أنا يا سيدي موظف متوسط الحال تجاوزت الخمسين بعامين ، متزوج منذ أكثر من 20 عاما” ولدى ثلاث بنات وشاب ، حياتى هادئه ومستقره ، أو كانت هكذا بالفعل قبل حكايتى هذه ، والحكايه أننى منذ حوالى ثلاث أعوام أكتشفت فى نفسى موهبه عجيبه أو قدره خارقه أو ما لا أدرى ما هو ، اكتشفت أننى إذا نظرت لوجه أحد الاشخاص أستطيع فى التو أن أكتب عنه ملخص حياه : أهم الامور التى حدثت له أو حتى تلك التى ستحدث له قريبا” ، بيان حاله موجز مع إسقاط التفاصيل .
لا تتعجل يا سيدى بالحكم ، فلست مجنونا” ، على الاقل حتى الان ، وأن رجل يعرف الله جيدا” ، لكنى عقلانى جدا” ولست درويشا” ، أقرأ بإنتظام وعندى مكتبه صغيره ، بها معظم أعمال مصطفى محمود وأنيس منصور وهيكل وغيرهم .
والحكايه بدأت كالتالى : كنت فى طريقى للعمل عندما وقع بصرى فى الاتوبيس على رجل يجلس قريبا” من مكانى ، عندها حدثنى شىء ما بداخلى أن هذا الرجل الطيب المسالم والذى لم يؤذ مخلوقا” طول عمره ، هذا الرجل سيموت قريبا” ميته بشعه تاركا” وراءه أطفالا” صغارا” .
حاول تفهمنى أستاذى العزيز ، لقد جائنى هذا الخاطر مره واحده ، هكذا : طاخ طخ ، طلقه ناريه طائشه ، كأنه ومض البرق يختفى بمجرد أن يتوهج ، أو كأنه نافذه تنتفض فى عز الليل مفتوحه من ريح شديده ، لكن عذرا” لن أسترسل فى تشبيهاتى تلك طويلا” لأننى لو تركت لها نفسى لابتعدنا عن أصل المسأله وتهنا معا” .
القصد: لما جاءنى هذا الخاطر الغريب كنت أريد أن أصرخ فى وجه هذا الرجل لينتبه ، يعمل حسابه ، يحترس ، يفعل أى شىء لانه سيموت قريبا” جدا” ، لكنى ضحكت من نفسى وسخرت من الفكره وسرعان ما نسيت الامر برمته ، الى أن صدمتنى صورة نفس الرجل بعد يومين أوثلاثه ، على صفحات الحوادث ، وتحت عنوان( شهداء الشهامه) : نزل الرجل فى إحدى البلوعات لانتشال طفله سقطت بها ، لم تنقظ ومات الرجل مع آخرين . أصبنى الهلع ، إذن فالاشاره صحيحه والطلقه صائبه ، رحت ألف وأدور حول نفسى ، أتوضأ وأصلى وأقرأ قرآنا” ، هل هو إمتحان من الله ؟ هل هى كرامه من عنده ؟ طيب ما معنى هذا كله ؟
بقيت لمده أتحاشى النظر لوجوه الناس ، لكى لا تنزل على صاعقه جديده ، وماذا لو الامر لا يتكرر ، ربما هى لحظه مضيئه جاءت وذهبت وخلاص ، اكتشفت خيبتى سريعا” ، المر كله متروك لى ومجرد إمعانى النظر فى الوجوه ، ورغبتى فى النبش وراء ملامح من حولى فى الشارع أو المواصلات ، الناس الغرباء بالذات ومن أراهم لاول مره : مثلا هذه المرأه السمراء السمينه مطلقه وعندها عيلان وتمشى مع واحد من جيرانها وتبحث عن شغل ، وهذا الولد الأحول تقريبا” يفكر فى الهرب من البيت ليفلت من قبضة أبيه القاسى ، سيظل يفكر طويلا جدا” ولن يفعل أى شىء حتى يكبر ويشيل الهم بعد أبيه ، والفتاه المسمسمه على يمينى خطيبها فى الكويت وتنتظر رسائله بفارغ الصبر ، والرجل الذى يضايقها منذ طلع العربه واقع فى مشاكل ماديه سيترمى به فى السجن بعد شهرين على الاكثر . لم أكن محتاج لتتبع أثر هذا الشخص أو ذاك للتأكد من صحة خواطرى حوله ، فقد كانت تأتينى كيقين لا شك فيه .
