فريد أبو سعدة
للكتابة طقوس وللحياة طقوس مغايرة، وأنت تخضع في اللحظة المعينة لواحدة منهما، أن تعيش أو تكتب, عندما أدخل في طقس الكتابة يبهت العالم الخارجي، انه يختفي بالقدر الذي تتمدد فيه طقوس الكتابة مالئة الوعي كله، عندما تعيش فأنت تمتلئ بالخبرة، وتغزوك مشاريع للكتابة، مشاريع تنتج من التعامل اليقظ، العقلاني مع السياق، وهذا ما يمكن اعتباره طموح الكتابة، أما الدخول في الكتابة فشيء آخر، الأمر يبدو مثل سباح ينظر إلى الماء إلى الشاطئ يقدر المسافة ويحدد المسار والزمن الذي يحتاجه لذلك، ثم ينزل إلى الماء فتتغير التقديرات وتصبح مهمته هي السباحة ضد التيار أو معه في آن!.
القصيدة تباغتني كلسعة السيجارة، إنها تأتي وكأن ليس لديها وقت، إما أن تستدير إليها بكلك أو تغادرك تماما ، كثيرا ما تأتي كزائر الفجر، بعد أن يكل الجسد عبر مشاغبات النهار، تبزغ فجأة كضوء قاهر أمام عيونك المجهدة، تسلك من الفراش كخيط، وتلقي بك كالممسوس، لتبحث عن ورق وقلم، وكثيرا ما كنت في الصباح أجد أنني قنصت بعض العبارات فوق كراريس الأولاد أو على أغلفة الكتب أو الهوامش العمودية للصحف، تبدأ دائما بهذه الهمهمة الغريبة، الإيقاع الذي يحاول أن يضبط نفسه وتحاول أنت أن تتماهى معه، شيء كالمس، لابد أن شكلي بالغ الغرابة أمام أولادي وزوجتي.
أنا لا أُزكي الذات عندما أقو ل: إن الكتابة عذاب، في السنوات الأخيرة، نتيجة الخبرة بالكتابة، أصبح لدي الشجاعة لأقول لبعض الزوار: لا، أصبح لدي الخبرة بهاجس الكتابة الحقيقي وأصبح في مقدوري كنز القصيدة لمدة أطول قبل الشروع في مراودتها واقتناصها.
أحب الخريف والشتاء، حيث يصبح العالم حميميا وأكثر إنسانية، ما يشعرني بالتوحد والأسى، أحب الليل والهدوء، أحب صوت فيروز شرط أن يبدو قادما من بعيد ، خافتا مجرد همس تمارسه القطيفة، ولا يناوئ الوعي ابدأ وقد رتبت مكتبي، المطفأة على يميني كبيرة بقدر الإمكان، الورق الأبيض، والأباجورة على يساري مسلطة على البياض فيبدو مستفزًا، أنا الآن أمام سلطة البياض، القهوة، السجائر، بعض وجوه العائلة يطلون من الصور وأبادلهم الابتسام، ثم فوضى عارمة وأنهض منهكا حائرا، أحاول أن أخلص النص من هذه الفوضى، كمن ينظف الجنين الذي خرج لتوه، ثم ارتمي في الفراش كقتيل، لا مثل رجل خرج من المعركة بجروح كثيرة ويود أن يقول له أحد أنك أيضا جرحت خصمك جروحا عميقة هذا هو العزاء الوحيد.
أحيانا عندما يكون الوقت مناسبا أو لا يكون! أسرع بالنص إلى أقرب الأصدقاء وأطلب منه أن يقرأه علي، أريد أن أشعر بإيقاعه أريد أن أعرف هل أصبت القصيدة في مقتل كما أصابتني أثناء الكتابة أقوم واقعد، وأمشي في المكان بلا هدف، اصنع قهوة غير التي بردت، وأشعل سيجارة وفي المطفأة أكثر من سيجارة تحولت بطولها إلى رماد! أحدّق في الأشياء شاردًا، ثم أعود واقرأ ما كتبت، وأكتب لأغير بعض الكلمات وأتلكأ أمام مفردة، أتوجس من التوقف ثم أندفع فوق البياض المناوئ.
الآخرون هم الجحيم هكذا قال سارتر وكم هي صادقة هذه العبارة أستطيع أن أضيف إليها أن أحب الناس إلىّ أمام القصيدة هم آخرون! لأن الفعل الشعري أعمق بكثير من كل المواضعات الاجتماعية إنه زلزلة حقيقية وهو لاعتماده على مناطق من اللاوعي وعلى تداعيات قد تدهش الشاعر نفسه قبل القارئ، أقول نظرا لاعتماده على قانون مخالف للقانون الاجتماعي أصدْق بما لا يقاس من أي علاقة بين الشاعر والآخرين .
هذه الكتابة التي تؤرق وتزلزل وترّج تجعلني من حين إلى آخر انظر إلى القصيدة وقد اكتملت بشيء من الريبة، هل اصطدت حقا هذه السمكة التي لا أرها أم أن عدّتي لم تخرج سوى جزء منها، كثيرًا ما أستسخف القصيدة بعد أن عركتني وتركتني منهكا، وملقى كثوب مبلول، هذه المكابدة أغرب ما فيها أنها لا تحتكم إلى معيار ما، بل إنني كثيرا ما أتشكك في إعجاب البعض بما اكتب! ربما وصلت إلى قناعة ما بأن القصيدة التي أعود إلى قراءتها بعد سنوات من نشرها، وأجدها غريبة وجميلة وكأنها لشاعر أخر، هي القصيدة الجيدة وأعتقد أن كثيرًا من الرضا الذي يصاحب إنجازي لقصيدة ما يكون راجعا إلى اختلاط النص مع السد يم الشعري الذي باغتني، أي أن النص وحده غير كاف، إذ يشبه هذا التلذذ بأخيلتك عن لقاء الحبيبة، قبل اللقاء نفسه، وربما يصبح اللقاء تعيسا بالقياس إلى خيالاتك المسبقة عنه!.
نعم قليلة هي القصائد التي يتماهى فيها النص مع السديم الشعري، القصائد التي تقتنص الحالة جميعا، القصيدة التي هي جماع نفسك لنا جميعا طفولة وليست بالضرورة جميلة أو هانئة،
ولكن للذاكرة آلياتها الغريبة والمدهشة، إنها تطرد ـ ربما بمبدأ تفادي الألم ـ كل قسوة أو قبح، فلا يبقى سوى الإحساس باللذة
والفرح أمام تذكر هذه التفصيلة أو تلك، إن الذاكرة الحية حياة مضافة، ما أحاول أن أقوله بسيط للغاية ومربك للغاية، أحاول أن أقول إن الكتابة هي فعل التملص والتمرد الوحيد على العالم، وعلى الآخرين، هي فعل التحقق من الذات، من تفردها، من عدم اختلاطها بالسوي، هكذا بالكتابة رغم مكابداتها يصبح الإنسان وحيدا في مواجهة العالم، وبها يمكنه اكتشاف نفسه موقعه، دوره، رؤيته، الكتابة تعني الاحتراق وسط الآخرين من اجل أن تقوم من رمادك كطائر الفينيق!
…………………
*تنشر هذه الشهادة بالاتفاق مع مؤتمر قصيدة النثر المصرية ـ الدورة السادسة