رحلة الشاعر فتحي عبد السميع.. الشاعر المختبئ داخل حجر

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

مصطقى السيد سمير

ذات يوم من أيام 2015، أصدرت هيئة الكتاب كتابا بعنوان “الشاعر والطفل والحجر”، للشاعر فتحي عبد السميع. وقتها طلبت منه الإذاعة المصرية إجراء حوار حول الكتاب، لكنه اعتذر لعدم قدرته على الحضور من قنا، حيث يقيم حتى الآن، وطلب مني الحضور بدلا منه للتحدث عن الكتاب. كان شعوري وقتها غريبا، يشبه تكريما سريا، أو أمانة علي أن أوصلها لشخص لا أعرفه، وربما لا يعرف هو شيئا عني أو عن تلك الأمانة. كيف يتحدث شخص عن كتاب هو ليس بكاتبه، دون أن يمسه شيء من نشوة كتابته. كيف أصطحب طفلا هو ليس ابني إلى حفل نجاحه، دون أن يداخلني شيء من زهو الأبوة.

الحقيقة أن ذاك ما شعرت به، وربما ما شعرت به مقدمة البرنامج، الأستاذة الكاتبة فردوس عبد الرحمن، حين أبدت دهشتها لإلمامي بالكتاب وبرؤية الشاعر وبالقصائد والدواوين التي يحيل إليها الكتاب، كأنني طالب قد حضر إلى الامتحان.

لكن كل من قرأ الكتاب حقا -أو هكذا أزعم- لا بد وأن داخله شعور يشبه ذلك الشعور. نعم إنه كتابي. إنه يتحدث عني، ليس باعتباري “آخر”، وإنما باعتباري رفيق درب سري، سري حتى عن أنفسنا. طريق الشعر الحق يجهله كثير من الشعراء. هكذا يظن فتحي عبد السميع، دون أن يعني ذلك شعوره بالتعالي والتوهم بأنه وجد الطريق. لا، إنه يبحث مثلنا، يكتم أنفاسه ويغوص لساعات بحثا عن اللؤلؤ الغارق، ولا تكفيه الساعات فيغوص لأعوام، ولا يكفيه عمره فيغوص لأحلام وأفكار ومشاريع.

*

الشعر أمر غريزي يشبه ابتسامتنا عندما نشعر بالمسرة

من هو الشاعر حقا. يرى فتحي عبد السميع أن الشاعر ليس من يكتب القصائد، فمثلما ليس كل رجل يُعد أبًا حتى إن أنجب الأطفال، فليس كل من قرض الشعر -حتى الجيد منه- يحصل على هذا اللقب. بعض كتاب الشعر أحيانا يكرهون أشعار زملائهم، يحقدون على ظهورهم وعلى احتفاء الآخرين بهم، يسرقون القصائد حتى – هل يسرق الأب طفلا؟!

يرى فتحي أن الشاعر هو من يفرح بالشعر، يلتقيه كلما صادفه كمن صادف أحد أبناء بلدته في الغربة، لا يسأله عن اسمه قبل أن يعانقه، ويتبادل معه السيجارة وكوب الشاي. الشاعر هو الشخص الذي يحب أن يرى الشعر، بغض النظر عن اسم صاحبه، وينتمي إلى القصيدة الجيدة ويحملها في قلبه كما يرتدي الشاب تي شيرت فريقه المفضل.

لا يمكن إذن أن يستوي كُتاب القصائد، فهناك شاعر صديق للشعر، كما يحب الكاتب أن يصف نفسه، وهناك شاعر عدو للشعر. هناك أيضا شعرا عدوا للشعر، يعدد لنا الكتاب أمثلة منها، مثل القصائد التي يتم تقديمها بغرض الاستهلاك والتسلية فقط، والقصائد التي تنتمي إلى صورة نمطية تتجاهل إشباع وجدان الإنسان الحديث، أو القصائد التي يضطر لحملها الإنسان ليتجاوز مرحلة دراسية معينة، فتبتعد بنا عن طريق الشعر، بدلا من أن تقربنا منه.

الشعر إذن ليس وجبة سريعة نبتلعها فتداعب حواس التذوق ثم تؤذي جهازنا الهضمي في النهاية، الشعر شيء جوهري أكثر مما نعتقد، يغير في كيان الإنسان نفسه، يحوله من الحالة الحيوانية المادية ويصنع منه كائنا آخر.

