:ـ ممكن فتاة محترمة للتعارف الجاد ؟
لم أجرب مرة واحدة ، أبحث عن قريتي بين القرى ، أبحث عن رائحة الزرع ، عن الرجال … الرجال ، عن عبير التي احمر وجهها عندما قلت أحبك .
……………..
ـ أسمي حنان
ـ عمرك ؟
ـ 14
ـ من أي بلد ؟
ـ ليبيا
جسدي تخلص من القلب .. يبحث عن جسد ضال .. يريد أن يسرق حقه .
*****
لمح حارس الأمن الأوراق في يدي .. ابتسم ثم أبلغني بأنه لا يوجد بالشركة عمل
.. ويبدو أنه لمح الدمعة اليتيمة في عيني اليمني فقال بابتسامة
:ـ تعال الأسبوع القادم ربما !
هو نفس الزى ونفس الجسد ونفس الابتسامة تنتظرني علي أبواب المصانع والشركات والحقول … هي فقط التي تركتني يتيما … أحسد العصافير علي الفضاء .. هو هو صوتي المتقطع الذي يبعثر اسمها في الفضاء … عب …ي..ر ، تسقط الحروف فوق رأسي حزينة ، صوت أبي يخترق أذني اليسري ” أصبحت مثل الثور تستطيع جر ساقية .. ابحث عن مستقبلك ” تكاد الدموع تخونني ” لم يعد هناك مستقبل يا أبي ولم تعد هناك سواقٍ ، هناك ماكينات تقتل الصمت وتغتصب الفضاء وهناك أيضا كيماويات ومبيدات مسرطنة أكلت كبدك وكليتك .
غرفة الشات تجذبني إلي صدرها الحجري
:ـ ” ممكن فتاة للتعارف الجنسي ؟!
هل خلقت من هذا التراب الملوث بالكيماويات ؟! ألهذا السبب خلقت بقلب مريض وجسد مشوه وعقل لا يعمل ؟.
********
النياشين علي الحائط الخراساني باهتة رغم محاولات أمي اليومية لجعلها تعكس أشعة الشمس ، أخشي أن أدوس تاريخ أبي … أن أصنع شرخا في حكايات جدتي ، أميل إلي الأمام .. إلي اليمين … إلي اليسار …… أبصق علي نفسي ، أدفع جسدي وسط الأجساد التي تتزين بملابس شبه عسكرية ، أمني نفسي بصيد ثمين ، لن أقبل أقل من ساق ناعمة مكشوفة ، ذراع يحيي الرجولة … أبحث عن انتصار أحققه لجسدي الثائر ، أبصق علي النياشين ( لك النياشين يا أبي .. حاربت من أجل هذه الأرض التي تلوثت … دعنى أحارب من أجل جسدي .. من أجل صورة عارية ) .
*******
تظهر الكلمات ملونة وكبيرة وملفتة للنظر في غرفة الشات
ـ ” ملعون أبو الحكام العرب “
ابتسم، أصابعي تسرع
ـ ممكن فتاة … أي فتاه .. للتعارف الجنسي “
قلبي يدق وأنا أراقب الغرفة .. كاد قلبي يتوقف وأنا ألمح
ـ ممكن
يدي اليسري وحدها تتحرك بسرعة … اليمني تجذبها .. حكايات أبي تحوم حول عقلي ” الحرام حرام ” يدي اليسري تقاوم .. اليمني تجذب أكثر ، عقلي يدور بسرعة مذهلة … جدتي تحدثني عن الصبر والجائزة الكبرى .. أبي يزوم … أمي تبكي ، تفلح يدي في الوصول إلي لوحة المفاتيح .
ـ ممكن علي الخاص ؟
ـ ممكن
******
يا حبيب ازرع شجرة تثمر لك ولأحفادك … حاضر يا جدتي .. يا حبيب النظافة من الأيمان ..حاضر يا أستاذي … يا حبيب العلم سلاح في يدك ينفعك في معركة الحياة … حاضر يا أبي يا حبيب الأخلاق والأدب ينفعا صاحبهما … حاضر يا أمي … يا حبيب الإنسان موقف .. حاضر يا خالي … السلام خيار استراتيجي … حاضر سيادة المذيعة … يا حبيب يا يا يا يا … حاضر … حاضر … حاضر …)
********
صدر المذيعة جعلني أثبت قناة الأخبار … تتحدث عن السلام مع إسرائيل .. عن القضية الفلسطينية … غزو العراق .
أتنهد ” حرام مُزة مثل هذه تقدم هذه الأحداث العنيفة !! هناك ما هو أعنف من هذه الأحداث يتم فوق الأسرة
الابتسامة تحتل وجه أبي
” انتصرنا في 73 بسبب الإيمان والقوة … جيل فاسد لا يستطيع الانتصار علي ذبابة …” . لساني يحاول مغادرة وكره ، أضغط عليه بأسناني ، يحاول ، أضغط ، الكلمات تتسرب إلي أعماقي ” لسنا في حاجة إلي حرب ، نحن نسرق حقوقنا بأقل الخسائر ” . تغيب المذيعة وتنطلق المطربة العارية من يمين الشاشة … ساق مكشوفة إلي ما فوق الركبة بمسافات … تمرر يدها اليسرى علي نهدين تحررا ، وتنطلق يدها حتي تصل شفة تهزم المتماسك .
