رواية “فردقان – اعتقال الشيخ الرئيس” ليوسف زيدان.. استعادة آراء ابن سينا

فردقان
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

خالد البقالي القاسمي

     كعادته دائما يحب المبدع العربي المصري “يوسف زيدان” أن يستقصي الزوايا والهوامش الكامنة في مسارب ومجاهل التاريخ بالدول العربية والإسلامية من أجل تجليتها ونفض الغبار عنها قصد الوقوف على الخفايا والأسرار التي ظلت متوارية خلف الأغراض والمطامح، والمطامع، والتطلعات، والإيديولوجيات، والمذاهب.  

     في رواية “فردقان” توجه المبدع نحو مرحلة خاصة أشارت إليها المراجع التاريخية باقتضاب شديد، ولم يكلف أحد نفسه عناء الوقوف عندها من أجل تحقيق وضبط إيقاعاتها رغم أنها مرحلة بالغة الأهمية، وحاسمة في تاريخ الفكر الفلسفي والكلامي الإسلامي، ربما اعتبرها البعض عادية وعابرة، ولكن للعادي والعابر قيمة وحيوية لا تقلان بتاتا عن قيمة وحيوية المهم والأساسي.

     في هذه الرواية اختار المبدع شخصية تاريخية صاحب مسيرتها الحياتية والفكرية كثير من الجدل، شخصية كان لها حضور قوي كبير في تاريخ الفلسفة والفكر الإسلامي والطب وباقي العلوم والمعارف، “أبو علي الحسين بن عبد الله بن سينا البخاري” الذي ولد في قرية “أفشنة” بمحيط مدينة “بخارى” سنة 370 هـ، وتوفي بمدينة “همذان” سنة 427 هـ، وقيل مات مسموما سنة 428 هـ وهو في طريقه إلى مدينة ” همذان ” وهو يعاني من آلام شديدة في البطن كان يعالجها بحبوب صنعها بنفسه من حبوب الكرفس ممزوجة بمقدار محدد من مادة الأفيون، وداخل الطمع عددا من خدمه فقاموا بسرقته ودسوا له في الدواء مقدارا زائدا من الأفيون شديد السمية عجل بموته. “ابن سينا” الذي شغل عصره وملأ مكانته في زمنه لقب بعدة ألقاب، الشيخ الرئيس، وحجة الحق، والوزير، والمعلم الثالث… قيل بأن الشيخ الرئيس كان سنيا حنفيا، وقيل إنه كان شيعيا إسماعيليا على مذهب أبيه “عبد الله”، مع العلم أن الثابت عن الحكيم أنه كان يرفض المذهبية بشدة، ويعتبرها مدخلا للخراب، وإثارة الفتن، والاضطرابات. وقد عاش ” ابن سينا ” فترة انحطاط الدولة العباسية أيام الخلفاء، الخليفة العباسي ” الطائع “، والخليفة العباسي ” القادر “، والخليفة العباسي ” القائم “…، وبلغ ضعف الدولة العباسية درجة مريعة عند سقوط دولة وإمارات البويهيين، وقيام الدولة السلجوقية بزعامة ” طغرلبك “.

     من بين كثير من المتغيرات السريعة والقاسية التي عرفها ” ابن سينا ” في حياته اختار المبدع ” يوسف زيدان ” فترة سجنه بقلعة ” فردقان “، وهي قلعة تقع في شمال فارس في منطقة نائية معروفة بشدة البرودة، وبانتشار الصقيع في جنباتها، وهناك من اعتبر أن اسم هذه القلعة هو ” فردجان ” أو ” نردوان “، والأمر ربما يعود إلى التسميات المعروفة والمنتشرة في المنطقة، وربما يعود كذلك إلى طبيعة الترجمة من اللغة الفارسية إلى اللغة العربية. ويظل المهم هو اختيار المبدع العربي لهذه التسمية لكي يخط بها رواية مستلهمة من التاريخ، وهو الأمر الذي يبرع فيه كثيرا ” يوسف زيدان “. لقد عمل هذا المتمكن على استعادة بناء شخصية ” ابن سينا ” النفسية، ومجرى حياته، مع إعادة تثبيت آرائه وفكره ومؤلفاته، لقد كانت فترة حبس الشيخ الرئيس في ” فردقان ” على مستوى الرواية علامة على تركيز أفكاره ورؤاه وتصوراته، مع العمل على تدوينها في أوراق ” الكاغد السمرقندي الصقيل ” كتبا في الطب والحكمة، والإلاهيات، والطبيعيات…        

