نتأهب مبكرا ، في أولى صفحات الرواية ، للدخول إلى عالم غائب ، عالم “ناجح تيسير” الذي تخيل صيغة إعلان قد ينشره والده مناشدا من يجده الاتصال به. تغيب ناجح في اليوم التالي لسقوط بغداد وحتى اليوم يظل توصيفه قائما: “خرج ولم يعد”.
لا تفيدنا الرواية جديدا بشأن غياب ناجح ، حتى النهاية المحبطة ، لكنها تقول الكثير عن غياب نمط الوعي الذي يمثله بتقسيم مساحة السرد إلى: صدى صوت ، أصوات في الذاكرة ، وصمت يضج بذكرى أصوات.
المكان البارز في الرواية “حي الزرايب” ، بمنطقة منشأة ناصر في القاهرة ، ولا نستطيع القول إن أحداث الرواية تقع فيه ، إذ لا توجد أحداث ، بل ذكريات مشوشة لوقائع ومشاهد غير مكتملة يحاول ناجح استعادتها ، فتتجمع عشوائيا حول أناس يعيشون على نفايات المركز ، أو المدينة التي تتعامل معهم – ويتعاملون هم مع أنفسهم – باعتبارهم نفاية بشر.
الشخصيات مسلمون ومسيحيون يتعايشون في الحي بجوار دير الأنبا سمعان الخراز ، بدون أن نتمكن في الغالب من تمييزهم أو الشعور بأهمية الانتماءات الدينية ، وكان ذكاء من المؤلف تهميش هذه المسألة التي تُستغل دعائيا في الواقع وبعض الروايات ، للتركيز على حالة التواكل العجيب والانتظار العبثي لحلول غيبية ، من جانب ، وظلم التجاهل الذي لا يفرق بين مسيحي ومسلم ، من جانب آخر.
الخروج من المكان طموح مبرر للشخصيات ، وقد أنجزته الشخصية الرئيسية بالفعل ، لكنها خرجت إلى مكان أكثر ضيقا ، يبدو زنزانة في معتقل ، وفي هذا إحباط كبير لحركة الشخصية ، لكأن بؤس المكان يقتل فكرة الطموح في حد ذاتها ، والنهاية المعقولة مزيد من البؤس يفرضه البشر على أنفسهم ويستغرقون في تفاصيله.
سرد (كيرياليسون) مفكك غير منطقي ، يناسب بنية التذكر وحالة السارد الذي يستل من ذاته أحيانا شخصا آخر ، ليأتنس بمخاطبته ويفر من تذكر سلبيته أو توجيه اللوم إلى نفسه مباشرة.
تشير عملية التذكر إلى يأس من النجاة ، التي تعادل في وعي الشخصية العودة إلى حياته السابقة ، ومحاولة استنقاذ الوجود بتذكر صور من طفولته وشبابه. ما يتم تذكره يفسر الأزمة الراهنة ، ضعف ناجح وخضوعه لإكراهات الظرف الاجتماعي وطرق الآخرين في التحايل عليه ، فقد عمل – في الفترة بين التخرج والخدمة العسكرية – ضابط احتياط ، حارس أمن في مبنى سكني ، قوادا بدرجة ما ، ومدرسا.
يبدو سقوط ناجح فرعا عن سقوط الجميع: الأب الشيخ تيسير ـ الأم الخاضعة ببلادة ـ الخال ـ سلوى ـ أبو عامر صاحب المقهى وبناته ـ بلطجي الحي ـ الضابط ، إلخ. والنتيجة سقوط المدينة ، كما يُفهم من رمزية سقوط بغداد في الرواية ، لذلك كان العنف آلية معتمدة لحماية السقوط ، ألية لا يدعمها سوى التدريب على رفض التمرد بحجة عدم الشذوذ عن القاعدة ، أو عدم القدرة على المواجهة.