يصرخ أبي :ـ غير… هات قناة إخباريه … إيه الخيبة دي .. جيل فاسد … فين الغنا ؟ الله يرحمك يا ست!! ……
قلبي يدق بسرعة زائدة ، الصوت يتمدد داخلي ، أوشكت علي الانفجار …
:ـ ست ايه يا راجل … وقناة إخبارية اية …. كلام في كلام … ايه اللي اتغير ؟! ولا حاجه قاعد جنبك أهو من غير شغل … سبني أسرق بصه تنفعني .
******
أشير بإصبعي ناحية الأرض الخربة ، عيني تصطنع عدم الرؤية ، يدي لا تتحرك ، هذه الأرض كانت لقومي ، يزرعون القمح والذرة والبرسيم ، بيوتهم من طين الأرض الدافئ ، كانوا يزرعون فقط ثم ينتظرون الرجل الأنيق الذي يأتي من البلاد البعيدة التي لا تعرف شيئا عن الطين والجوع والليالي المظلمة … أبي يحكي .. يقول : جدك ورثني الحكي … أحاول أن أقاطعه وأستأذن للخروج .. طارق ينتظرني بالمقهى .. صوته يرتفع أكثر
:ـ وكان الإنجليز في كل مكان ينهبون ويهتكون الأعراض
مالي ومال الإنجليز والباشوات ؟ يا أبي أتركني أذهب إلي طارق .. استطاع أن يحصل علي فيلم جديد لأناس عراه … هو ينتظرني علي نار وأنا متحمس جدا لهذا لمشاهدة …هذا الانتصار الساحق … يصرخ
:ـ أنا شاركت في حرب 73 وجدك شارك في حرب 48 تقدر تقول لي عملت ايه في حياتك ؟
:ـ أنا شاركت في تسوية الفول والعدس لمده سنه في الجيش
يبصق علي وجهي ، أضحك ، أخرج مسرعا قبل أن يعرقلني صوته ،الباب يصرخ خلفي ، جسدي يسرع إلي المقهى ، أستعيد صدر مذيعة الأخبار ، يجذبني طارق من يدي .. أجلس مستسلما
:ـ فين الـ cd
:ـ اسمعني الأول
:ـ ايه ؟!
:ـ حنروح أنا وأنت بكره حزب المصري الجديد
:ـ خير إن شاء الله حنشتغل في السياسة ؟!!!!
:ـ لا يا غبي حندخل الحزب وبعد فتره نطلب إنهم يشغلونا ولو بوابين
:ـ وأخبار الــ cd
:ـ تمام
جذبني من يدي إلي غرفته النائمة فوق السطح … المسافة تطول ، جسدي يطير فوق الرؤوس ، العينان تستعدان للمعركة ، أتجاهل صوت المؤذن بإشعال سيجارة ، صوت التلفاز يغزو غرفتي منطلقا من غرفة الجيران ” كيف تصبح مفيدا لدينك ولمجتمعك ” يبحث طارق عن كوب نظيف ، يجمع حبات الشاي المستعملة من قبل، وكان قد وضعها فوق غلاف كتاب (وصف مصر) كي تجف من جديد ، يرتفع صوت الشيخ ” الالتزام بتعاليم الدين ، طاعة الله ورسوله ، عدم الانشغال بالدنيا الفانية وإغراءاتها وفتنتها … يا جماعة الإنسان بيعيش في الدنيا ولو طال عمره فهي حياة قصيرة أما الجنة فهي الخلود والنعيم “
طارق يبحث عن زجاجة بها ماء نظيف ، أبحث بين الأوراق المبعثرة علي الــ cd ، أراقب المارة من النافذة ، المؤخرات تهتز تحت ملابس ضيقة فقيرة ، عيون تبحث عن إشارة تأتي من خلف زجاج سيارة فارهة ، يد تمر فوق شعر مصبوغ ، أجبر بصري علي العودة إلي الداخل …. أتجمد … من بعيد أراقبه عبر شاشة التلفاز القديم بغرفة جيران السطح … وسيم يرتدي بدلة، الجالسون أمامه يرتدون ملابس أنيقة ، يتحدث عن التوبة ورحمة الله الواسعة ، عن العمل للآخرة “
صفعني صوت طارق
ـ أسمع يمكن ربنا يهديك !
أرسلت بصري في رحلة قصيرة للبحث عن الـ cd ، عقلي يدور بسرعة مذهلة
ـ لو امتلكت بدلة، والمقابل الذي يحصل عليه من هذه الحلقات لزهدت في الدنيا وما فيها .
بيده يخبط طارق صدري وبالاخري يناولنى كوب الشاي المر ، يبتسم
ـ إيه الجديد ؟
أفتش في رأسي ، أهز النخيل العالي ، أجري بين الأشجار ، مساحات شاسعة من الأراضي الخضراء ، الماء من حولي يفيض ، هواء نظيف يحاصرني .
هزني بقوة ” ايه رحت فين ؟!
ـ أبداً
وضع أمامي استمارة الحزب ، أشار إلي القلم ، كوب الشاي يتراقص ، اسمي يلوث الاستمارة ، تاريخ ميلادي غير مرتب ، مؤهلي يضحك ، تتوقف يدي عند
” خبرات وقدرات يمكن توظيفها في الحزب ، أهمس
” أكتب بواب “
ضحك وهو يفتش داخل الفراغات الكثيرة عن حروف ضالة ويذكرني بكوب الشاي .
ــــــــــــــــــــــــــــ
الناشر دار الدار القاهرة 2009