د. إبراهيم منصور
كان رفاعة الطهطاوي واعظا في جيش محمد علي ثم ابتعث إلى فرنسا ليكون واعظا لأكبر بعثة تعليمية أرسلها محمد علي (١٨٧٤- ١٨٤٨) وقد توجهت البعثة إلى مارسيليا على متن باخرة حربية فرنسية عام ١٨٢٦م، وكان يشرف عليها مستر جومار، أحد علماء الحملة الفرنسية (١٧٩٨- ١٨٠١)
ذكر الدكتور حسين مؤنس في كتابه ” تاريخ موجز للفكر العربي” أنه قد وقع الاختيار على ثلاثة أئمة كان منهم رفاعة رافع الطهطاوي، وقد عاد المبعوثون، الذين كان أغلبهم من غير المصريين، إلى مصر وخدموا بصدق وإخلاص، وصاروا مصريين مخلصين، ولكن أنبغهم جميعا كان الشاب الأزهري الذي أرسلوه معهم إماما، فقد تفتح ذكاؤه وذهنه المصري المتحضر فأتقن الفرنسية وتنبه إلى نواحي القوة في حضارة الغرب، وأصبح من أعلام الفكر، بل أول المفكرين العرب المحدثين، وبفضل رفاعة وتلاميذه أصبحت اللغة العربية لغة مصر الرسمية، وحلت محل التركية.
في عقد الثلاثينيات من القرن العشرين وبعد عودة رفاعة الطهطاوي من بعثته، بمائة عام كانت مصر قد أصبحت واحة للتقدم والثقافة والعلم في المنطقة كلها، وأصبحت تشع ثقافتها وفنونها وعلومها على العرب والمسلمين، في رقعة واسعة من العالم.
من يقرأ رواية “التيه” وهي الجزء الأول من خماسية مدن الملح، للروائي العربي عبد الرحمن منيف (١٩٣٣-٢٠٠٤) الصادرة عام ١٩٨٤م، سوف يلاحظ أن شخصيات عدة من شخصيات الرواية يذكرون اسم مصر، وقد تعددت السياقات التي ورد فيها اسم مصر في تلك الرواية الأدبية الشهيرة التي تجري أحداثها في فترة الثلاثينيات، وما بعدها أثناء اكتشاف النفط في الجزيرة العربية على يد الأمريكان. فنرى صورة مصر صورة براقة فيما يخص العمران والمباني والأجهزة الحديثة وحتى الطيور بأعدادها الكثيفة، أما الغناء وسائر ألوان الفنون والثقافة فإن صوت محمد عبد الوهاب وصوت أم كلثوم كانا أول الأصوات التي يسمعونها ليس فقط من الإذاعة المصرية، ولكن أيضا من إذاعة الشرق الأدنى التي أنشأتها بريطانيا على أرض فلسطين، فجهاز الراديو حين ظهر في ظروف وجود الأمريكان في بيئة الجزيرة العربية، كان الصوت المصري غالبا عليه، وكذلك الطب ومعالجة المرضى والتغلب على الوباء بالعزل الطبي (الكرنتينا) وهو ما يذكرنا بالصورة التي رسمها رفاعة الطهطاوي لمارسيليا ثم لباريس العاصمة الفرنسية في الربع الأول من القرن التاسع عشر.
لكن ما يلفت النظر، أن العرب في الجزيرة العربية، كما تصورهم رواية “التيه” ينظرون لكل ما يسمعون عنه في مصر أو يرد إليهم منها نظرة إكبار وتبجيل، بينما ينظرون لكل ما يأتي به الأمريكان بارتياب ورفض فإنهم لا يأتون إلا بالخراب، وكل ما يأتون به يمثل المخاوف والهواجس، إنهم عقارب أو يجلبون العفاريت، والخلاصة الأمريكان في نظر شخصيات الرواية “ما لهم ربّ” والرواية كأنها نبوءة عما جرى من تفجيرات في الخُبَر بالسعودية عام ١٩٩٦ وما بعدها. وسبب هذا الاختلاف في النظر إلى مصدر التحديث أن الدين الإسلامي (الأزهر) واللغة العربية كان كل منهما سندا للثقافة التي تنشرها مصر في محيط واسع شرقا وغربا، وهذا الإشعاع الحضاري كان نتيجة مترتبة على النهضة التي قام بها رفاعة الطهطاوي وتلاميذه من بعده.
لكن السؤال هل كان دور رفاعة الطهطاوي وتأثيره مركزا على اللغة والأدب ونقل النصوص من الفرنسية إلى العربية؟
إن بيئة الشام بحكم الاتصال بالكنيسة الغربية كانت أكثر التصاقا باللغات الأوربية الحديثة، وقد عرف الشوام الأدب الغربي واللغات الأجنبية على نحو معقول، وكانت المدرسة المارونية التي أنشأتها الكنيسة في روما (١٥٨٤) رابطا قويا لهؤلاء الشوام باللغات الأوبية، كما نشأ في القرن الثامن عشر واستمر في القرن التاسع عشر نوع من القومية العربية مبني على إحياء اللغة العربية والعناية بها، لكن هذه الجهود المذكورة والمشكورة في الاتصال بالغرب من ناحية، والعناية باللغة العربية من ناحية أخرى، كانت كلها جهودا فردية لا يجمعها منظمة ولا جامع سياسي منضبط، فهاجر أغلب هؤلاء من التراجمة والمفكرين والصحفيين إلي مصر وهنا كان التأثير الذي أسهموا به مجديا حقا.
