة والاقتصاد والاجتماع والأمن والمخابرات والصناعة والطبابة والمالية العامة والشأن الديني الكنسي، والنِّحَل والجمعيات السرية والإرهابية، والاستغراق في المسار نحو الفناء عبر مساءلات ميتافيزيقية ومعضلات دينية، كله من خلال مسار شخصيات ومصائر وضَع لها كأيّ روائي حاذق عمودًا فقريًا وهي الأضلع والأطراف.
مغامرة غامضة
ليس سهلًا القبض على رأس الحكاية مع هويلبك في هذه الرواية، فهو يبدأها بمغامرة غامضة لجماعة سرية تخطط وتنفذ أعمالًا ملتبسة جدًا، ثم تتحوّل عبر مجرى الرواية الطويل إلى عمليات إرهابية تفجّر ناقلات كبرى في عرض البحار، وتُحدث بلبلة في أجهزة المخابرات التي تدخل في التحرّي بأعضاء منهم من هو طرف في الحبكة الروائية وبآخرين في الهامش.
بعد هذا المدخل ينتقل السارد بلا تسويغ إلى الشخصية الرئيس التي سنتابع حتى النهاية وحولها تتقاطع بقية الشخصيات، مرّة هي مركز وأخرى محيط، فيما البؤرة هي موقع الإنسان في الوجود بين التزامات وشهوات الحياة ومقاليد السلطة وحيرة الإيمان ومسار الفناء المحتوم.
بول ريزون، مدير ديوان وزير المالية، برونو جوج، المستنسَخ حرفًا، من وزير المالية الحالي برونو لومير. هما معًا متعاضدان منصرفان إلى تقوية الاقتصاد والوزير بالذات شاغلُه إحياء الصناعة وإنعاش الدولة، هو الرجل الذي يحظى بثقة رئيس الجمهورية ومعه سندُه وصفِيُّه بول.
كلاهما يعيشان حياة شخصية ميتة، شبه منفصلين عن زوجتيهما، وعالمهما مغلق في الوزارة بمبناها العتيد في حي بيرسي.
وهنا لا بد من الإشارة إلى أن هويلبيك وفي جميع مشاهد الرواية قام بحفرٍ عميق وتوثيق دقيق، وكثيرًا ما استبدل أشخاصًا بشخصياتٍ حتى بات مشهورًا أنّ برونو الرواية هو وزير المالية وأعرب هذا عن اعتزازه كيف صار أيقونة.
كسر القوقعة
لتوجدَ الرواية ينبغي كسرُ قوقعة الوزارة، أولًا، بتعرض الوزير إلى تهديد على الفضاء الأزرق يُظهره مشنوقًا؛ وبتعرض أبي بول المساعد إلى سكتة دماغية هو الموظف في الجهاز السري، الذي سيتولى التحقيق في التهديد، وحضوره يربط الطرفين، بين قصتين ستتوازيان وتتقاطعان متناوبيتن على مغزل السرد.
القصة الأولى وهي الوعاء، تحتوي حكاية حياة بول الشخصية والمهنية والوزير شبه الصديق، الذي سيكلفه رئيس الجمهورية بالإشراف على حملة انتخابية لدعم من رآه طيّعًا لخلافته مدة خمس سنوات، ليعود بعدها من جديد إلى قصر الإليزيه، إذ لا يحق له أكثر من ولايتين. للعلم وضع هويلبيك روايته زمنيًا بين شتاء 2026 وصيف 2027 متباعد شكليًا عن الحاضر، وإلا فكلّ الشخصيات والحوادث كنايةٌ عن الآن.
تكشف هذه عن مناورات الحكم وأطراف الصراع حوله والهياكل الإدارية والأمنية برُمّتها. القصة الثانية فرع من الأولى، تخصّ إدوار الأب بعد تعرضه للسكتة وشلله، ثم دخوله على المستشفى وإعادته بمغامرة ملفقة إلى بيته الريفي ترعاه زوجته، وإلى جانب ابنته سيسيل وزوجها، وهذا فضاء آخر أتاح للكاتب تشخيص المجتمع الوسطي، اليميني والكاثوليكي المرتبط بمعتقدات مسيحية أصولية ونزعة هوياتية فرنسية محض.