هل يبدو لك الامر خياليا” مضحكا” ؟ لكنه حقيقى مئه فى المئه ولا يبعث على الضحك بالمره ، أمواج الوجوه تطاردنى أينما أروح ، كل وجه يحدق فى كأنه يطالبنى أن أنبش عما وراءه ، أ أخلع عن الناس العابرين قشورهم ، لأرى المكائد والخيبات والامانى ، أرى فساد القلوب وعمارها ، أرى الحيره والتعب والمحبه ، أرى كل شىء ، وصدقنى يا أستاذى إن كل ما يصل اليك بالبريد من مصائب ليس شيئا عندما تبدأ فى قراءة الوجوه ، وتزدحم رأسك بحكايات موجزه وقصيره ، لكن حاده وجارحه وتوجع القلب ، عندها فقط تستيقظ وتنتبه ، عندها تدخل الجحيم الحقيقى الذى نعيشه جميعا” ، لكن لماذا أكتب اليك الان بعد مرور ثلاث أعوام من بدء هذه المحنه التى تعوتها مع الوقت ، هذا هو المهم فبعد أن دخت السبع دوخات لكى أشفى من هذا المرض أو أن أخلص من هذا الوهم : طبيب نفسى ، دار الافتاء ، الاولياء والمشايخ ، نصاب سودانى ، يدعى أخوة الجان عرض على العمل معه ، والمكسب طبعا” مضمون لمن يقرأ الوجوه كأنه يقرأ واجهات المحلات فى الشوارع . سبب كتابتى إليك بعد أن أصبحت هذه المحنه لعبه يوميه مسليه ، هو حدوث ما لا أتوقعه ، ما يجعلنى أخبط راسى فى الجدران وأعض الارض : كنت أنتظر الاتوبيس الذى تأخر عندما رأيتها ، بشره بيضاء وعيون عسليه ، فى الثلاثين تقريبا” ، شرعت بلا إهتمام أو جديه أقرأ وجهها ، ربما لاخرج من ضيقى لتأخر الاتوبيس ، وبمجرد أن حاولت داهمنى الفشل ، كقلعه منيعه لا يبلغ لها البصر نهايه تهزأ بالغزاه ، هزيمه بالغه ، بياض صاف جدا” لا شىء ، بعد ثلاثة أعوام من اللعب المتواصل تأتى هذه البنت الآن لتسخر منى ، إننى حتى لا أعرف إن كانت بنتا” أم امرأه ، ياربى ، إن وجهها الهادىء لا يخبرنى بشىء ، لم يسمح لى بالاقتراب منه ، كأنها تمتلك جهازا” خاصا” يشوش محاولتى ويلقى بها بعيدا” ، كانت تنظر أمامها فى صمت ، لا تبص على شىء بعينه ، كـنها تنظر بداخلها فتكتفى .
والله لا أعرف ماذا أقول ، أنا الموظف المحترم الذى تجاوز الخمسين ولديه بنات مخطوبات وولد كالبغل ، يحدث لى كل هذا ، طبعا” ذهبت الفتاه قبل أن أفيق من ذهولى ، منعت نفسى بالقوه من الذهاب فى إثرها ، قلت ربما إنتهت اللعبه وهذه هى الاشاره ، لم يحدث فقراءة الوجوه أصبحت أكثر يسرا” ، لكن من غير طعم أو معنى ، فما جدوى أن تقرأ حكايات بعدد العيون والحواجب والانوف فى العالم ، ما جدوى ذلك مادمت وقفت عاجزا” أمام وجه أبيض وعيون عسليه تنظر الى ذاتها ، كيف إمتنعت على ، كيف أفلتت من الضوء الخاطف الذى يضىء أمامى فى لمح البصر حياة إنسان فى جملتين أو ثلاثه …
وأنا الان فى حاله يرثى لها ، أخذت من العمل أجازه ، إنعزلت فى حجرة المسافرين لا أكلم زوجتى ولا الاولاد ، ربما يكشف الله عنى هذا الغم ، أقرأ القرآن والادعيه ، أصوم وأصلى وأنام لماما ” لكنى أنهض بمجرد ما أنام مفزوعا” لما أرى وجهها يسخر منى ويعلن خيبتى ، عندها أبكى ، أى والله يا أستاذ أبكى بحرقه طوال الليل ، لإحساسى بالمهانه والعجز والخذلان .
السلام
المعذب م . ع
مايو 99