يقول:

الإنسان شاعر في المقام الأول، وبفضل ذلك البعد الشعري بدأ ينسج أساطيره الشعرية ويخرج من العالم البدائي”

“الإنسان مخلوق شعري، لأنه يشكل حالة غير عادية في منظومة الحياة، حالة مختلفة عن السائد والمعتاد، حالة تعيش خارج السياق المعتاد للكائنات الأخرى، ولا تكف عن طرح صورها العجيبة أو الغريبة

بل إن الشعر لا يتوقف عند هذا الحد، إنه ليس عضوا خاملا في الجسد الإنساني، إنه عضو نشط، يخوض المعارك من أجلنا،  يحارب في صفوفنا ضد الأفكار السلبية والقيود العقلية، يرفع أشرعة الخيال ليمر بنا عبر واقع متلاطم، يربطنا بالطفولة والأحلام، يضبط بوصلة التطور لتكون في اتجاه عالم أكثر إنسانية.

الشعر عند فتحي عبد السميع ليس لعنة، أو مرضا يصيب الشاعر فيحطم حياته ويحكم عليه بالاكتئاب والتيه والوحدة، كما يخبرنا الكثير من الشعراء، بل هو زائر لطيف، هدية مشتهاة، رحلة في نهار صفو. إنه يعامله بامتنان كمن يربت على ظهر كلب يربيه، وهو يرى أن ذلك الكلب يحميه ويؤنسه ويغدق عليه المشاعر. لا يشتكي فتحي من كلبه، ولا يستعرض معاناته في تربيته ولا يعدد ما أنفقه عليه. إنهما صديقان مقربان يأتنسان ببعضيهما، ويتوقان للحظات اللقاء الحلوة، هذا كل ما في الأمر.

*

أرفع مصباح الحياة عاليا، وأحاول فهم الشعر

تسألني مقدمة البرنامج عن فتحي عبد السميع فأجيب بطلاقة، طلاقة ربما كان ليفتقدها هو نفسه عند الحديث عن نفسه، فهو في النهاية يغلبه تواضعه الجم، وترفعه عما تمنحه الموهبة الكبيرة من مكانة، وما يمنحه المشروع الأدبي الكبير من فرصة لادعاء التفوق. وهذا ملمح مهم لفهم علاقة فتحي عبد السميع بذاته وبالشعر وبغيره من الشعراء.

في رأيي: التواضع هو أكثر الرياضات مشقة على أي فنان. فالفنان يعيش عمره كله من أجل لحظة زهو، لحظة تمنحه الثقة في ما يكتب، وتُسكت هواجسه التي لا تتوقف عن وخزه، وتساؤلاته التي تحيطه كالموج توشك أن تغرقه: هل هو موهوب حقا، هل يصنع شيئا ذا معنى لأي أحد، هل سيصل ما كتب إلى قارئه الحقيقي، أو ربما يموت مشروعه بموته هو.

 لكن فتحي عبد السميع لا يكافح من هذا النوع من التشجيع، لا يبحث عن المناصب، أو الجوائز، أو الظهور الإعلامي. هو لا يكافح إلا لإنجاز مشروعه الخاص، كأن لا هواجس لديه بشأن ما يكتبه، وهذا مستبعد، فلا كاتب بدون هواجس وتشكك وقلق، أو كأن هذا المشروع هو وحده من يمنحه التقدير الذي يبحث عنه، دون أي مساعدة من خارجه، وهذا خيار صعب لأي كاتب، وطريق شديد الوعورة والوحشة.  كيف يتسلل الزهو إذن إلى الشاعر القائل “ينقصني تأهيل للسير بكفاءة حول زهرة“.

وكما يتواضع أمام شعره، لا يتعالى فتحي عبد السميع على قرائه، يمنحهم من لحمه ودمه دون أي إحساس بالتفوق أو التفضل. قارئ الشعر الذي يرفض التعامل معه” تعامل التابع الذليل، إنه -أي القارئ- الضيف الجميل والرائع الذي يسعى الشاعر للتواصل الحميم معه، لا رجمه أو خداعه أو الاستعراض عليه“. إنه يرفض حتى النغمة السائدة التي تقول بأن الناس معرضون عن الأدب، بل يحمل المثقفين والثقافة نفسها المسؤولية. في أحد المؤتمرات الثقافية سمعته يقول: الشعر له وظيفة، ولازم هو اللي يدور على الناس مش الناس اللي تدور عليه. هي الكهربا اللي بتروح للناس ولا الناس اللي بتروح للكهربا؟

