رواية “المؤشر عند نقطة الصفر” لـ أسماء هاشم .. قسوة المكان ومؤشر المشاعر

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

أحمد الليثي الشرنوبي

الروائية أسماء هاشم فى روايتها  "المؤشر عند نقطة الصفر" تغوص فى طمى الجنوب لتنحت وجوهاً تشبه لون هذا الطمى ( هكذا أبدو ... وجه أسمر بلون طمى النيل ) الرواية صادرة عن دار ميريت للنشر والمعلومات، وخلال خمسة فصول تتحلى بروح السرد الهادئة على لسان الراوية / البطلة "سمية".

تسرد أحداث الرواية من داخل “الحاجر” البعيد عن المدينة  يأتى سردها فى صورة رسائل أو مدوَّنات تدوِّنها لحبيبها الذى يعمل مرشدا سياحياً، “سمية” تعمل فى بازار سياحى بجوار المعبد   فى النهار تعيش بين السيًّاح عالماً مفتوحاً (ترانى باسمة أتنقل بينهم برشاقة قد لاتناسب ملابسى الطويلة ، أقدم لهذا عصا الأبنوس المحلاة برأس نفرتيتى) وعند غروب الشمس تعود لعالمها المُغلق الذى يقهرها ويعذب روحها ، إنها تضيق بقسوته وموروثه القمىء (تتدحرج خطواتى تجاه الحاجر يتغير لون حذائى الذى تراه لامعا فأتهيأ لدور جديد وحياة أخرى قد لاتتصور أنى أحياها لكنى سأكتبها لأكتشف ظلالها فى نفسى فربما أعرف سبباً لعجزى عن التواصل معك أو عجزك عن التواصل معى)، مملكة الحاجر “قبليَّة” يتحكم فيها الجد والجدة، الجد المهموم بنسب أبناء الحاجر وسلطته الذكورية، ومن المؤكد أنه سيرفض زواجها من حبيبها لأنه لاينتمى نسبه لأبناء القبيلة بالحاجر،  أما الجدة الصارمة فقد أرست دعائم مملكتها وتربَّعت فى قلب البيت مطمئنة القلب، وزَّعت سلطتها على أخريات ربتهن بطريقتها الصارمة، صرن مثلها يطبقن تعاليمها الموروثة بصرامة جافة ، هذه الجدة مهمومة بابنتها “عيشة” التى وصلت لسن العنوسة، بالرغم من أنها “عايقة”، مما يدفعها للذهاب إلى المشايخ وعمل بعض الطقوس من أجل زواجها (فى كل غروب كنت تحملين مبخرتك الفخارى وتوقدين النار وتضعين فيه الدواء، تنادين عمتى عيشة لتقف فوق المبخرة ، موسعة ما بين ساقيها)، تزوج أخوها ” محمود ” من ابنة عمه ” زينب ” بأوامر من الجدة وأثمر هذا الزواج عن ابنتين معوقتين ، أما ” كريمة ” صديقتها التى تبوح لها بما يدور فى مشاعرها ، هى الملاذ لها وقت الشدة ( وها أنا استرجع كلمات لم أشأ أن أمررها على عينى حتى لا أفسد نشوة تدغدغنى ، قالت لى كريمة آنذاك نصلح للحب ، وربما لاينبغى أن نحب فالحب عندنا للرجل فضيحة وللمرأة عار ) ، تحكى سمية عن جدتها وكأنها ملكة متوَّجة داخل مملكتها ، تدير البيت كما تشاء ، زوجات أبنائها ينفذون أوامرها بكل دقة ، تناولت الرواية قصة إنشاء مصنع السكر بمدينة كوم أمبو وحالة التغيير التى طرأت على المدينة بعد إنشائه بالرغم من خوف أبناء الحاجر منه فى بداية الأمر ( على مدى أقل من مائة عام كانت المدينة قد تعمرت وتمايز سكانها إلى موظفين وعمال وبقالين وغيرهم ) ومن خلال عبارات أدبية بليغة تكشف الراوية علاقتها الدافئة بحبيبها الذى تقابله خلسة عندما يأتى مع السياح إلى المعبد ، يبادلها المشاعر لكن مساحة الصمت تتسع بينهما ( تطول نظراتنا ومساحة من الصمت الشفيف تزحف وتزيح عنك قناع ولد شقى يطارده بنظراته بنتا محجبة ليكشف وهنها ) ،  عندما اكتشف الجد تآكل حواف سجلات نسب القبيلة التى ورثها عن أجداده جاء بأحفاده الذين يجيدون القراءة والكتابة وبينهم ” سمية ” كى يعيدوا كتابة النسَب ، حاولت ” سمية ” أن تعبث فى النسَب وتدخل حبيبها فيه ، بالرغم من خوفها الشديد (سريعا قلبت الصفحة قبل أن ينتبه أحد ، فكرت ربما أخطأت فى تدوين أسماء أخرى ، وربما أخطأ الجميع فى تدوين الأسماء ، ابتسمت لانتصارى على خوفى وفزعى .. لابأس طالما سيفتح هذا الباب لدخول آخرين وربما أنتَ) وتنتهى الرواية بهذه العبارة مخاطبة حبيبها الذى تكاد تفقده بسبب موروثات ونُظم القبيلة .

