ولد الشاعر الفرنسي آرثر رامبو عام ١٨٥٤ وتوفي صغير السن في عام ١٨٩١ ، كانت حياته زاخرة بالسفر والتنقل، والرغبة في التعلم ، بدأ الكتابة منذ سن صغير، ترك أوروبا وعائلته لإحدى عشر عاماً تقريبًا، ثم عاد إليها إثر مرضه الشديد .
تورط في علاقة عاطفية مع الشاعر فيرلين الذي كان معجبًا به بشدة، انتهت تلك العلاقة نهاية مأساوية حين أطلق فيرلين على رامبو النار وألقي القبض على الأول، شغلت هذه العلاقة الوسط الأدبي حينها وعائلته أيضًا وسببت المتاعب للأطراف المعنية .
في روايته الجديدة “رامبو الحبشي” يقدم الروائي الإرتري “حجي جابر” رؤية جديدة، نحن أمام كاتب وشاعر، كانت حياة الثاني مثيرة وغامضة ومملوءة بالأسئلة لتدفع الأول بعد قرن مضى أن يكتب عنها سيرة متخيلة لا عن حياته فقط بل عن الذين كانوا حوله .
اتجه رامبو عام ١٨٨٠ إلى الشرق الأوسط وأخذ يتنقل بين الأسكندرية وهرر وعدن، ونجد في مقدمة “كتاب الأعمال الكاملة لرامبو” الذي قدمه وترجمه الشاعر الراحل رفعت سلام حديثًا عن رحلته تلك يأتي فيها:
“من هراري يعود رامبو بإمرأة اثيوبية ستشاركه حياته طوال عام ونصف العام . أما حبه لهذه المرأة فلا نجد له صدى في مراسلاته ، والأرجح أن والدته – أسيرة لمحرمات تلك الحقبة – لم تكن المؤتمنة المثالية لمثل هذا النوع من المغامرات.”
من هُنا بدأت القصة.
“ما أكثر الأسئلة .. ما أقل الأجوبة”
” حين بدا وكأنه يراها للمرة الأولى، أغلقت الباب “
بدأت الرواية بهذه الجملة وانتهت تقريبًا بها أيضًا، المشهد الافتتاحي هو النهائي أيضًا وما بينهما هو حكي يعود إلى الماضي على طريقة “الفلاش باك “كأنه يتساءل لماذا حين بدا وكأنها يراها للمرة الأولى أغلقت الباب؟
ثلاثة أطراف المثلث ،على الرغم من أنه يمكن اعتبار رامبو والحبشية هما الأبطال الرئيسيين إلا أن الطرف الثالث كان بداية القصة أو بشكل أدق استغله الكاتب ليعود بالأحداث للوراء ويروي لنا لماذا خشى هذا الطرف الثالث العودة ورؤية الحبشية رغم أنه كان يبحث عنها لسنوات.
دائمًا ما هناك طرفين مربوطين وطرف ثالث وحيد، هنا من المربوطان؟ وهل كانا كذلك فعلاً؟
لا أحد يعلم .
ربما يوحي عنوان الرواية للوهلة الأولى أنها عن” رامبو آآخر من الحبشة، لكن ما إن تبدأ في القراءة ” وببعض الإطلاع بالتأكيد” ستدرك أن رامبو هذا ليس مجرد شخص عابر بل هو على التحديد رامبو الشاعر الفرنسي، وما إن تغوص في صفحات الرواية حتى تجد أنها تتمحور بشكل كبير حول تلك المرأة الحبشية .
الكتابة تعطي للمهمشين أصواتاً، المرأة التي أحبت رامبو والتي لم يذكرها تقريبًا لأسباب غير معروفة سواء كما ذُكر أن أمه لم تكن الشخص الأنسب للحكي عنها أو لأي سبب آخر لا نعلمه ، هذه المرأة كانت الصوت الوحيد الذي كان مسموعًا من الأبطال، أخفض الكاتب كل الأصوات الأخرى، مكتفيًا فقط بصوت الراوي العليم ، والراوي الذاتي على لسان البطلة.
استطاع الكاتب تطويع صوت الراوي العليم في عدة مواضع بذكاء لطرح الأسئلة أو لإعطاء القارىء تنبيهاً أن هناك صورة أخرى وأن السبب الظاهر لنا ليس هو الوحيد، هذه الأسئلة كانت انعكاسًا للنفس البشرية ومدى تعقيدها بل أن هناك دومًا أسبابًا خفية وراء بعض التصرفات التي قد لا تُفهم بطريقة صحيحة .