     قدم المبدع العربي روايته عن طريق وضع عناوين فرعية بعد العنوان الأصلي شديد التعبير والبيان، وبدا الأمر وكأن الرواية تنقسم إلى فصول مستقلة، وقد أسهمت هذه العناوين الفرعية في إسباغ قدر كبير من الجمالية والفنية والحرفية على العمل، باعتبارها تستوعب العنوان الأصلي وتعمل على إغنائه وتخصيبه، إن تقنية العناوين الفرعية في الرواية تعود طبعا إلى اختيار المبدع، على اعتبار أن ما يبررها هو المادة الغزيرة التي تتشكل منها منحنيات الشيخ الرئيس الشخصية والتي تستطيع أن تشغل قدرا هائلا من الصفحات، وحصرها يبدو أمرا بدهيا من أجل التحكم في جميع المسارات الزمنية، والحياتية، والفكرية للشيخ الرئيس، وقد وردت هذه العناوين الفرعية لدى مبدع الرواية محددة ومنظمة ومضبوطة، وبالتالي معبرة ومجسدة لمجرى حياة الشيخ الرئيس بكل ألوان الصعود والهبوط، والحزن والفرح، والألم والدعة، بمعنى بكل أسباب ومسببات الحياة العاصفة للشيخ الرئيس. إن تقديم هذه العناوين الفرعية حسب الآتي سوف يمكننا جميعا من التوصل إلى الحصول على تصور تقريبي للبناء الروائي لدى ” يوسف زيدان “، وإلا فإننا جميعا في حاجة ماسة لقراءة وتتبع هذه الرواية التحفة:

1- المزدوج:

     هو ” منصور المزدوج “، آمر قلعة ” فردقان “، بمعنى حاكم القلعة ومدبر شؤونها، توجد قلعة ” فردقان ” هذه في شمال بلاد فارس ذات الطقس الصقيعي، وقد تم تخصيصها لسجن كل من تسول له نفسه معارضة الحكام أو محاولة النيل منهم، فهي بمثابة منفى وسجن. آمر القلعة هذا لقب بالمزدوج لأنه كان كثيرا ما يتخذ لحياته الأشياء بضعفها مخالفا بذلك الناس الآخرين، والتصق به هذا اللقب أكثر عندما اتخذ لنفسه زوجتين اثنتين كانتا تسكنان معه في القلعة في جناح خاص يسمى ” دولت كوجك “، وقد أنجب عدة أبناء وبنات من الزوجتين، لقد كان هذا الآمر ضخم الجثة قاسيا وشديدا في التعامل مع السجناء ومع جنده، ولكنه استقبل الشيخ الرئيس لما ورد على القلعة بحفاوة وترحاب، لأنه كان يسمع به كثيرا، وكان معجبا بآرائه، وبراعته الكبيرة في الطب، وعلاج المرضى، وهو الأمر الذي جعل الآمر منصور يعتبر ” ابن سينا ” ضيفا على القلعة يعامل بكل احترام وتقدير، وفي نفس الوقت سوف يتكفل الطبيب بعلاج المرضى من السجناء والجند، ومن غرائب الصدف أن يكون الآمر ” منصور المزدوج ” هو أول من عالجه الطبيب داخل القلعة من ألم الحصى، الشيء الذي زاد من قدر الطبيب لدى الآمر. لقد كانت قلعة ” فردقان ” وهي تحت تصرف الآمر منصور تابعة للحكام في مدينة ” همذان “، وقد كان الآمر يردد أمام ” ابن سينا ” بأنه لا يقدم ولاءه لأحد مخصوص من الحكام، إذ أمام الصراعات، والاضطرابات، والحروب الكبيرة فإن الآمر يؤكد بأنه سوف يكون تابعا وخادما لكل حاكم أو أمير أو ملك يحكم مدينة ” همذان “. وقد كانت نهاية الآمر ” منصور المزدوج ” مفجعة، حيث بعد سنوات من خروج ” ابن سينا ” من القلعة سوف يقتل على يد جنود ” محمود الغزنوي ” الذي اكتسح دولة وإمارات البويهيين، واحتل قلعة ” فردقان “.      