ليس ذلك فقط، وهذه إضافة من عندي ولم يأت ذكرها في الكتاب، بل يضيف فتحي عبد السميع الكثير إلى هذا التعريف، بما يحاول كتابته من أعمال فكرية، فتراه مثلا يكتب في الثأر، في أسبابه وطقوسه وفي جذوره التاريخية وفي المصالحات الثأرية، وهو يحلم بإنجاز مشروع متكامل عن هذا الأمر. هو يرى أن الثأر مظلوم باعتباره مجرد جريمة، يمكن معالجتها بنصوص تشريعية أو حتى فتاوى دينية، بل هو قطعة من الماضي ما زال يعيش فيها البعض رغم مرور القرون، يرتدونها ويتلحفون بها ويسيرون بيننا ونحن نظنهم معنا في هذا العصر. قلت له يوما: لكن هذا ليس دورك، إنه دور باحث محترف متفرغ، بل هو دور مركز بحثي متكامل، يرسل الباحثين ويجمع المراجع ويفهرس الموضوعات ويجري اللقاءات الميدانية ويحصل على التراخيص. لكنه يشعر بأنه دوره. لم يكن من دور الأنبياء أن يقوموا بالنجارة أو الحدادة أو رعي الغنم، لكنهم هكذا يرون أنفسهم، أناسا لا يضيعون دقيقة واحدة في إصلاح عيوب العالم، حتى بالهش على غنمة شاردة.

*

أنا تمثال مختبئ في حجر

 في الوقت الذي ينشغل فيه الكثير بالبحث عن مفهوم الشعر، وعن وضع التعريفات وإقامة الحواجز التي تفصل بين ما هو شعر وما هو ليس بشعر، وإذ يشتعل الجدل أحيانا حول انتماء أحد النصوص -أو أحد الأجناس الأدبية- إلى الشعر، يقص فتحي عبد السميع علينا قصة أخرى. يقول:

يبدأ فعل التحرر عندما ينشغل الشاعر بقصيدته، حيث يكسر قيوده اليومية، قيد السعي للوفاء بالمتطلبات المادية، قيد النظرة المعتادة أو الروتينية للعالم، قيد النشاط المنطقي للذهن. الشاعر وهو يكتب يطارد صيدا في أعماقه، وعندما ينجح في الكتابة يقبض على صيد آخر، ليس هو ما كان يطارده تماما. واختلاف الصيد الممسوك عن الصيد المطارد، يعني شيئا مجهولا تم تحريره.”

 يحكي فتحي عبد السميع عن أول قصيدة عرضها على معلمه، فإذا به يخبره أن هذا ليس شعرا، فهو يفتقر إلى استخدام العروض. يعود بعدها ليحكي عن قصة كتبها عن انتفاضة الحجارة. يقرأ الشاعر سيد عبد العاطي القصة في نادي الأدب فيقول: هذه قصيدة. 

 إنه النص الحقيقي، الذي يظن صاحبه أنه قد قبض عليه، لكنه يروغ من بين أصابعه من قصة إلى قصيدة إلى مقال إلى سيناريو، دون أن يدري حقا في أي صنف هو، وكيف يمكن أن يعرّف نفسه “شاعر أم قاص أم ماذا”. لقد اهتدى فتحي عبد السميع إلى طريقته الخاصة في مطاردة نصه، فعكف ينسخ الأعمال الأدبية التي تستعصي على فهمه، ينسخ وينسخ. يقول:

 “مع النسخ بهدف النسخ فقط كنت أتلقى تلك الأعمال بحرية كبيرة، وتنمو ذائقتي لا شعوريا دون أن يقف حجر المنطق الحسابي الصارم عقبة. لقد تدحرج عن طريقي حجر من أخطر الحجارة التي تعترض الشعراء والمتلقين عموما في بداية الطريق، ألا وهو المنطق الحسابي الصارم وهو ينظر إلى الشعر فيحوله إلى كومة من الحجارة

لماذا يحرم الإنسان نفسه من مطاردة كتلك، لماذا يضيع فرائسه الواحدة بعد الأخرى وهو يبحث عن علامات محددة في فريسة بعينها. ربما يركض الشاعر خلف عشرات الفرائس دون أن يمسك بأي منها، ثم يعود آخر اليوم وعلى كتفيه فريسة لا يدري متى أمسك بها. ومن يدري ربما يعود بحجر، بمجرد حجر، لكنه ممن يشقق فيخرج منه الشعر. 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
شاعر مصري 
الفقرات بين الأقواس من كتاب “الشاعر والطفل والحجر”، الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، ٢٠١٦

مقالات من نفس القسم