في هذا الفضاء تقع حوادث مأساوية، وتتشخّص أخلاقٌ وأسلوب عيش وثقافة وأيديولوجيا، هي من مظاهر الفسيفساء السوسيولوجية والثقافية الكبرى لفرنسا، وفي الوقت تعبّر من نحو خفي عن معتقدات الكاتب.
شخصيّة تراجيديّة
وإذا تركنا جانبًا الصفحات الطوال التي يروي فيها السارد مناورات الفرقة الإرهابية الغامضة، ومعها تحريّات جهاز المخابرات ومحاولات تفكيك الملف السري الذي بقي بين يدي الأب المشلول كليًّا، ووصوله أخيرًا إلى الكشف عن مدبري مؤامرة عالمية وإزهاقها؛ إذا صرفنا النظر عن قصة ثالثة هي فرع من الأولى بمثابة تمثيل بارودي للعبة الانتخابات الرئاسية وإسقاط على المشهد الساسي الدائر حاليًا، حيث اليمين الأقصى يهدد بالوصول إلى الحكم بالأسماء والرموز وطرق العمل الاستشارية والفنية، بطلُها برونو جوج، شخصية حقيقية مجازية رمزٌ لإرادة تجديد قوة فرنسا الاقتصادية واستقلالها، وفي الوقت لروح الطموح الهادئ والصائب؛ أقول، بعد معرفة خبر هذه الأحوال، فإن المجرى الأساس، ورغم تعثر الحوادث وتكاثر الاستطرادات والاقتحام بالأحلام والمعلومات بدقة عند كل تيمة مخصوصة، يبقى هو الحكاية الخاصة لبول ريزون ضمن الحكاية العامة، سيصنع منها الكاتب شخصية تراجيدية، وينقلها من الظل الذي وضعها فيه في البداية إلى قلب السياق والصراع السردي.
بول بعد مصالحته مع زوجته، وتحوله إلى ضحية في وظيفة، يصاب بسرطان الفك، وهنا تبدأ مغامرة ـ قصة رابعة، النواة التراجيدية للرواية حيث نراه يتنقل بين الأطباء والمستشفيات ويخضع للتحليلات ومحاولات العلاج بأبهر التقنيات، وشيئًا فشيئًا يرى- ونرى معه- الحياة تنسحب من بين يديه وتحت بصره، وهو يتمسك بها بشهوانية شبقية فائقة والموت زاحفٌ، بعدما لم ينفع العلاج، جزء من انهيار وموت جماعي كامن خلف صور وإيحاءات ودلالات.
تنتهي الرواية وبول بين ذراعي زوجته باستسلام للموت كأنه خلاص بعبارة قابلة لكل تأويل: “كنا في حاجة إلى أوهام بديعة”. فهل كان القراء المنتظمون لهويلبك والوسط الأدبي والسياسي والاجتماعي في فرنسا وخارجها، فهو مترجم لجميع اللغات تقريبًا ومباشرة، محتاجين إلى هذا الأثر الجديد ليعرفوا أنفسهم وأزماتهم ويقرؤوا برؤيته معضلاتهم العصيبة في قلبها السياسية والروحية؟ أظن، نعم، لا بسبب الإقبال المدهش على الرواية فقط، ولكن لأن هذا الجمهور يعاني أزمة هوية ويبحث عمن يهديه، ليس سعار زمور بالتأكيد، ويواسيه ويرافقه بالأدب، بالحقيقة والتخييل، معًا، بالوهم أيضًا، في درب الحياة المتشعّب.
إنه يجده في هويلبك الذي ينصِّب نفسه في هذه الرواية التي ليست من أجود ما كتب، رسولًا وداعية وبشيرًا ونذيرًا، لذلك تأكل الخطابات نصف روايته، ويحضر الباقي بمهارة روائي خبير حتى النخاع بفنه، يتفانى في تدقيق كل معلومة وفكرة ومشهد، ورغم أنه شاعر مكرس لا يستسلم لأي انثيال لغوي بل جملته مُحكَمة وقوامُ الكتابة رشيق، ونفَسُه متصاعد وإيقاعه منتظم.
في القرن التاسع عشر كتب بلزاك “الكوميديا البشرية” وتحظى فرنسا في حاضرها بمن يكتب لها “التراجيديا البشرية”. هكذا هو تاريخ الآداب الكبيرة، ولا عبرة بعد هذا لمحاكمة النيّات.