“ما قادك شيء مثل الوهم “
قاد كل منهم وهمه في اتجاه ، فوجدوا انفسهم في اتجاهات أخرى تماماً – عكس ما كانوا يأملون
أملت الحبشية أن تذهب لهرر ورأت فيها الملاذ ثم أملت أن يراها رامبو ويحبها ، أمل رامبو أن يجمع ثروة طائلة يستطيع منها العيش والسفر كما يريد ، أمل صديق الحبشية أن تحبه وذهب خلفها غضبًا ما لبث أن اختفى حين رأها ، لكن كلهم لم يصلوا لشيء مما أملوه ، قادهم الوهم والأمل نحو بعضهم البعض وبذلك استطاع الكاتب أن يربط ويشابك بين حيواتهم بذكاء، بل إن طوال الوقت كان هناك تشابك بين الحيوات مكاتبة رامبو لأمه مثلًا فتتذكر الحبشية أمها التي خلفتها وراءها، هكذا .
“تعلمك الحياة بعد وقت أن تُعفي الأمور من تحميلها ما لم تحمله في الحقيقة، أن تكون أنت لا يعني أن أحدًا اختارك لسبب، قد يكون الأمر أنه كان عليه أن يختار فقط، وبالصدفة كنت أنت، تماماً كما لو كان يمكن أن يكون غيرك.“
تتابع الأصوات في الرواية بين الراوي العليم والراوي الذاتي طوال الرواية كان موفقًا جدًا، علم الكاتب متى يُصمت الراوي العليم ومتى على الحبشية أن تروي قصتها، دون أن يحجر على صوتها، بل وتدخل في أوقات مناسبة تمامًا كمعقب للقارىء لما روته الحبشية .
تعمق الكاتب في الشخصيات الثلاثة على حدة وحاول على لسان الراوي العليم أن يكشف في أحياناً كثيرة نفوسهم وتقلباتها وحتى مشاعرهم الوحشية ” كما في صديق الحبشية ” ثم تقلب حالته تماماً من الرغبة في الانتقام إلى السكون أمام حبيبته ، من ناحية أخرى محاولات الحبشية المتتالية لتكون قوية ومتماسكة أمام رامبو ثم ما تلبث أن ترضى بكلمات بسيطة منه، هذا التأرجح الواضح ما بين المشاعر من أقصى الشمال لأقصى اليمين استطاع الكاتب أن يتنقل بينهم بسلاسة وواقعية .
أما عن شخصية رامبو فكان يلفها الغموض، سواء بخصوص علاقته بأمه خاصة الرسالة التي ظل محتفظًا بها، أيضًا ذُكرت علاقته بفرلين بشكل عابر لكنه إذا قرأنا إلى نهاية الرواية نجد أنه كان مسببًا أيضًا ولهدف، ، وهنا أعود وأؤكد على دور الراوي العليم الذي أخذ طوال الرواية يُعطي لمحات ما لتكتمل الصورة لدى القارىء .
قُسمت الرواية إلى حوالي ٢١ فصل متباينة الطول لكن السمة الأساسية بهم أن قبل كل واحد منهم وضع اقتباس للشاعر الفرنسي رامبو .
يسير الخط الزمني للرواية في خط واحد من بداية المشهد الافتتاحي للرواية حيث نقطة التحول والعودة للماضي ومن ثم سار بخط مستقيم إلى أن يعود إلى نقطة البداية لكن كنهاية .
في النهاية جاءت الرواية موفقة، فالفكرة العامة لها والقصة التي تدور حولها بل اختيار الشخصيات سواء رامبو أو الحبشية وتتبع حياتهما ونسج قصص متخيلة عنهم كان جيدًا، ربما أسهم في لك أن الرواية مكثفة إلى حد كبير، فقد جاءت كل تلك الأحداث في 260 صفحة، لا يشعر القارئ بالملل فيها أو الاستطراد غير المناسب، ربما إلا في بعض الفقرات القليلة جدًا التي كانت تدور حول الحرب التي دارت آنذاك .
كان أسلوب الرواية ثريًا دون تكلف، لكنه لم يخل من كلمات أو عبارات غير مألوفة نوعًا ما مثلاً ” مهجوسًا/ الرهق وغيرها
حجي جابر روائي أرتري، حازت روايته الأولى “سمراويت” على جائزة الشارقة عام 2012، كما وصلت روايته “لعبة المغزل” للقائمة الطوئلة لجائزة الشيخ زايد عام 2016، وحصلت روايته “رغوة سوداء” على جائزة كتارا للرواية العربية 2019. تُرجمت بعض أعماله إلى لغات عديدة مثل الإنجليزية والايطالية والفارسية. “رامبو الحبشي” روايته الخامسة صادرة عن تكوين وفي طبعة مصرية عن مكتبة تنمية.