رحيل

محمد فيض خالد
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمد فيض خالد

اوقَفهُ والده على التَّعليمِ، فَلم يَشأ أن يَشغله بشيٍء يُعيق نُبُوغه المُبكِّر كحالِ  أقرانه من أبناء الريف، ” فصالح” ابنه الوحيد رزقه بعدما فَني سبعة من الإخوة ِ الذُّكور  قَبله، تتَخطَّفهم يد الحمى، بَعد إذ شَبّوا وأخذوا يدرجون طريقهم بين جُدراِن البيت، كانت “مبروكة” ترى فيهِ العِوض، نذرت لله نذرا، أن تُطِعم مساكين مقام سيدي “الدماريسي” كُلَّ جُمعةٍ طوال حملها، وما إن اطلّ  للدُّنيا برأسهِ، فبشَّرتها ” نفيسة ” الداَّية :” ذكرا  كفلقةِ قمرٍ يملأه الحسن”، حَتَّى اضمرت المرأة أن تُكمل ما نَذرت فتراه أفنديا .

بعد كُتّابِ الشيخ “عبدالمتجلي” أرسله والده للبندرِ، واصلَ صَاحبنا تفَوقهُ لينتهى بهِ المَطاف على أعتَابِ الجامعة، عندها انقبضَ صدر الشَّيخ الهَرِم ألف مرة ساعةَ وداعه على محطّةِ القطار، يرُدِّدُ في نجوى مَفزوعا:” يا لطيف اللطف يا رب، ربنا يكفيك شر مصر وبنات مصر المُلعَب”،  على فتراتٍ يتَأتَّى ما ينغص عليهِ حياته، حكايات  عن انفلاتِ النساء وميوعتهم، وانحراف الشباب وضياع مستقبله، ومآسي تغشى المصاطب تثُير حفيظة كُلّ غَيورٍ، يظلّ الشَّيخ مُغضَّن الجبين، طاويا أوجاعه، يكرُّ حبات مسبحته يُردِّدُ في مرارةٍ :” يا لطيف يا لطيف”، لا تنفك عنه تباريح نفسه، حتى يرجع الغائبُ آخر العام، يَزفّ إليهِ بُشرى نجاحه، ساعتئذٍ يبتلع العجوز ريقه المُتَيبِّس،  تحمل عودته للدارِ بعض الحياة، تتردّد التّهاني، وتُمدّ موائد الأطايب عامرة، وما يفيض يُوزّع على مساكينِ القريةِ وما أكثرهم، آن للمُتعبِ أن يستريح ويتريضَ بعد عناءٍ، تتَخطّفهُ الحقول صباحا فيلبّي النِّداء، ما إن تَستَفيق الشَّمس من غفوتها، فتنفتل خيوطها شيئا فشيئا، تُداعِب خدود الأرض الصّامتة، وتمرّ تدغدغ الخيطان الرابضة في ونسٍ تحت رداءِ الطّل، يطالع في تَشوّقٍ لوحة الخالق البديعة، التي ارتسمت في وقارٍ تحت قُبة السَّماءِ البنفسجية، حينها  يتخفّف من وقارهِ، حيِنا يتلاعب مرِحَا وقطعان الماشية، وحينا آخَر يقذف عراجين البلح بحصاةٍ، أُسوةً برفاقهِ الدين تحلّقوا بهِ، فرحين بمقدمهِ بعد طولِ غياب، يشرع مأخوذًا بسحرِ حديثهم، يُطوِّفُ  بهم في سردٍ ماتعٍ من  أقاصيص رحلته عن مصر وأهل مصر، حتى يأذن داعي المساء، ينصَرم عقد النهار، يُلمّلم الضَّوءُ ذيوله، ليَعود من حيث أتى، إيذانا باقتحامِ جيوش الليل في اجتراءٍ هكذا كُلّ يوَمٍ.

لكن صاحبنا ورُغم ونسه بأصحابهِ في شغلٍ عنهم، ” وداد” ابنة جارهم الحاج” مصباح ” حُبّ عمره، حاول ألف مرة فكَّ القَيدَ الذي قَيده والده، لكن شجاعته  بالأخيرِ تَخونه، لقد اسرى إليه ” فتوح ” الحلاق عن مزاعم حُبٍّ تَجمعها وابن شيخ الخفر،  في كَمدٍ جَعلَ يُوبِّخ جُبنه، ويلعنَ تردده الذي اودى بضياعها منه، بيدَ أنّ خَيال الوالد  يتَبدَّى لَهُ كُلَّما استحضرَ ذِكراها، يَحثه على الانصراف عنها، يُذكِّره بالوعدِ الذي قطعه على نفسه، أن يُصبِّحَ قَاضِيا ملئ السَّمع والبصر .

وفي ذاتِ أصيلٍ وبينما هو في جلستهِ المعتادة  بجوارِ الجميزة  ساهما، أتاه مكتوبها تطلبه، جمعهما لقاء اعترف لها بتباريح قلبه المُحتَرق،  فبادلته حبا بحُبٍّ، لكن لا شيء يخفى على أبناءِ الطَّين، صحى ذاتَ صبيحةٍ على صوت والده يوقظه وأذان الفجر، ودمعة رقراقة تُداعِب أهدابه، اتَّخذَ الشَّيخ قرارا بليلٍ، ليجد صاحبنا نفسه عائدا من حيث أتى، ويده فوقَ المصحف ِ، يُقسِّم لوالده يمينا مُغلَّظا، أن ينسى القرية وألّا يعودَ إليها إلّا قاضيا، دهمه الخَرَس فلم ينطق، لملم أغراضه وغَادرَ من سُكاتٍ.

مقالات من نفس القسم