  عندما تطالع عنوان الرواية ” المؤشر عند نقطة الصفر ” تندهش كونه لايصلح عنواناً لرواية أدبية ، لكن بعد القراءة تتبدَّل دهشتك لأن الراوية / البطلة تحاول إعادة كل شىء محيط بها داخل الحاجرإلى نقطة الصفر ، حتى علاقتها بحبيبها التى تتآكل يوما بعد يوم بسبب الموروث الذى يقيِّد المشاعر ( وهل يمكننى أن أعيد مؤشر انفعالاتى إلى نقطة الصفر التى تتساوى عنها كل الأضداد ليصبح للحياة مرة أخرى اللا لون واللا طعم ) .

   الطقوس والمعتقدات التى تسكن عقول نساء الحاجر ويمارسنها بعفوية ، كشفت عنها الرواية فى أماكن كثيرة من أجل لفت الانتباه لها ومعالجتها ، المشايخ والدجَّالون يؤثرون على عقولهن سواء طلبا للزواج أو الحمل أو حتى المعيشة ( وهذه حفنة حنة مباركة  وضعت ليلة كاملة تحت رأس شيخ صالح ، طلب منك أن تذيبيها فى حلة ماء وتتركيها مكشوفة تحت نجوم السماء ، وقبيل الشروق تتحمم بها المقصودة ليزول عنها العمل ) ، مشاهد كثيرة رصدتها الكاتبة من داخل الحاجر وتفاصيل دقيقة تحيط بالناس هناك ، فى محاولة لكشف مايموج به المكان من سلبيات وإيجابيات .

   السرد جاء على عدة مستويات حيث أن الكاتبة استخدمت ضمائر عديدة ( المتكلم ، المخاطب ، الغائب ) المتكلم كون الراوية تمثل البطلة الحقيقية فى العمل وهى تربط مابين الأحداث كلها ، علاقتها بالمكان وناسها وحبيبها ( لحظات وأكون أمام البازار ) ، المُخاطَب عندما تخاطب جدتها أو عمتها ” عيشة ” أو حبيبها ، وحدث ذلك فى أماكن كثيرة داخل الرواية ( مهمومة أنتِ يا جدة بابنتك وحالها ) أما ضمير الغائب فله الغلبة داخل الرواية ، تسرد الراوية الأحداث ولاتنسى أن تكون جزءأ أصيلا منها (أمى كانت تحرس أرغفتها المدورة من نقرات الطيور وشقاوة وعبث الأطفال ) حتى الجُمل الحوارية استطاعت الكاتبة أن توظفها بعناية ولم يحدث أى خلل بالبنية الروائية ، والتى جاءت متماسكة بالرغم من تقسيم العمل لخمسة فصول .

     أهمُّ ما افسد هذه الرواية كثرة الأخطاء اللغوية ( نحواً وصرفاً وإملاءً ) لم تمر صفحة إلا وبها خطأ أو أكثر ، كنت أتمنى أن تتم مراجعة الرواية قبل الطباعة وتدقيقها لغوياً ، وبالرغم من ذلك تكشف لنا أسماء هاشم على قدرتها المتميزة فى السرد ورسم شخوصها بعناية وجرأتها فى كشف المستور وتعرية الواقع المُشوَّه بفعل الموروث القمىء ، فهى قادرة على أن تمسك بطرف الحكاية وتشعرك بالمتعة وخاصة أنها تكتب عن أماكن بكُر وجديرة بالكتابة عنها .

…………..

ندوة بقصر ثقافة إدفو لمناقشة الرواية عام 20

مقالات من نفس القسم