2- شيخ الرستاق:

     هو رجل جليل واسع الثراء يدعونه ” أبو الزهير “، وهو يتكفل بتدبير شؤون الناس في الأراضي التي يسمونها ” الرستاق “، وهو عبارة عن تجمع من القرى المتناثرة حول الهضاب قريب من قلعة ” فردقان ” بمقدار ساعتين زمنا من المسير بواسطة الخيل، والبغال، والحمير، يعرف بالشيخ لأن الناس يثقون به كثيرا، ويتكفل بتيسير حياتهم عن طريق تسهيل العلاقة بينهم وبين الحكام، وهو الذي يتكفل بمد القلعة بحاجياتها من الطعام والشراب وغير ذلك من أمور الحياة الضرورية، وقد كلفه الآمر ” منصور المزدوج ” بجلب الأدوية، والأعشاب، ومتطلبات العلاج لكي يقوم ” ابن سينا ” بخلطها، وصناعتها لعلاج المرضى في القلعة، وقد عمل الشيخ على جلب ” ماهيار ” وأخته الحسناء ” ماهتاب ” لكي يدرسا على الشيخ الرئيس الطب، والفلسفة، والحكمة المشرقية…

3- روان:

    هي المرأة الثانية في حياة ” ابن سينا “، عشقها الشيخ الرئيس بشدة، ولم يكن يرتوي من وصالها، وهي في الأصل من المولدات، وأهداها له بعد أن أبدت عشقها، وولعها بالشيخ الرئيس أحد أفراد الأسرة البويهية في منطقة ” قزوين “، وكان ” ابن سينا ” قد ذهب إلى هناك بطلب من ” الخاتون ” البويهية لكي يقوم بمداواة ابن أحد أقربائهم، ولكي يدعو البويهيين إلى نبذ الفرقة، والتنافر بينهم حيطة وحذرا من ميل ” محمود الغزنوي ” عليهم لغزو ممالكهم.  ولما عاد الحكيم من رحلته عين وزيرا في مدينة ” همذان ” من طرف الأمير البويهي ” أبي طاهر شمس الدولة ” فلاحظ أن بعض القادة العسكريين فاسدين، فصنف رسالة في كيفية لجم شكيمة الجند والعسكر، لم ترقهم بتاتا، فغضبوا عليه، واقتحموا بيته، وسرقوا أغراضه، وضربوه، ثم كبلوه، وأخذوه إلى السجن، ومن ثمة عزل من منصبه، ونفي بدلا من إعدامه، فترك مدينة ” همذان ” واتجه إلى مدينة ” دهستان “، وقام أحد من الجند باختطاف محبوبته، ومحظيته ” روان ” بعد أن قضى معها ” ابن سينا ” مدة من الزمن ذائبين في العشق والغرام، وخرج بها من المدينة، ولم يظهر لها أثر بعد ذلك، فظل الشيخ الرئيس حزينا مهموما حيث لم يستطع تحمل فراق محبوبته ” روان ” الفاتنة.

4- ماهيار:

     تلميذ الشيخ الرئيس في قلعة ” فردقان “، يسكن في إحدى قرى الرستاق المجاور للقلعة، جاء به ” أبو الزهير ” شيخ الرستاق وقدمه إلى ” ابن سينا ” بعد إذن الآمر ” منصور المزدوج “، وقد كان شغوفا بالطب وسبق له أن درس على يد ” أبي الريحان البيروني ” عندما كان نزيلا لدى السلطان ” محمود الغزنوي “، وقد كان خير مساعد للشيخ الرئيس في علاج المرضى بالقلعة وصناعة الأدوية تحت إشرافه.

5- ماهتاب:

     شابة حسناء فائقة الجمال، تسكن مع أخيها ” ماهيار ” في الرستاق، وقد كانا يسكنان سابقا في مدينة ” شيراز ” التي يعرف أهلها برخاوة العيش، ورهافة الحس، تمتلك مع أخيها مالا وفيرا يضمن لهما رغد العيش، ولذلك كرسا كل وقتهما للعلم والمعرفة، وردت على قلعة ” فردقان ” من أجل تحصيل المعرفة على يد ” ابن سينا “، وهي على عكس أخيها ” ماهيار ” لم تكن تهتم فقط بالطب، بل كانت شغوفة كذلك بالفلسفة، والإلاهيات، والحكمة المشرقية، أسهمت مع الشيخ الرئيس في علاج زوجة الآمر ” منصور المزدوج ” عندما أصيبت بنزف خطير كاد يودي بحياتها. وقد عشقها ” ابن سينا “، وعشقته هي الأخرى، وجرت بينهما علاقة جسدية لفترة محددة، ثم افترقا، بحرقة، ولوعة بسبب ظروفهما القاهرة المختلفة.

