أسامة كمال أبو زيد
مهداه إلى الرسام والفنان الشعبى البورسعيدي طه شحاته (1900- 1982)
هناك وجوه لا تغيب، حتى لو انطفأت عيونها منذ عقود. وجوه تبقى ممدودة على الجدران، معلقة على عربات خشبية مهترئة، أو منقوشة على مراكب صيد صدئة ترقد عند شاطئ الرمال. في كل مرة تلمح فيها خيطًا من لون باهت، أو خطًا مائلًا يشبه بصمة مجهولة، ستعرف أن يدًا ما عبرت هنا، يد فنان شعبي لا يذكره أحد، لكنه يسكن ذاكرة المدينة كما يسكن الملح جسد البحر.
لم يكن يعرف الحروف ولا يقرأها، لكنه كان يعرف سرّها، ويحوّلها إلى أشكال تتوهج على الأبواب والجدران. لم يتعلم في مدارس ولا جلس في مشاغل الخطاطين، لكنه حين يخط اسماً على لوح خشبي، يتحول الاسم إلى حياة. لم يكن لديه معلم سوى الفطرة، ولم تكن لديه أدوات سوى عين يقظة ويد تنزف بالألوان.
في الأزقة الضيقة، في أحياء الفقراء، كانت بصمته لا تخطئها عين: حصان عربي يركض بحرية على جدار متآكل، نخلة باسقة تظلل واجهة بيت صغير، كف ممدودة تحرس بابًا صدئًا، عين يتوسطها سهم كأنها تحدق في الغيب، وطفلٌ خارق يطير نحو السماء وهو يمسك بقطعة جيلاتي كمن يمسك الشمس. كان يرسم “سوبرمان” بطريقته الخاصة، لا بطلاً أمريكيًا، بل صبيًّا بورسعيديًا، بريئًا، ضاحكًا، يحلّق فوق أحياء العرب والمناخ.
كان قصير القامة، ممتلئ الجسد، يضع على رأسه منديلًا يلفّه بحنكة، فيبدو كأنه يرتدي تاجًا صغيرًا، ملكًا يتجول بين الناس ولا يراه أحد. حين ينحني على عربته الخشبية أو يقف أمام جدار، يغيب تمامًا عما حوله؛ لا يسمع صخب السوق ولا نداء الباعة، كل ما يراه هو اللون وهو يتسرب من يده إلى العالم.
المدينة كانت دفتره الكبير، ولم يكن في دفتره صفحة بيضاء. كل عربة يد، كل مركب صيد، كل جدار شعبي كان مساحة أخرى ليخط عليها توقيعه السحري. لم يعرف المال الكثير ولا المجد الكبير، لكنه عرف المجد الحقيقي: أن يترك أثرًا في قلب المدينة لا يزول.
حتى حين داهمه المرض، وظل جسده يرتجف تحت وطأة الشلل، لم يتخلّ عن الفرشاة. كانت الفرشاة سره الأخير، ويده الممتدة إلى الحياة. يرسم بها كما يتنفس، يخط بها كما يصلي، حتى آخر لحظة.
وحين غاب، لم يختفِ حقًا. بقيت الجدران تحمل صوته، وبقيت العربات تصرخ بألوانه. بقيت المدينة تتذكره، وإن لم تنطق باسمه. صار جزءًا من نسيجها، كما يصير الملح جزءًا من البحر.
اليوم، إن مررت بأحياء المدينة القديمة، قد تجد رسمة باهتة على حائط متهدم، أو خطًا متعرجًا على عربة آيس كريم صدئة، أو موتيفة صغيرة على باب خشبي مغلق منذ زمن. ستشعر أن هناك عينًا تحدق بك، أو كفًا ممدودة تحرسك. ستدرك أن الفنان الشعبي لم يمت. إنه ما زال هناك، في كل زاوية، في كل تفصيلة صغيرة، يبتسم للمدينة من وراء الغبار.
ذلك هو رسّام الظلال، فنان مجهول بالاسم، خالد بالأثر، كتب سيرته على جدران الناس، وترك للمدينة ذاكرتها البصرية الأبدية.