لا توجد حبكة تقليدية في (كيرياليسون) تحث القارىء على المواصلة حتى النهاية ، لكن قوة الدفع السردي فيها عالية ، وتعتمد بالدرجة الأولى على لغة حية متدفقة وشخصيات واقعية بهمومها وحضورها العابر ، لجذب القارىء إلى داخل الإطار السردي ، وتشجيع تبادل الهوية بينه والشخصيات ، بدون محاولة استغلال مشاعره ، فليس في الرواية انتصار للمهمشين ، إلا إذا اعتبرنا كشف بؤسهم انتصارا ، ولعل ما يُحسب لهاني عبد المريد أن تعبيره عن آدمية هؤلاء البؤساء كان غير مباشر ، لم يمنحهم مزايا أخلاقية ، ولم يقع في شرك التعاطف الخائن مع ظرف اجتماعي يظل – مهما كانت قسوته – مقبولا ممن يعيشونه.
لا يتساءل ناجح عن سبب حرمانه من حريته ، ومن حياة لائقة قبل ذلك ، بل يشعر بالذنب عندما يتذكر إهماله ورقة تحمل “دعوة دينية إسلامية إلى الإيمان” ويفسر معاناته بهذا الإهمال ، لكن السرد والحوار لا يتوقفان عن السخرية من السياسات الرسمية والتساؤل (مثلا عن جنس مصر: ذكر أم أنثى؟) بطريقة موحية ، تؤكد أن الحصول علي تفسير حقيقي لسبب الظلم يفيد المجتمع والمظلومين ، فالظالم واع بظلمه ولن يتراجع عنه ، لأن أسباب ارتكابه لهذا الظلم هي أسباب وجوده ، يتبقى معرفة المظلوم لهذا حتى يتحمل مسئوليته ، فيتراجع عن استسلامه أو خداعه لنفسه ، سواء بالأمل الكاذب أو باعتبار نفسه مستحقا للعقاب ولو لم يرتكب جريمة. لا يكون العقاب دائما على فعل ، بل على عدم الفعل أحيانا ، وليس فعلا أن يكون المرء “عبدا ربانيا” حسب منظور الشيخ ثابت. ليس فعلا أن يواجه العدو بتعويذة دينية ، مثلما واجه سمعان الخراز اليهودي يعقوب (وزير المعز لدين الله الفاطمي) بصيحة “كيرياليسون” التي نقلت جبل المقطم من قلب المدينة.
توزيع الرؤى والبشارات في الطرق أو إرسالها بشكل عشوائي إلى البريد الإلكتروني – ليس فعلا. تفسير سقوط برجي التجارة في نيويورك بآية قرآنية (سورة التوبة ، )109 – ليس فعلا. قد تكون الحلول الميتافيزيقية معجزات ، لكن هذا الربط التعسفي ، بين الدين وتفاصيل الحياة المتغيرة ، لا نتيجة له سوى تغييب العقل والفعل معا.
جاءت النهاية مُحبطة لحركة الشخصية ، وغير مُرضية ربما لقراءة بعينها ، إذ يتبدد الأمل في التغيير مع نتيجة المراجعة الذهنية التي توصل إليها ناجح: “سأرددها ألف مرة لو ينجني الله من عزلتي هذه ، فتندك الأسوار جميعها ، وأخرج سالما .. سأرددها طول عمرى لو أرى النور كيرياليسون .. كيرياليسون” ، بل ينشأ إحساس بالخطر من اضطراب التفكير الذي جعله يتجاوز حدود أزمته الحقيقية ويرى نفسه مسيحا فاديا: “يقف ، يستشعر حريته ، ما دام السجن سيمنح الحرية للآخرين ، فهو حر”.
بدت تقنية الإشارة المستخدمة لإنجاز النهاية مفتعلة ، لا توفر الإحساس بخاتمة مُشبعة ، وإن كانت مناسبة لنمط الوعي الغالب على الشخصيات ، بخاصة شخصية ناجح ، ومناسبة أيضا لمحاولة إعادة توزيع الاهتمام بالقضايا الكبرى ، بعد تهميشها لسنوات في رواية الشباب ، مع تجنب الوقوع في فخ الانتصار لفئة ما أو اتجاه فكري ، لأن حال الجميع – وفقا لسردية (كيرياليسون) المتميزة – ما بين صمت بدون رؤية و صخب بدون بصيرة.
……………………
جريدة الدستور- الأردن بتاريخ 21 يونيو 2008