6- سندس:

     جارة أسرة الفتى اليافع ” الحسين بن سينا ” في مدينة ” بخارى ” التي كان يستقر فيها أبوه ” عبد الله بن سينا “، وأمه ” ستارة “، وأخوه ” علي بن سينا “. توفي زوج سندس وتركها أرملة صغيرة في السن، جميلة، مكتنزة، بضة، مثيرة، وقد كان بيتها ملاصقا لبيت أسرة ” ابن سينا “، عملت على إغواء الفتى ” حسين ” ذو الثمانية عشر ربيعا بطرق شتى جعلت الفتى يهفو إليها وهو في عز فحولته، ورغبته الحارقة، فأقبل عليها لمدة زمنية لا بأس بها، حيث كان بينهما وصال لا ينقطع حتى أحس بانجذابه إليها، وكان في تلك الفترة يدرس الطب على يد أستاذه ” أبي سهل المسيحي” الذي قدمه إلى الأمير ” منصور بن نوح ” الساماني في مدينة ” بخارى ” الذي كان يعاني من مرض خطير، فاستطاع ” ابن سينا ” رغم فتوة عهده بالطب أن يعالجه، فيسر له الأمير أمر ولوج المكتبة السامانية التي استفاد منها كثيرا. بعد ضغط من ” سندس ” لكي تنجب منه طلب الفتى ” حسين ” من أمه تزويجه بها، فرفضت أمه رفضا قاطعا، مؤنبة إياه على فارق السن الكبير بينهما. وبعد حصول مشاكل بينهما ترك الفتى ” حسين ” عشيقته ” سندس ” وانتهت العلاقة بينهما، وقد كانت أول امرأة تعلم الفتى اليافع معنى الأنوثة، ومعنى الوصال.                                                

7- حي بن يقظان:

     حكاية أملاها الشيخ الرئيس على معشوقته ” ماهتاب ” في قلعة ” فردقان “، وهما يختليان ببعضهما البعض في غرفة ” سجين فردقان “، تارة يتدارسان العلم، والطب، والفلسفة، وتارة يملي الشيخ على ” ماهتاب ” وهي تكتب بخطها الرشيق أجزاء من ” القانون في الطب “، وأجزاء من ” الشفاء “، وأحيانا أخرى يتبادلان الوصال والصبابة، خصوصا عند غياب أخيها ” ماهيار “، فهو لم يكن يستطيع السهر الطويل ليلا مثل ” ابن سينا ” الذي كان يصل الليل بالنهار معالجا المرضى، ومناقشا للعلوم والطب والفلسفة، ومدونا لأجزاء من كتبه. لقد كانت رسالة ” حي بن يقظان ” طلبا خاصا من ” ماهتاب ” حيث كان لها عشق خاص للحكمة المشرقية، فطلبت من ” سجين القلعة ” رأيا في ذلك فأملى عليها حكاية ” حي بن يقظان “، وهي رسالة شديدة التعقيد، كثيفة الترميز، يصعب جدا فهمها لمن لم يكن متمرسا بآراء الشيخ، ومطلعا على طريقته في بناء دلائله لفك طلاسم الترميز. وقد كان ” ابن سينا ” قد ضمن آراءه عن الحكمة المشرقية في كتابه ” الإنصاف ” عندما كان في مدينة ” أصفهان ” بعد خروجه من القلعة، ولكن النسخة ضاعت تماما بعد غزو السلطان ” محمود الغزنوي ” للمدينة، وقيام جنوده بالعبث بكل شيء، بما في ذلك المكتبات حيث أحرقت كثير من الكتب، وغالبا كان كتاب ” الإنصاف ” من بينها، فضاع إلى الأبد.  

     من خلال هذه العناوين الفرعية السبعة نستطيع قراءة الرواية، باعتبار هذه العناوين تحدد بدقة مختلف جوانب حياة ” سجين فردقان ” وتعمل على ضبطها كذلك عبر تقريب التاريخي، وبسط التخييلي، لقد كان مبدع الرواية بارعا في الفصل بين التاريخي وبين الروائي التخييلي، حافظ على النسق التاريخي الزمني بصرامته، وأحداثه الثابتة، وأجاد  في التخييلي إلى درجة استحضار التخييل المجنح الذي يتجاوز أحيانا التصور إلى الحس والعيان، خاصة في وصف علاقات العشق والوصال بين ” ابن سينا ” وبين النساء الجميلات اللواتي كانت تربطه بهن صلات الود والغرام، مثل الأرملة ” سندس “، والمولدة ” روان “، وبنت مدينة ” شيراز ” والرستاق ” ماهتاب “، ناهيك عن الجواري والمحظيات، كان الشيخ الرئيس مولعا كثيرا بالنساء، ويحب الاستمتاع معهن باستمرار، وعد ذلك في إحدى آرائه الطبية علامة على الصحة والعافية، وشرطا في دوام الحبور والانشراح، ونصح بهذا كثيرا من الملوك، والحكام، والأمراء.

