رجل ينزل إلى البحر.. وقصائد أخرى

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

 جول سوبّرڤيال*

ترجمة : مبارك وساط

 رَجُلٌ يَنزل إلى البحر

من السّفينة الماضية في إبحارها
ألقيتُ بنفسي،
وها أنا قد بدأتُ أَجْري حَوْلَها.
لِحُسْن الحظّ أنّ أَحَدًا لمْ يَرَني:
وإلّا لتخوَّفَ من أن يَفْقِدَ عَقله.
أنا واقفٌ على المياه بالسهولة نفسها التي
يَفْعَلُ بها الضَّوْءُ ذلك.
أُفَكِّر في الفُسْحة، الخارقة للعادة، بين الأمواج
وَنَعْليْ حذائي.
ثمّ أتمدّدُ على ظَهري – أنا الذي لم يَكُنْ يُمكنني
في العادة أنْ أطفُوَ على الماء بهذه الطّريقة، بَلْ
ولمْ أكنْ أعرفُ حتّى أنْ أعوم-
مَعَ هذا، لا أتمكّنُ مِن أن أبتَلّ.
وها هي كائناتٌ قادِمَةٌ صَوبي
متّكئَةً على عكاكيزَ مائيّةٍ ورافعةً راحاتِها المفتوحة؛
لكنّها تموتُ باصِقةً الرَّغوةَ من أفواهها
التي تُصبح هائلة الحجم.
أَبْقى وَحِيدًا، ومِنْ بَهْجَتي
أُنْجِبُ نفسي عِدّةَ مَرّاتٍ مُتوالية، باحتفاليّة،
وسَكْرانَ بكوني ذُقْتُ طَعْم الموتِ كُلَّ تلك المرّات،
أَمْضِي وأعود، ويداي في جَيْبَيَّ
الجافَّيْن كالصّحراء.
كلُّ هذا لي، بما فيه الأملاك المُختلجة
هنا، في الأسافل.
هل سأجرؤُ على أخذِ قليلٍ من هذا الماء
لأرى ممّا هو مُكَوَّن؟
لنَترك هذا ليومٍ آخر.
وَلْنكتفِ بالسَّيرِ على البحر مثلما
حَوْل قصيدة.
عَبْرَ منظاري الصَّغير لم يَعُدْ يبدو لي من السّفينة سوى
أطفالي الثّلاثين غير الشّرعيّين، هائجين مائجين
بِشَكْلٍ مُسْتَغْرَبٍ ولا شكّ.
في مرآة مقصورتي تركتُ صورتي، مُسْتَعرضةً،
في منتصف الليل قبل أن
أضغطَ زرَّ الكهرباء.
وقد قَفَزَتْ، مُسْتيقظةً، وكَسَرَتْ زُجاج المرآة
كما يُكْسَرُ زجاجُ جهازٍ مُنْذرٍ بالحرائق،
ثُمَّ شَرعتْ في البحثِ عنّي.
صَدْرُ القُبْطان، الأشعر بشكلٍ زائد، استشعر
أنّ أَحدًا ما ينْقُص،
فَارْتَفَعَ، تلقائيًّا، دَويُّ صفّارة الإنذار
الشَّبيهِ بِخوار بقرةٍ استبدّ بها الجوع.
مُنْفَرِدًا نوعًا ما بالبحر،
أشيرُ إليه بأن يدخل، مُنْسابًا، إلى قِمْعِ
ذِهْني: “تعال، يوجد مكانٌ لك،
تعالَ، اليومَ ثمّة مكان.
أُقْسمُ على ذلك،
أُقْسمُ عارِي الرأس حتّى تعرف ريحُ الغَرْب
مِنْ مُعَايَنة جبيني
بأنّي أقول الحقّ”.
لكنّ البحرَ يحتجّ معلنًا براءته،
يقول إنّ من التهوُّر اتّهامه،
ولا يردّ على طلبي.
مع هذا، فإنّ الغرقَى ينتظرون أن يحُلَّ
دورهم.
دورهم في ماذا؟
دورهم في أيّ شيء.
إنّهم ينتظرون من دون أن يجرؤوا على
مواربة ما بين جفونهِم المزبدة،
خوفًا من أن يكونَ أوان ذلك لم يَحلَّ بعد،
وأن يلزمهم الاستمرار في موتهم كما كان الحال
حتّى الآن.
وهذا الشيء الذي لامسهم، ما هو؟
أهو طحلب بحريّ أم ذيل سمكة
هائمة في أعماقها؟
إنّه شيء آخرُ مختلفٌ تمامًا.
فهنالك ملائكةٌ تعيش في عمق مياه البحار وأبدًا
لم تر وجه الإله، المتأَثِّر جدًّا.
إنّها تجول ومن دون أن تدري
تلقي بالصّواعق السّماوِيَّة.
في هذا المساء، أجلسُ على حافَّة الشّفق،
أؤرجح رِجليّ فوق الأمواج،
وأنظرُ إلى الليل وهو يهبط: سيحسب نفسه
وحيدًا تمامًا.
وقلبي سيقول لي: اعتمدني في شيءٍ ما،
أم أنّي لم أعد قلْبك؟

* أعلى الشّعلة

طوال حياته
كان يحبّ أن يقرأ
على ضوء شمعة
وكثيرًا ما كان يمرِّر يده
فوق الشّعلة
ليقنع نفسه
بأنّه يعيش،
بأنّه يعيش.
منذ يوم وفاته
وهو يبقي إلى جانبه
شمعة مشتعلة
لكنّه طول الوقت
يخفي يديه.