إن السنين تمر، وكلما تقادم العهد بنا بعد رفاعة وزمنه كلما عرفنا قيمة ما صنع هذا الرائد العظيم الذي وصف بالوالد، والد المثقفين ووالد النهضة المصرية والعربية، ففي الذكرى المئوية الأولى لوفاته عام ١٩٧٣ كتب الدكتور محمود فهمي حجازي عن تأثير رفاعة الطهطاوي على الفكر العربي الحديث، فوجد أن هدف الطهطاوي إنما كان “بناء المجتمع الإسلامي الحديث” فقد أثر في الفكر العربي الحديث من خمسة نواحٍ هي: الفكر السياسي، الفكر الاقتصادي، الفكر الاجتماعي، الفكر التربوي، الفكر العلمي.
وقد عالج الطهطاوي هذه المسائل في كتابته وترجماته، وفيما قرر ووضع من خطط للتحديث، وكان الطهطاوي قد أمسك بأهم معالم الفكر الفرنسي أثناء بعثته فقرأ لكل من شيفالييه ومونتسكيو وروسو، كما اطلع على الجرائد والمجلات وتابع أحداث الثورة في فرنسا متابعة يومية، وقدر للمستشرقين جهودهم في فهم اللغة العربية وتعليمها، وقد كان العالم الفرنسي جومار صاحب فضل في المشورة التي قدمها لمحمد علي والإشراف على البعثة وتشجيع النابهين من المبعوثين والطهطاوي أولهم.
إن أثر رفاعة الطهطاوي ظاهر في كل من المؤسسات، والأفراد، والمعاني. فالوطنية المصرية ولدت على يديه بالأناشيد التي كتبها في الدعوة لحب الوطن، والتعريفات النظرية التي أصل بها لمعنى الوطن، وبالاتصال بالغرب والترجمة والدستور، وبدعوته المبكرة لاحترام المرأة حين مدح احترام الفرنسيين لنسائهم، ثم بدعوته لتعليم المرأة فكان سابقا لقاسم أمين.
أسس الطهطاوي مدرسة الألسن، التي أغلقت وأعيد افتتاحها مرة أخرى باسم مدرسة الإدارة والألسن، وكانت نواة لكلية الحقوق، ثم أنشئت دار العلوم.
واستطاعت الأجيال التالية لرفاعة للطهطاوي معرفة المستشرقين والاتصال بهم والاتصال بالفكر الغربي.
ومن آثار الطهطاوي أيضا استيعاب البيئة المصرية للكتابة العلمية، فنشأت فيها صحيفة “المقتطف” على يد الدكتور يعقوب صروف (١٨٥٢-١٩٢٧) فقرأ الجمهور في مصر والمشرق العربي لأول مرة مقالات في العلوم الحديثة وتابع أخبار العلم لأول مرة.
كما نشأت المؤسسات الثقافية والجمعيات العلمية، مثل دار الأوبرا الخديوية (١٨٦٩) والجمعية الجغرافية المصرية (١٨٨٥ ) والمتحف المصري (١٩٠٢) ثم الجامعة الأهلية (١٩٠٨)
وإذا كان علي مبارك (١٨٢٣- ١٨٩٣) ونوبار باشا (١٨٢٥- ١٨٩٩) قد أسهما في التخطيط العمراني لمدينة القاهرة، وفي بناء السدود والقناطر والسكك الحديدية والمباني الرائعة، فإن رفاعة وتلاميذه قد أحدثوا الجانب الثقافي والعلمي من النهضة وهو البنية الفوقية للمجتمع المصري.
في نهاية المطاف أصبحت مصر نافذة المشرق العربي على الفكر الأوربي- الغربي- المعاصر! ويقول المؤرخ الفلسطيني نقولا زيادة (١٩٠٩- ٢٠٠٢) كنت قد عرفت القدس ودمشق وحلب وبيروت، كانت هذه بالنسبة لي أمرا مهما بعد الناصرة وجنين وعكا، لكن في سنتي ١٩٣٣ و١٩٣٤ زرت القاهرة، عندها تعرفت على المدينة بمعناها العمراني والاجتماعي والفني والمتحفي والمؤسسات العلمية والثقافية” وهذه الشهادة تذكرنا بشهادة ابن خلدون حين وفد إلى القاهرة، فوجد فيها ما وصفه بقوله “رأيت حضرة الدنيا، وبستان العالم، ومحشر الأمم، ومدرج الذرّ من البشر، وإيوان الإسلام وكرسيّ المُلك” هذا ما نسميه “القوة الناعمة لمصر” كانت منذ القديم وأحييت على يد رفاعة الطهطاوي وتلامتذته، ثم ارتقت إلى ذروة عالية بعد زمنه، ونرجو في الذكرى المائة وخمسين لوفاة مؤسسها ألا نتوانى عن الحفاظ عليها.