     وظف المبدع في بسط مجريات الرواية عبر حياة الشيخ الرئيس عدة ضمائر، واعتمد السارد في حكيه لمجريات الأمور على ضمير الغائب، وهو اختيار صائب، ومضبوط، بل ومطلوب، لأن المقام يرتبط بتاريخ مضى، وانتهى، وباد، وبقيت آثاره بالغة التأثير، ولذلك كان طبيعيا جدا أن يكون السرد بضمير الغائب، ولكن المبدع كان ذكيا للغاية ويعرف جيدا كيف يمزج بين الضمائر حسب الوضع، والمقام، والمتواليات السردية، فهو في مجال التركيز على الأحداث التاريخية يركز على ضمير الغائب، وعندما يركن إلى الروائي التخييلي كان يوظف باقي الضمائر، المتكلم، والمخاطب، فنرى ” ابن سينا ” يحكي بضمير المتكلم عن نفسه وعن الأحداث التي نسجت خيوط حياته، ثم نجد آمر القلعة ” منصور المزدوج ” يرسل كلامه بضمير المخاطب وهو يتبادل الحديث مع ” سجين القلعة “، أو مع جنوده. وقد عمل الروائي على تحريك وتشغيل شخصية الشيخ الرئيس إلى درجة قصوى، وجعله في النص الروائي مركزا للتنويع في جميع ضمائر الحكي.

     لقد استثمر الروائي حبس الشيخ الرئيس في قلعة ” فردقان ” من أجل إعادة ترميم حياته عن طريق عرضها وتجميعها مع أفكاره وآرائه، حيث أغلب أحداث الرواية تدور في عمق نفسية ” سجين القلعة “، فقد وظف المبدع تقنية ” الفلاش باك ” بكثرة، وهي التي أتاحت له تشغيل كل الطاقة التخييلية التي مكنته منها الفترة التاريخية، وأسعفته في إعادة ترتيب حياة ” طبيب القلعة ” بطريقة مساوقة لمجرى حياته الشخصية الحقيقية، وهذا واحد من الممكنات الخصبة التي عملت على إخراج الرواية بشكل بديع، لقد عمل الروائي على إدخال الشيخ الرئيس إلى ” فردقان “، ثم عمل على إحياء نفسيته، وقام بإنعاشها، ثم خرج به من جديد، وطاف به طويلا بين ” الري “، و” قزوين “، و” همذان “…، ثم عاد بالهائم مرة أخرى، إلى ” فردقان ” بعد أن تأكد ” الحكيم ” من فقدان ” روان ” إلى الأبد. إن العودة إلى عمق النفسية روائيا، وإسنادها بالأحداث الثابتة تاريخيا مكنت الروائي من السياحة طويلا بالشيخ الرئيس ومعه في ربوع الممالك البويهية الثلاث ” الري – أصفهان – همذان “، بالإضافة إلى منطقة ” قزوين “، ولذلك كانت الرواية منفلتة، وغير مستقرة، وقلقة، مثل حياة ” ابن سينا “، وفي عمق هذا الانفلات تكمن الجمالية، حيث تحس بكثير من الحركة، والنشاط، والحيوية، وكلها عناصر تخلق الإثارة، والتشويق، والتطلع إلى الوقوف على كل التفاصيل التي كانت ملتصقة بحياة الطبيب. ولكي يزيد في عملية تطويع التاريخي للتخييلي الروائي لجأ المبدع بالإضافة إلى تقنية ” الفلاش باك ” إلى توظيف تقنية الحوار، حيث شكل الحوار في الرواية جانبا كبيرا من راهنيتها، وقوة إقناعها، وقد كان الحوار مجالا لتجسيد الحياة والحركية المباشرة في الأحداث، كما كان مجالا مفتوحا لشخصيات الرواية لكي تتجاذب عناصر إثبات الوجود والحضور، ثم إن طبيعة الحوار في الرواية لم تكن جامدة، بل كانت متحركة بسبب تنوع الأحداث، وتواترها المستمر، مع الاختلاف الملموس في طبيعة الحوار الذي يجمع الشخصيات ويسهم في توسيع نطاق تحرك الرواية وامتدادها، نلفي حوارا بين الشيخ الرئيس وآمر القلعة، وهو حوار مبني على العلاقة الرابطة بين عسكري وبين عالم كبير، كان قوامه قضاء الأغراض، والود، والاحترام، وعلاج المرضى، والاستشارة في بعض الأمور العالقة. ثم حوار بين ” ابن سينا ” وبين تلميذه ” ماهيار ” أو تلميذه ” أبو عبيد الجوزجاني “، أو تلميذته الجميلة ” ماهتاب “… حوار فيه تركيز على الطب، والفلسفة، والحكمة، وقد كان المبدع يقوم ببناء حوارات صاخبة يستثمرها في عرض آراء ” الشيخ الرئيس ” في ما يتعلق برغبات تلاميذه، فهو تارة يناقش في كيفية علاج ” القولنج “، وفي كيفية وقف النزف، وفي كيفية علاج الأسنان، وفي كيفية علاج حصى الكلي… وتارة أخرى يناقش في الموجودات ويقرر أنها تتحدد في واجب الوجود بذاته، وهو مبدع الكل، وممكن الوجود بذاته واجب الوجود بغيره، وهو الكل الذي أبدعه مبدع الكل، ثم طبيعة النفس البشرية وأنواعها، والبعث بالأرواح والنفوس دون الأجساد، وكذلك الحوار المبني على الخلاف حول علم مبدع الكل هل هو بالكليات فقط أم حتى بالجزئيات؟ وكذلك الحوار المبني على القول بقدم العالم من حيث تعلقه بقدم مبدع الكل، وحدوثه من حيث خلقه من طرف مبدع الكل داخل الزمان، لقد كانت فلسفة وآراء ” ابن سينا ” الفكرية النظرية تتحدد بين البداية والنهاية، فهو بعد نكبته عندما كان وزيرا في مدينة ” همذان ” لا يريد أن يبدأ أي شيء، خوفا من ضياعه وتلاشيه، وفي نفس الوقت يود لو ينتهي كل شيء، ويدون جميع آرائه في كتب مصنفة… وطورا آخر كان ” ابن سينا ” يفتح حوارات دقيقة مع معشوقته ” ماهتاب ” حول الحكمة المشرقية، فيقنعها الحكيم بأن الحكمة المشرقية لا تصلح بتاتا للعوام، وهي تصلح فقط لخاصة الخاصة، ولذلك كان لا يبسط القول فيها، ولا يجاهر بمقولاتها، وقد ضاع كتابه ” الإنصاف ” الذي عرض فيه أسرار الحكمة المشرقية.