* تحسُّرٌ على الأرض

يجيء يومُ ما، وسنقول: “كان ذلك زمنَ الشّمس،
أتتذكَّرون، لقد كانت تُسْبِغُ ضَوْءَها حتّى على أصغر عائلة،
وعلى المرأة المتقدّمة في السنّ وعلى الفتاة الشّابّة المندهشة،
وكانت تعرف أن تمنح ألوانًا للأشياء بمجرّد ما تتّخذ مكانها،
وكانت تتبع الحصان الراكض وتتوقف بتوقفه،
ذاك كان الزّمن الذي لا يُنسى، زمنَ وجودنا على الأرض،
وقتها كان يُسمع صوتٌ إذا أُسقِط شيءٌ ما،
وكنا ننظرُ حوالينا بعيوننا العارفة، وآذاننا كانت تدرك
الفوارق الدقيقة في أحوال الهواء،
وحين كانت خُطَى الصّديق تدنو كنّا نعرفُ ذلك،
وكان بمقدورنا أن نلتقط من الأرض وردةً، وإذا شئنا حجرًا صقيلا.
في ذلك الزّمن، لم نكن نستطيع الإمساك بالدخان،
آه! إنه وحده ما تستطيع أيدينا أن تقبض عليه الآن!”

* أسْفار

لا أعرفُ ما أفعله اليومَ بالأرض
بهذه القمّة الجبلِيّة
في أوروبا، بهذا السَّهل في
أستراليا.
وهذا الفيل الذي يخرج
مِنْ نهر “الغانج”
والماء ينساب منه
يبلِّلني لدى مروره لكن ليس لديه
ما يعلّمني إيّاه.
فما الذي تستطيعه عين فِيلٍ أمام عينِ
إنْسانٍ عاقل
له قوَّة شرخ الشّباب؟
لا أدري ما أفعله بهؤلاء النّسوة
المنتشرات في كلّ مكانٍ تقريبًا
على الأرض الأكثر منهنّ
استدارةً.
يا نِساءُ، امضينَ إلى أشغالكنّ
تفادين التأخّر.

* أَمْر

أوقِفُوا الكلاب السّائرة في الطّرقات
ولتعد العربات التي تجرّها الثيران
من حيثُ أتت!
تلزم يَقَظة شبيهة بالتي للصّاعقة
المنتظَرة – فلتجلد الرّيحُ شديدةُ القسوة
الأرضَ بالعصافير، كاسرة
عظامها!
ما عدتُ أرغب، أيّها القلب الخائن، في تحيّاتك
وأنت بداخل صدري،
أريدك مثلّثا، وأن تُجفّف
تحت شمس خطّ الاستواء
مدَّة ثلاثين يومًا.
وبعدها،
لا تتركوا على الأرض ما يعلو
على سطحها.
اجعلوا منها طفلةً مَرعوبة،
ولتكن من دون أي سقف
عدا دورانها
حول نفسها

 

* استيقاظ

يرحلُ عنّي العالم،
فيا هذا البساط، ويا هذا الكتاب.
كلاكما يُغادر.
الشّرْفة تصبح غيمةً سارحة
بين مصراعي النّافذة.
آه! كلاًّ على حدة، ترحلُ الجدران الأربعة
مديرة لي ظهورها
تمضي بها أمواجٌ لا مرئيّة
مثلما زوارق ترى من بعيد.
السّقف يشتكي من قلبه – شَبيه
قلب النورس-
فهو ينقبض بداخله.
الأرضِيّة تتفرّس في شيءٍ ما مرعب
وخفيّ
وتطلق صرخة،
كما لو أنّ شخصًا سقط في البحر
مِنْ صارٍ لا مرئيٍّ.
أَشعر بالجهد الذي يبذله العشب الأخضر
السّاهر تحت كلّ ذلك الثّلج
وبمجهود العقل
داخل النّفس التي تحميه.
صوتٌ يقول: “أَزِفَ الوقت”.
وآخرُ يُردف: “أسمعُ حركةَ مَجيئِه!”
أعرف ما يريدُ قولَه هذان الصّوتان الجميلان
اللذان يجْرفهُما التيّار.

* لكلّ سِنّ بيت

كلّ سنٍّ يُلائمه بيتٌ معيّن. لا أدري أين أنا،
أنا الذي لا سَقْفَ لي سوى همومي الخاصَّة.
الأرضِيّة معروفةٌ لديّ، فأنا أمشي على نفسي،
والجُدران هي جِلدي وقد ابتعد عنّي
مسافةً لا بأسَ بها.
ينْحني عليّ الهواء، جبينُه ليس من هنا،
إنّه يجيءُ إليّ من أنايَ الذي بالكاد
قد توفّي.
………………………..

* Jules Supervielle شاعر وروائي، وُلِد في مدينة مونتِڤيديو (بالأورغواي) سنة 1884، ودَرَس في فرنسا حيث قضى أغلب سنوات عمره، وهو حامل لجنسيّتي البلدين المذكورين.

من أعماله الشعرية: “قصائد الفكاهة الحزينة”، “جاذبيّة، يليه أرصفة موانئ”، “حكاية العالَم الخُرافِيّة”، “الأصدقاء المجهولون”… ومن رواياته: “سارق الأطفال”.له أيضاً مسرحيات. توفّي سنة 1960.

 

مقالات من نفس القسم