     لقد كان للحوار في الرواية قيمة بالغة، حيث كان حاسما في وشي معمار الرواية بكل ما هو مفيد، وجميل، بواسطته كان السارد يتحمل باستمرار عناء الترجمة من اللغة الفارسية إلى اللغة العربية، وبرع المبدع بواسطته في وصف علاقات الحب بين الشيخ الرئيس وبين عشيقتيه ” روان – ماهتاب ” بالتفاصيل والأشعار، ولا يعدم المبدع أن يجد لنا أو يخلق لنا إثارة تعمل على نزع الرواية من أسر الصرامة التاريخية، كعلاقة حب أو غرام، أو نكبة، أو سفر، أو مطارحة علوم ومعارف…

     كان السرد يتنامى في الرواية عن طريق البناء، والبحث عن أنشطة مختلفة وحركية للشخصيات، ومسألة تشكيل الشخصيات في الرواية بالغة الأهمية، لأن الأصل في الموضوع أن هذه الشخصيات لها وجود تاريخي، وتحويلها من العمق التاريخي إلى العرض الروائي يقتضي تصورات مستندة إلى الأبعاد النفسية العامة التي كانت تتميز بها كل شخصية على حدة، بحيث تكون تلك التصورات مرتبطة بالتأثير الذي أحدثته كل شخصية في حياة الناس، وهو أمر انتبه له المبدع وأدرجه في مسألة تشغيل الشخصيات فقدم ” سجين القلعة ” بطريقة بدا فيها شديد الاضطراب، والقلق، والتوجس من الآتي، والحذر في التعامل مع الحكام، وهي معطيات جد طبيعية يتقاطع فيها التاريخي والروائي من حيث طبيعة الأحوال التي سادت في فترة وجود ” ابن سينا “، وهي أحوال لا تشعر أحدا بالأمان أبدا حاكما كان أو محكوما، أما الشخصيات الأخرى فقد عمل المبدع على بناء خصائصها بطريقة تحولها وتجعلها عبارة عن أدوات طيعة في خدمة ” سجين فردقان “، وهو ما نلاحظه بدقة عندما نتتبع علاقات الحكيم بآمر القلعة، وشيخ الرستاق، و” ماهيار ” وأخته ” ماهتاب “… إن هذه الشخصيات التي رسمها وحركها المبدع في الرواية تتميز جميعها بنوع من الثراء لأنها أسهمت كل واحدة من جانبها ودورها التاريخي والروائي في خدمة الشيخ الرئيس، ومساعدته على إعلان آرائه، وتدوينها في المصنفات والكتب، بمعنى أوضح جميع الشخصيات من الرفيع منها إلى الوضيع قامت بدورها ووظيفتها في الرواية، وأنجزت مهمتها التي أوكلت إليها بكل دقة، وجميع هذه الأدوار التي لعبتها هذه الشخصيات كانت تشتغل على هدف واحد وهو استعادة آراء الشيخ الرئيس، والحرص ما أمكن وحسب الظروف على تدوينها.

     لا يجب أن ننسى السؤال الذي يعتبر تقنية مهمة وظفها الروائي في عمله، لقد وظف المبدع تقنية السؤال بكثرة وكأن الموضوع الذي هو بصدده وهو الفلسفة هو الذي كان يوحي له بذلك، بل يفرضه عليه، والحال أن كل آراء ” ابن سينا ” بنيت على السؤال والأسئلة، سواء منها في الطب، أو الفلسفة، أو الإلاهيات، أو الحكمة المشرقية… ثم صيغة هذه الأسئلة كانت إما شفوية كما هو الحال مع ” ماهيار “، و” أبي عبيد الجوزجاني “… وإما شفوية كما هو الحال مع ” ماهتاب “… لقد كان حضور السؤال طاغيا في الرواية، وكان له دور واضح في العمل على استعادة آراء ” ابن سينا ” من خلال تقديم جميع أطوار حياته، فقد كان المبدع يقدم تفاصيل حياة الحكيم بتوظيف تقنية الجرعات، مرة يقدم نتفا من حياته وفكره وآرائه حضوريا، من خلال حوار مبني على أسئلة من طرف تلاميذه ومحاوريه، ومرة عن طريق اقتحام الغياب بواسطة ” الفلاش باك “، حيث يخرج ” سجين فردقان ” من القلعة محلقا، فيطوف على الممالك البويهية، ويستعيد أهم المراحل التي تعاقبت في حياته القلقة، والمضطربة، لأن  الشيخ الرئيس كان دائم التنقل بين النواحي الخوارزمية، والخراسانية، والفارسية، ولذلك نقول إن الروائي أفلح في جمع شرود ” ابن سينا “، وتشرده، وجولانه حول الممالك والإمارات البويهية، وفكره، وآرائه، وتاريخه في فترة واحدة، هي فترة مكوثه في ” فردقان “.

     عمل المبدع ” يوسف زيدان ” على تمليك زمام السرد لسارد مهيمن، ومسيطر على كل شيء، فقد كان هذا السارد مشرفا من عل على جميع المجريات التي تقع في القلعة، كما كان ملما بالتفاصيل كلها التي ترتبط بحياة ” سجين القلعة “، وهو ما مكنه من التصرف بطريقة مريحة في تصريف، وتنظيم حياة الحكيم، والأمر في الأصل له صلة بصعوبة التعامل مع المنحنيات الشخصية والفكرية لحياة الشيخ الرئيس، وتجميعها، فكان تسليم الزمام لسارد صارم مسألة مستساغة روائيا، وقد كان مصيبا في عملية ترتيب المعطيات. ونلاحظ بأن هذا السارد كثيرا ما كان يثبت الأحداث ويجزم بوقوعها على المستوى التاريخي قبل نضج دورها الروائي، فقط لكي يثبت للقارئ تمكنه، واطلاعه، ولكي لا يتركه عرضة للتفكير في الاحتمالات الممكنة التي بمقدورها التشويش على عملية القراءة، وإزعاج عملية تشييد العالم الخاص بكل قارئ في تدبير نشاط فكره وتخييله، وطريقة تعامله في استقبال رسائل الرواية ومضمونها، ولذلك كان السارد كثيرا ما يثبت هذه الأحداث قبل وقوعها، ويؤكد سريانها، ويصادر عليها، مثل رغبة ” الخاتون ” في جمع شتات البويهيين عن طريق تكليف الشيخ الرئيس بالقيام بذلك في منطقة قزوين، سوف يؤكد السارد بأنه رغم قيام ” سجين فردقان ” بهذه المهمة على مستوى الرواية، فإنها فشلت لاحقا على مستوى التاريخ، وفشلت معها مساعي ” الخاتون “، وظل البويهيون في شقاق حتى اكتسح ” محمود الغزنوي ” ممالكهم وإماراتهم. وكذلك إشارة السارد بأنه بعد سنوات من سجن الشيخ الرئيس سوف ينام على فراشه الذي كان يستعمله في القلعة أمير أصفهان ” علاء الدولة بن الكاكاويه ” بعد أن فر من إمارته هاربا، وتمكن جنود ” محمود الغزنوي ” من تعقبه وقتله في ” فردقان “… 

     داخل قلعة ” فردقان ” كان الشيخ الرئيس محبوسا، ولم يكن وجوده بالقلعة قادرا على خلق أحداث وفيرة كافية لاستيعاب القدر المطلوب لتسويد رواية متكاملة، ولذلك لجأ الروائي إلى التفريع الحكائي من أجل الالتفاف التام حول جميع أو على الأقل على أكبر قدر ممكن من الأحداث التي أسهمت في تشكيل معالم حياة حكيم كبير مثل ” ابن سينا “، لقد ارتبطت جميع حكايات شخصيات الرواية بعلاقة دائرية، تدور حول الدائرة ثم تحوم حول مركزها وتلتصق به وهي تنصهر مع أصل الحكاية التي هي حكاية ” سجين فردقان “، فنرى إذا بأن الحكايات تم تقديمها بطريقة عنقودية متشابكة، كل حكاية تبني الأخرى وتسندها، وكل واحدة تفضي إلى الأخرى لتشييد ملحمة الحكيم، لقد كانت الحكايات تترى بطريقة عمودية، يوجهها الشيخ الرئيس، وبطريقة أفقية، توجهها باقي الشخصيات المؤثرة والفاعلة في حياة الحكيم، وفكره، وآرائه. فنرى مثلا ” ماهيار ” تلميذ الحكيم في ” فردقان ” يقص حكايته التي جرت سابقا… حيث يبدو التفريع الحكائي في هذا الحكي واضحا عندما وظفه المبدع لتخفيف الوقع على القارئ، بسبب كثرة المعاني، والآراء الصعبة، والمعقدة التي ترد في كلام ” سجين القلعة “، وكتاباته. وداخل حكاية التلميذ المخلص ” ماهيار ” ينبري ” ابن سينا ” ويتسلم زمام السرد، ويحكي واحدة من حكاياته، مثل حكايته مع أستاذه ” أبي سهل المسيحي ” الذي قضى بين يديه مختنقا في عاصفة صحراوية بعد أن خرجا من بلاط الأمير ” مأمون بن المأمون ” البويهي رافضين دعوة ” محمود الغزنوي ” قصد الانضمام إلى بلاطه في مدينة ” غزنة ” حيث أراد الاسئثار بجميع العلماء والحكماء، وبهذه الطريقة كانت وتيرة الرواية تتصاعد، ويتنامى السرد، تنقطع الحكايات وتعود مرة أخرى قصد تحقيق الاكتمال، وتكتمل بالتناوب، يحكي التلميذ ” ماهيار ” عن أستاذه الذي كان يحبه كثيرا ” أبو الريحان البيروني “، ثم يتوقف في جزء معين من الحكاية، ويشرع الشيخ الرئيس في الحكي عن أستاذه ” أبي سهل المسيحي ” أو عن غيره، ثم يتوقف برهة، ويعود التلميذ لإتمام حكايته، ويعطي الفرصة للحكيم لإتمام حكايته هو الآخر… ونفس الشيء مع باقي الشخصيات، ويسهم هذا الاختيار في تكسير نزوع القارئ إلى الملل، أو الإحساس بالرتابة، ويفتح أمامه أفقا خصبا كله متغيرات، ومثيرات، وانتظارات.  

     دخل “ابن سينا” سجينا إلى قلعة “فردقان” في عهد الأمير البويهي “سماء الدولة”، وقائد جنده “تاج الملك”، ولما عاد قائد الجند هذا إلى مدينة ” همذان ” بعد فتن واحتكاكات، أمر بإخراج الشيخ الرئيس من سجنه، واستصحبه معه، فنزل “ابن سينا” في دار “العلوي”، واشتغل بتصنيف المنطق من كتاب “الشفاء”، وكان قد صنف بالقلعة كتاب “الهداية”، ورسالة “حي بن يقظان”، وكتاب “القولنج”، ولما خرج الشيخ الرئيس من “فردقان” كان قد قضى بها سجينا مدة أربعة أشهر، وبالضبط ثلاثة أشهر وخمسة وعشرين يوما.

 

                          

مقالات من نفس القسم